كان لندن النموذج الأولي الذي سيبني عليه الرواة الأمريكيون مثالهم للبطولة، فهو الجذر الذي نبت منه لاحقًا هيمنجواي ودوس باسوس وكيرواك، وربما حتى هـ. س. طومسون. 

نداء البرية لجاك لندن (1903)

مقال روبرت مكروم

ترجمة أسماء السكوتي

عن كتاب "أفضل مئة رواية في اللغة الإنجليزية" الصادر عن كتب مملة بالتعاون مع دار هن للنشر والتوزيع


جاك لندن، عن الجارديان

إن رواية "نداء البرية"، وهي مغامرة قصيرة عن كلب التزلج بَك (ثمرة التزواج بين كلبين من فصيلتي سانت برنارد والشيبرد الاسكتلندي)، من أغرب وأغنى النصوص القصصية في هذه السلسلة. لا يختلف الكاتب كثيرًا عن نصه؛ ذلك أنه كان فريدًا من نوعه كذلك. لقد كان جاك لندن مستقلًا باسلًا، وابنًا لأب من الرحالة المنجمين وأم روحانية. وقد بدأ حياته مجرمًا، تخصص في نهب المحار في خليج سان فرانسيسكو، أما ككاتب، فقد توهج لبرهة قصيرة؛ فعاش حياة امتزجت فيها القسوة بالرعونة ليموت من المخدرات والكحول في سن الأربعين، ورغم ذلك كتب خمسين كتابًا في عشرين عامًا.

كان لندن النموذج الأولي الذي سيبني عليه الرواة الأمريكيون مثالهم للبطولة، فهو الجذر الذي نبت منه لاحقًا هيمنجواي ودوس باسوس وكيرواك، وربما حتى هـ. س. طومسون. يصفه جورج أورويل بأنه كان "مغوارًا عاش الحياة بدل الاكتفاء بالكتابة عنها، ولم يشبهه في ذلك إلا قلة قليلة من الكتاب". وجد لندن صوته الأدبي حينما التمس نموذج أستاذه كيبلينج في "كتاب الأدغال"، ليكتب عن كلب تعلم كيف يعيش على حدود الحضارة. لقد كانت هذه الحكاية وسيلته ليعبر عما اكتشفه من جوهر الطبيعة الإنسانية في مواجهة القرن العشرين الذي أثقل على الشباب الأمريكي بمقتضياته ودعواته التجديدية. هكذا، يغدو مخلوق لندن الأسطوري جوابًا على تحديات الحداثة المعقدة.

يكتشف القارئ بَك في البداية ككلب أليف ووفي لصاحبه القاضي الكاليفورني. لكن هذه الوضعية المثالية ما تلبث أن تنقلب حين يسرقه البستاني ويبيعه ليوفي إحدى ديون مقامراته. هكذا، ينتقل بَك بين سلسلة من الملاّك الممثلين لنخبة البشر ورعاعهم؛ إذ يباع في البداية ككلب آلاسكي لجر المزالج لجماعة من مستعبدي الكلاب، ثم ينتقل من بعدها إلى يوكون في تسعينيات القرن التاسع عشر في ذروة حمى ذهب كلوندايك (مكان خبِره الكاتب عن قرب)، وينتهي به المآل أخيرًا بأن يصبح ملكية لابن الطبقة العاملة الذي لا يكاد يعرف شكل الإقامة بين الجدران، جون ثورنتون، الذي لمح سمات بَك المميزة وارتبط به بعمق وعاطفة صادقتين.

في النهاية، وبعد مغامرات كثيرة وقاسية وأحيانًا على مشارف الموت، ينقذ بَك ثورنتون من الغرق، لكن الأخير ما يلبث أن يُقتل على يد  هنود "الييهات"، وعندها يستسلم بَك لطبيعته الحقة ويجيب نداء البرية بالانضمام إلى قطيع ذئاب، حيث "البشر، وادعاءات البشر، لم تعد تقيده". في هذه اللحظة، لم يعد لندن يكتب عن الكلاب وحدها؛ بل أصبح ينطق عن إيمانه الصميم، والذي يدين شيئا ما لروسو، القائل إن البشرية في حالة نزاع دائم وإن الصراعات الوجودية هي ما تجعل الطبيعة الإنسانية أقوى.

قد تبدو عناوين فصول لندن، مثل "نحو البدائية" و"قانون الهراوة والمخلب" و"الوحش المهيمن البدائي"، هي ما يحرك أجندته الأدبية، لكن في الحقيقة، ما خلّده هو إلحاح وحيوية أسلوبه، بالإضافة إلى تماهيه الخارق مع العالم الذي وصفه. من ثم، كانت قدرته على شد قرائه إلى القصة بغض النظر عن مستواهم الفكري سببًا في إلهام أجيال وأجيال من الكتاب الأمريكيين. ولهذا وحده، يستحق منا أن نذكره اليوم.

ملحوظة على النص

ظهرت "نداء البرية" في البدء مسلسلة في جريدة ساترداي إيفيننج بوست في صيف 1903 لتحقق نجاحًا مبهرًا منذ أول وهلة. لكن لندن الذي كان يحلم بشراء سفينة شراعية قديمة ما لبث أن باع حقوقه التأليفية لأول عرض مقابل 2000 دولار. هكذا، نُشرت الرواية ككتاب في الولايات المتحدة مع دار نشر ماكميلان، بواسطة جورج بريت؛ الناشر الذي لعب دورًا فاصلًا في نجاح لندن كروائي.

لكن لندن الذي أثار تهليلًا واستحسانًا بين ليلة وضحاها ما لبث أن أثار الغيرة كذلك؛ ومن ذلك أن روائيًا منسيًا يدعى إيجرتون رايرسون يونج اتهمه بسرقة نصه المنشور في 1902 والمعنون "كلابي في نورثلاند". ولم يكن من لندن إلا أن اعترف بفضل هذا النص وإلهامه له، ولكنه دحض التهمة بإعلانه للمراسلات التي تبادلها مع يونج في هذا الموضوع.

ولنختم بشهادة الناقد ذي النظرة الثاقبة هنري لويس منكن الذي قال: "ما من وجود لكاتب حقق شعبية في حياته وكتب أجمل مما نجده في نداء البرية.. تكمن هنا بالطبع كل مقومات الرواية الحقة: التفكير الدقيق، الإحساس بالشخصية، الغريزة الدرامية، وفوق كل شيء، النظم البارع للكلمات. كلمات سحرية ومعبّرة بمكر ومنظمة في عبارة فرنسي من أجل تنفسها وسماعها".