لديَّ الكثير لقوله، واليوم لا يتسع قلبي بما يكفي. هنالك الكثير لقوله حول ما حدث لنا هنا، وحول ما حدث لي أيضًا، بموت جيل دولوز
عليَّ أن أتجول وحيدًا: رثاء دريدا لدولوز
نُشرت هذه المقالة في مجلة Philosophy Today ربيع 1998
ترجمة ليونارد لولر إلى الإنجليزية
ترجمة: مصطفى عثمان
بدايةً من 1980، أضحت تيمة الحداد محورية لدى دريدا بعد وفاة رولان بارت في نفس العام[1]. بالنسبة للأخير، يُذكر أنه استشهد ذات مرة بعبارة لميشيله مؤرخ الثورة الفرنسية: "التكهل، هذا الانتحار البطيء" إذ تزايد غمه بعد وفاة أمه في الصيف السابق لموته. علاقة دريدا كانت أقوى ببول دي مان، وليفيناس وموريس بلانشو مثلًا من علاقته بجيل دولوز. كتب دريدا في 1983 "ذكريات: لأجل بول دي مان"، وما يشترك فيه نصي دريدا هو القول بنوعٍ من الحداد المستحيل: فإن الآخر بما هو آخر-ي ولي -أي من نوعي- يستعصي على اللغة ويراوغها.
إن كل موت هو حدثٌ فريدٌ وأسلوبٌ، أو بعبارة دريدا: "هي فريدةٌ دومًا، نهاية العالم". لذلك كل موت هو حبسة لغوية. أما ميتي بما هو آخر-ي ميتًا، يستهل حدادًا مستحيلًا بموته ويتزود بخصائص شبحية ويغدو قاطنًا دائمًا في الذاكرة المفجوعة -الفاجعة، بتعبير بلانشو: "الأفول الذي يسم التيه حين تنقطع الصلة بالمصادفة العلوية"[2]- لأن الميت لا ينفك يأخذ بالصيرورة إلى مداها، متعاليًا على الموت نفسه بصيرورة مجتزئة (صيرورة-الميت) تموضعه في الذاكرة مع أشباحٍ آخرين لتقلد مهامه القادمة في مستقبلي.
واستزادةً في الإمعان في الحداد، والموت، والأشباح، رفض دريدا أن يسلم بالحكمة الشيشرونية القائلة بأن معنى التفلسف يكمن في الموت وإن كان يميل إلى اعتبارها صحيحة. افتتح دريدا كتابه "سياسات الصداقة" بعبارة شيشرون: "وأصعب من ذلك كله، عيش الموتى". ونُشر في 2005 بعد وفاة دريدا مقابلته الأخيرة بعنوان "تعلمت أخيرًا كيف أحيا"، صرح فيها بأنه لم يتعلم حقيقةً كيف يحيا، فتعلم الحياة يعني أساسًا أن نأخذ في عين الاعتبار الموت، والتناهي المطلق، أي غياب أي خلاص، أو بعث أو تكفير ذنب سواء أكان لي أو للآخر. أي بطريقة ما، تعلم الحياة ينطوي على نوع من الانفتاح تجاه صداقة مع الموت، لأننا "ناجون مع تأجيل التنفيذ".
في آخر عمل مشترك له مع فيليكس جواتاري: ما الفلسفة، حدد دولوز ما سيغدو نوعًا من التبرير الاستباقي لانتحاره عام 1995، فإن -طبقًا لدولوز- كل حدث مشابه للموت، مزدوج ولا شخصي في ازدواجه، أي لا يفرق بين ما هو في الداخل وما هو في الخارج، والموت نفسه هو هاوية الحاضر، فإن الزمن الذي لا حاضر له، يستحيل الموت فيه، ففيه أستغني عن إرادتي أن أموت: ففي هذه الهاوية يموتون- لا يتوقفون أبدًا عن الموت ولا ينجحون أبدًا في الموت. أي أن دولوز انتحر حينما انتهت حياته، وتعثرت إرادته: موتي كان موجودًا من قبلي، جئت لأجسده.
ما جمع دريدا ودولوز، وإن لم يكن له طبيعة شخصية خالصة، بما أن علاقتهما كانت أقرب للسطحية وإن اتسمت باحترام متبادل، كانت له طبيعة نظرية أكثر متانة: نزوع إلى مرح بصيغة "نعم، نعم" المؤكدة على الحياة، وهو ما استقاه كلاهما من نيتشه، وبراءة أسلوب مفتوح على العالم الخام، في صيرورة دائمة، -أي أسلوب يضع نفسه في قلب لغته دافعًا بها حد التلعثم، أو حد الموسيقى،- ووضوح هو في الأساس نتاج رصانة مضطردة.
المترجم
لديَّ الكثير لقوله، واليوم لا يتسع قلبي بما يكفي. هنالك الكثير لقوله حول ما حدث لنا هنا، وحول ما حدث لي أيضًا، بموت جيل دولوز، بموت كنا بلا شك نخشاه (فكنا نعلم بمدى مرضه)، ولكن مع ذلك، بهذا الموت-هنا، هذه الصورة الفائقة للخيال، في الحدث (event)، ستُعَمق، إذا كان ذلك ممكنًا، الأسى اللانهائي لحدث آخر. كان دولوز المفكر، في المقام الأول، مفكر الحدث ودائمًا هذا الحدث-هنا. لقد ظل مفكر الحدث من البداية للنهاية. لقد أعدت قراءة ما قاله حول الحدث، بالفعل في 1969، في واحد من أشهر كتبه "منطق المعنى". يستشهد بجو بوسكيه الذي يقول: "إلى نزوعيّ نحو الموت الذي كان فشلًا في الإرادة استبدلتُ اشتياقًا للموت الذي هو تأليه الإرادة"، ثم يستكمل: "من هذا النزوع إلى هذا الاشتياق لا يوجد، من جانب ما، أي تغير عدا تغير الإرادة، نوع من الوثب المكاني للجسد بأكمله الذي يستبدل إرادته العضوية بإرادة روحانية. إنه يريد الآن ليس بالضبط ما يحدث، ولكن شيئًا داخل ذلك الذي يحدث، شيء لم يأت بعد ولكنه متسق مع ما يحدث، طبقًا لقوانين توافق غامض وهزلي: الحدث. بهذا المعنى يصبح حب القدر (Amor Fati) متحدًا مع كفاح الأحرار من البشر". (سيتعين على المرء أن يستعين بالاقتباسات بلا نهاية).
يوجد الكثير لقوله، نعم، حول الوقت الذي مُنِحته، مع الكثيرين من "جيلي"، لكي أشاطره مع دولوز؛ حول حظي السعيد في التفكير -والفضل يعود له- بالتفكير فيه [دولوز]. منذ البداية، كل كتبه (ولكن بدايةً نيتشه، الاختلاف والتكرار، منطق المعنى) لم تكن بالطبع مجرد استفزازات للتفكير، ولكن، كل مرة تلك التجربة المقلقة، المقلقة جدًا -المقلقة للغاية- بالمجاورة أو الانجذاب شبه التام تجاه "الأطروحات" -إذا ما أمكن للمرء قول ذلك- خلال المسافات الواضحة بيننا فيما ما أسميه، لعدم وجود شيء أفضل، "إيماءة"، "إستراتيجية"، "طريقة": للكتابة، للحديث، وربما للقراءة. فيما يخص "الأطروحات" (ولكن الكلمة ليست مناسبة) وبالتحديد الأطروحة حول الاختلاف غير القابل للاختزال إلى مقابلة ديالكتيكية، اختلاف "أكثر عمقًا" من التناقض (الاختلاف والتكرار)، اختلاف في التأكيد المتكرر ببهجة ("نعم، نعم")، بأخذ الاصطناع (Simulacrum) في عين الاعتبار، يظل دولوز بلا شك، على الرغم من الاختلافات العديدة، الذي اعتبره الأقرب [لي] من بين كل "جيله". لم ينتابني أبدًا أدنى "اعتراض"، حتى لو كان افتراضيًا، تجاه أي من خطاباته، حتى وإن حدث في بضع مناسبات أن أتذمر ضد هذا أو ذاك الاقتراح في أوديب مضادًا (لقد اخبرته بذلك يومًا ما حين كنا عائدين سويًا بالسيارة من جامعة نانتير، بعد دفاع عن أطروحة عن سبينوزا) أو ربما ضد فكرة أن الفلسفة تكمن في "خلق" المفاهيم. يومًا ما، أود أن أوضح كيف لاتفاق كهذا بخصوص "المحتوى" الفلسفي لا يستثني كل هذه الاختلافات التي لا أعرف حتى اليوم كيف أسميها أو أموضعها. (كان دولوز قد وافق على فكرة نشر حوار مرتجل طويل بيننا حول هذا الموضوع ثم اضطررنا أن ننتظر، أن ننتظر أكثر من اللازم). أعلم فقط أن تلك الاختلافات لم تترك مساحة بيننا إلا للصداقة. على حد علمي، لا ظِل، ولا علامة أشارت أبدًا إلى النقيض. إن شيئًا مثل هذا كان نادرًا في بيئتنا لدرجة أنني أريد أن أشير إليه الآن. لم تنشأ هذه الصداقة فقط من الحقيقة (الواضحة) أنه كان لدينا نفس الأعداء. كنا نلتقي قليلًا، هذا حقيقي، خاصةً في السنين الأخيرة. ولكنني أستطيع أن أسمع صوت ضحكته، متحشرجة قليلًا، تخبرني الكثير من الأشياء التي أحب أن أتذكرها بالحرف: "مع أطيب تمنياتي، مع أطيب تمنياتي"، همس لي بسخرية ودودة في صيف 1955 في ساحة السوربون بينما كنت على وشك الرسوب في اختباري النهائي. أو، بنفس عناية من هو أكبر سنًا: "يؤلمني أن أراك تقضي كل هذا الوقت في تلك المؤسسة (الكلية الدولية للفلسفة). كنت أفضل أن تقضي وقتك في الكتابة". ومن ثم، أتذكر الأيام العشرة التي لا تنسى من ندوة نيتشه في سيريسي في 1972، ومن ثم الكثير والكثير من اللحظات التي تجعلني، بلا شك مع جان فرانسوا ليوتار[3] (الذي كان هناك أيضًا)، نشعر أننا وحيدان تمامًا، باقيان وكئيبان اليوم فيما يسمى بتلك الكلمة المروعة والزائفة نوعًا ما، "جيل". كل موت فريد، بالطبع، ولذلك استثنائي، ولكن ما يمكن أن يقوله المرء حول الاستثنائي عندما يتضاعف [الاستثنائي] من بارت إلى ألتوسير، ومن فوكو إلى دولوز، بهذه الطريقة في هذا "الجيل"، كما لو كان في متسلسلة -ودولوز كان أيضًا فيلسوف التفرد التسلسلي- من تلك النهايات غير المألوفة؟
نعم، سنكون كلنا قد أحببنا الفلسفة. من يقوى على الإنكار؟ ولكنه صحيح، (كما قال)، كان دولوز الوحيد من بين كل "جيله" الوحيد الذي مارس الفلسفة بأشد بهجة، وبأقصى براءة. لم يكن دولوز ليحب، كما أظن، كلمة "مفكر" التي استخدمتها أنفًا. كان سيفضل "فيلسوف". بهذا الصدد، لقد زعم أنه "الأكثر براءة (الأكثر خلوًا من الذنب) في ممارسة الفلسفة" (مفاوضات)[4]. هذه البراءة كانت بلا شك الشرط لكي يترك أثرًا عميقًا في فلسفة هذا القرن، الأثر الذي سيبقى ملكه، لا يُضاهى. أثر فيلسوف عظيم وأستاذ عظيم. مؤرخ الفلسفة الذي سار بنوع من النسق المنتخب لجنيالوجيا خاصة به (الرواقيون، لوكريتيوس، سبينوزا، هيوم، كانط، نيتشه، برجسون، إلخ). كان أيضًا مخترعًا لفلسفة لم تنغلق على نفسها في "ملكوت" فلسفي (كتب عن الرسم، السينما، والأدب، بيكون، لويس كارول، بروست، كافكا، ميلفيل، إلخ). ومن ثم، من ثم أود أن أقول هنا تحديدًا إنني أحببت وأعجبت بطريقته -دائمًا بلا أخطاء- في التفاوض مع الصورة، الصحف، التلفاز، الحس العام والتحولات التي طرأت عليه على مدار السنوات العشر الماضية. اقتصاد وتراجع يقظ. لقد شعرت بالتضامن بما كان يفعله ويقوله في هذا الصدد، على سبيل المثال في حوار مع جريدة Libération في وقت صدور ألف هضبة (في سياق كتيبه عام 1977). قال: "على المرء أن يعرف بما يجري حاليًا في عالم الكتب. لعدة سنوات، ونحن نعيش في فترة من رد الفعل في كل المجالات. لا يوجد سبب لكي نتصور أن الكتب مستثناة من رد الفعل ذاته. الناس الآن في عملية تصنيع مساحة أدبية لنا، كذلك مساحات قضائية، واقتصادية، وسياسية هي بالكامل رد-فعلية، معدة سلفًا، وجارفة. يوجد، كما اعتقد، مؤسسية ممنهجة كان يجب على جريدة Libérationأن تحللها" إن ذلك "أسوأ بكثير من فرض رقابة" أضاف دولوز، "ولكن فترة الجفاف هذه لن تدوم بالضرورة." ربما، ربما.
مثل نيتشه وأرتو، ومثل بلانشو وإعجابات أخرى مشتركة، لم يغفل دولوز أبدًا عن هذا التحالف بين الضروري و التصادفي، بين الفوضوى والمفاجئ. عندما كنت أكتب عن ماركس في أسوأ اللحظات، من ثلاث سنوات، شعرت برحابة عندما علمت أنه كان يخطط لنفس الشيء، وبالأمس أعدت قراءة ما قاله في 1990 حول هذا الموضوع: "فيليكس جواتاري وأنا ظللنا دومًا ماركسيين، بطريقتين مختلفتين ربما، ولكن كلانا معًا. الأمر فقط أننا لا نؤمن بفلسفة سياسية لن تتمركز حول تحليل الرأسمالية وتطوراتها. ما يهمنا هو تحليل الرأسمالية باعتبارها نظامًا محايثًا يتمدد باستمرار، دافعًا نطاق سطوته، ثم يجدها من جديد على نطاق أوسع، لأن الحد هو رأس المال نفسه".
سأستمر في البدء مرة أخرى في قراءة جيل دولوز لأتعلم، وعليّ أن أتجول وحيدًا في تلك المحادثة الطويلة التي كان من المفترض أن نخوضها سويًا. سؤالي الأول، فيما أظن، كان سيخص آرتو، وتفسيره لفكرة "الجسد بلا أعضاء"، ولفظ "المحايثة" الذي أصرَ عليه دائمًا، لكي أجعله أو أدعه يخبرنا شيئًا يظل بلا شك سرًا بالنسبة لنا. وكنت سأحاول أن أخبره لماذا لم تفارقني أفكاره على الإطلاق، لما يقرب من أربعين عامًا. فكيف لها أن تفارقني من الآن فصاعدًا؟
[1] انظر: "ميتات رولان بارت" من الكتابة والاختلاف، ترجمة كاظم جهاد، دار توبقال، 2000
[2] كتابة الفاجعة، موريس بلانشو، ص 50، ترجمة عز الدين الشنتوف، دار توبقال، 2018
[3] بمناسبة وفاة دولوز في 1995، أرسل جان فرانسوا ليوتار رسالةً إلى صحيفة Le Monde: "كان أقوى من خيبات الأمل وأشد من السخط؛ تلك المشاعر السلبية. ففي نهاية القرن العدمية هذه، كان دولوز إيجابيًا حتى في مرضه ومماته. لم أتحدث عنه في صيغة الماضي؟ لقد ضحك، هو يضحك، إنه هنا. سيقول لي: ما هذا إلا حزنك أيها الأبله"
[4] Deleuze, Negotiations (Columbia University Press, 1997)
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه