كنتُ قد توقفت عن الذهاب إلى المسرح ثمانيةَ أسابيع أو عشرة، قلت لنفسي، وأنا أعرف لماذا لم أعد أذهب إلى المسرح، فأنا أرتاب من المسرح، وأكره الممثلين. المسرح ليس سوى وقاحة خادعة، خداع وقح، ثم فجأة عليّ الذهاب مجددًا إلى المسرح؟

أهي كوميديا؟ أهي تراجيديا؟

قصة لتوماس بيرنهارد

ترجمتها عن الألمانية: ليندا حسين

توماس بيرنهارد (1931-1989) من أهمّ الكتاب النمساويين، كتب الرواية والمسرح والقصة القصيرة والشعر. نال أرفع الجوائز الأدبية، وتُرجمت أعماله إلى أكثر من خمسين لغة. من أعماله "التحطيب"- رواية (1984)، "ساحة الأبطال"- مسرحية (1988)، إضافة إلى سيرتِه الذاتية التي نشرها في خمس روايات قصيرة حملت عناوين: السبب (1975)، القبو (1976)، النفَس (1978)، البرد (1981)، طفل (1982).  لم تترجم من كتب بيرنهارد إلى العربية سوى رواية "صداقة مع ابن شقيق فيتجنشتاين" ومسرحيّة "احتفال ليلة عيد ميلاد بوريس". القصة المترجمة هنا، مأخوذة من مجموعة "قصص" الصادرة عن دار زوركامب – برلين (1988)، والتي تضم مختارات من القصص القصيرة التي نشرها بيرنهارد بين عامي 1960 و1971، وفيها تتبدى بوضوح خصائص كتابة بيرنهارد التي يسودها الإحباط والكآبة، وأسلوبِه المعتمد على التباين والتضاد في الكلمات والمعاني، والتأرجح بين الفكرة ونقيضها.


توماس بيرنهارد، عن الجارديان

بعدَ مرورِ أسابيع كنتُ قد توقّفتُ خلالها عن الذهاب إلى المسرح، أردتُ البارحةَ الذهاب إلى المسرح، لكنّني خلال اشتغالي على بحثي العلمي، في غرفتي، وقبل بدء العرض بساعتين فحسب، سألتُ نفسي إنْ لم يكن عليّ بالفعل أن أمتنع عن الذهاب إلى المسرح. لم يعدْ واضحًا بالنسبة لي، إن كان هذا بسببِ الطّبّ أم على خلفيّة الطب الذي عليّ أخيرًا أن أنتهي منه، ليس من أجل والديّ بقدر ما هو من أجل رأسي المنهَك.       

كنتُ قد توقفت عن الذهاب إلى المسرح ثمانيةَ أسابيع أو عشرة، قلت لنفسي، وأنا أعرف لماذا لم أعد أذهب إلى المسرح، فأنا أرتاب من المسرح، وأكره الممثلين. المسرح ليس سوى وقاحة خادعة، خداع وقح، ثم فجأة عليّ الذهاب مجددًا إلى المسرح؟ إلى مسرحية؟ ماذا يعني هذا؟ أنتَ تعلم أن المسرح مزبلة، قلت لنفسي، وسوف تكتب عن المسرح دراستَك التي تدور في رأسك، هذه الدراسة المسرحية التي، مرة وإلى الأبد، ستوجّه صفعة إلى المسرح! ما هو المسرح، ما الممثلون، ما المؤلفون، ما المدراء، وهلم جرا.   

كانت سطوةُ المسرح تتزايد عليّ، بينما تتضاءل سطوةُ علم الأمراض، وباءت بالفشل محاولتي تجاهلَ المسرح والدفعَ بعلم الأمراض. لقد فشلت! فشلت! 

ارتديتُ ملابسي، وخرجتُ إلى الشارع.

أمامي نصفُ ساعة فقط للوصول إلى المسرح. في نصف الساعة هذا اتّضح لي، أنني لا أستطيع الذهاب إلى المسرح، أنّ الذهابَ إلى المسرح، إلى عرضٍ مسرحي، أمرٌ مُحال بشكل قاطع بالنسبة لي. 

أخذتُ أفكّر، حين تنتهي من كتابة دراستك المسرحية، عندئذ يحين الوقت، عندئذ يُسمح لك مجددًا بالذهاب إلى المسرح، كي تتيقّن من صحة بحثك! 

لكنْ كان مخجلًا بالنسبة لي، أنه أمكن للأمر أساسًا أن يصل إلى درجةِ شرائي تذكرةً لدخول المسرح – لقد اشتريتُ تذكرةً لدخول المسرح، ولم تأتِني هدية – وأنني طوال يومين عذّبتُ نفسي بفكرةِ، أنني سأذهب إلى المسرح، سأشاهدُ عرضًا مسرحيًا، وممثلين، وخلفَ كلّ هؤلاء الممثلين، مخرجًا بائسًا، نتنًا (السيد ت. ه.!)، سأشم رائحته، وغير ذلك... لكنْ فوق كل هذا، أنني بدّلتُ ملابسي من أجل المسرح. من أجل المسرح، بدّلتَ ملابسكَ، قلتُ لنفسي. 

الدراسة المسرحية، يومًا ما، الدراسة المسرحية! إنّ المرءَ يجيدُ وصفَ ما يكره، قلت لنفسي. 

في خمسة فصولٍ، أو ربما سبعة، تحت عنوان: المسرح – المسرح؟ ستُنجَز دراستي في وقت قصير. (ما إن تنتهي، حتى تقوم بحرقها، فمن العبث نشرها، ستقرأها، ثم تحرقُها، النشر سخيف، هدف ضائع) الفصل الأول: الممثلون، الفصل الثاني: الممثلون داخل الممثلين، الفصل الثالث: الممثلون داخل ممثلي الممثلين، وهكذا... الفصل الرابع: المبالغة على خشبة المسرح، وسوى ذلك... الفصل الأخير: إذًا، ما هو المسرح؟

في خضمّ هذه الأفكار وصلتُ إلى حديقة الشعب.

جلستُ على مقعدٍ بالقرب من قهوة ماياراي مع أنّ الجلوسَ على مقعدٍ في حديقة الشعب في مثل هذا الوقت من السنة قد يكون قاتلًا، ثم أخذتُ أراقب بانتباه، ومتعة، وتركيزٍ هائل، مَن، وكيف يدخلُ أحدُهم إلى المسرح.

أسعدني ألّا أدخل.                                                                                                                                   

لكنْ عليكَ أن تذهب إلى هناك، أخذتُ أفكّر، وأن تبيعَ، ترفّقًا بعوزك، تذكرتَك، اذهبْ إلى هناك، أقول لنفسي، وخلالَ تفكيري هذا، أجدها أعظمَ متعة، أن أسحقَ بين إبهام يدي اليمنى وسبّابتِها تذكرةَ الدّخولِ إلى المسرح، أنْ أسحقَ المسرح. 

في البداية، أقولُ لنفسي، تتزايد أعدادُ الناس الذين يدخلون المسرح، ثم تتناقص. بعد ذلك ما من أحد يدخل المسرح.

لقد بدأ العرض، أقول لنفسي، ثم أنهض وأمشي قليلًا باتجاه مركز المدينة. أشعر بالبرد، لم أتناول شيئًا، ثمّ - ولم أكن قد تكلّمت مع أحد طوال أسبوع - أنتبهُ حين كلّمني أحدُهم فجأةً، أنّ رجلًا قد كلّمني؛ أسمع رجلًا يسألني كم الساعة، وأسمع نفسي أصيح "الثامنة".

"إنها الثامنة"، أقول، " لقد بدأت المسرحية".

ألتفتُ الآن وأرى الرجل.

رجلٌ طويل ونحيل.

فيما عدا هذا الرجل، لا أحد في حديقة الشعب، أقول لنفسي.

ثم وعلى الفور، يخطر لي أنّ لا شيء لديّ لأخسره.

إلّا أن قولَ عبارة: "لا شيء لديّ لأخسره"، قولَها بصوت عالٍ، يبدو لي سخيفًا، لهذا لم أقل العبارة، بالرغم من رغبتي الهائلة في قولها.

لقد أضاعَ ساعتَه، أخبرني الرجل.  

"منذ أضعتُ ساعتي، أُضطر من وقتٍ إلى آخر إلى التحدّث إلى الناس".

يضحك.

" لو لم تضِع ساعتي، لما تحدّثتُ إليك"، قال، "ولا إلى أيّ أحد".

أخبرني الرجل أنه قد أثار اهتمامَه إلى أبعدِ حدّ مجردُ ملاحظةِ أنه، بعد أن أخبرتُه أنها الثامنة، قد عرف الآن أنها الثامنة، وأنه بالتالي قد مشى اليومَ إحدى عشرة ساعة من دون توقف – "من دون توقف"، قال – ماضيًا بفكرةٍ واحدة، "ليس جيئة وذهابًا" أخبرَني، إنما "نحو الأمام دائمًا"، قال لي، "لكنه كان دائمًا دورانًا في حلقة. جنون، أليس كذلك؟"

ألاحظ أنّ الرجلَ ينتعلُ حذاءً نسائيًا، وأنّ الرجلَ لاحظ أنني لاحظتُ أنه ينتعل حذاءً نسائيًا.

"أجل"، قال لي، "ربما تخطر الآن لك الخواطر".

"في الواقع" قلتُ له بسرعة كي أصرفَ انتباهَ الرجل وانتباهي عن حذائه النسائي، "كنتُ أنوي حضورَ العرض، لكنّني ما إن صرتُ أمام المسرح حتى عدتُ أدراجي، ولم أدخل".

"لطالما ذهبتُ إلى هذا المسرح"، أخبرني الرجل، وعرّف بنفسه، لكنّني نسيتُ اسمَه فورًا، فأنا لا أحفظ الأسماء. "ذات يوم، كانت آخرَ مرّة، مثلما يذهب أيّ شخصٍ إلى المسرح ذاتَ يوم لآخرِ مرّة، لا تسخر من ذلك!"، قال الرجل، "كلّ شيء يحدثُ ذاتَ مرّة لآخرِ مرّة، لا تسخر من ذلك!"

"ها"، قال لي، "ماذا يعرضون اليوم؟ لا، لا"، قال بسرعة، "لا تخبرني ماذا يعرضون اليوم...".

أخبرني الرجل أنه يأتي كل يوم إلى حديقة الشعب: "منذ بداية الموسم آتي دائمًا في هذا الوقت إلى حديقة الشعب، لأتمكّن من هنا، من هذه الزاوية، عندَ جدار قهوة ماياراي - كما ترى - من مراقبة مرتادي المسرح. أناسٌ غريبو الأطوار".

"بالطّبع، من المفترض أن يعرف المرء ماذا يعرضون اليوم"، قال الرجل، "لكنْ لا تخبرني ما الذي يعرضون اليوم. بالنسبة لي، مثيرٌ جدًا، ألّا أعرف لمرّةٍ واحدة ما الذي يعرضون. أهي كوميديا؟ أهي تراجيديا؟"، سألني، ثم أعقب فورا: "لا، لا، لا تخبرني ما هي. لا تقل لي!"

الرجل في الخمسين من عمره، أو في الخامسة والخمسين، أفكّر.

يقترح أن نذهب باتجاه البرلمان.

"لنذهب إلى البرلمان"، قال لي، "ثم نعود. صمتٌ عجيب يحلّ دائمًا حين يبدأ العرض. أحب هذا المسرح...".

مضى مسرعًا جدًا، وكان أمرًا لا يطاقُ بالنسبة لي، أن أشاهده في سيره هذا، فقد أثارت غثياني فكرةُ أنّ الرجل ينتعل حذاءً نسائيًا.

أخبرَني: "هنا أمشي كل يوم العددَ ذاتَه من الخطوات، هذا يعني، بهذا الحذاء أمشي من قهوة ماياراي حتى البرلمان ثم إلى سور الحديقة ثلاثمائة وثماني وعشرين خطوة بالضبط. بالحذاء ذي الإبزيم أمشي ثلاثمائة وعشر خطوات. وإلى الجناح السويسري – كان يقصد الجناح السويسري من قصر هوفبورج – أمشي بالضبط أربعمائة وأربع عشرة خطوة بهذا الحذاء، وثلاثمائة وتسعًا وعشرين بالحذاء ذي الإبزيم! الحذاءُ النسائي، ربما تعتقد أنه، وقد يكون بالنسبة إليك بالفعل أمرًا شنيعًا، أعرف هذا"، يقول الرجل.

"ولكنّني أيضًا لا أخرج إلى الشارع إلّا في العتمة. أنْ أذهب إلى حديقة الشعب كلَّ مساء، في هذا التوقيت، دائمًا قبلَ العرض بنصفِ ساعة، ناجمٌ، كما قد يخطر لك، عن صدمة. لقد مضى الآن على هذه الصدمة اثنتان وعشرون سنة. وهي وثيقةُ الصّلةِ بالحذاء النسائي. حادثة"، قال لي، "حادثة. إنها أجواء تلك الحادثة تمامًا: الستارة المفتوحة لتوّها في المسرح، الممثلون بدؤوا التمثيل، الخارج وقد خلا من الناس... لنذهب الآن إلى الجناح السويسري"، قال الرجل بعد أن عدْنا إلى قهوة ماياراي. 

مجنون؟ سألتُ نفسي ونحن نمضي جنبًا إلى جنب إلى الجناح السويسري، قال الرجل: "العالم تمامًا، وبالضبط، أولًا وآخرًا، يحكمه القانون، ما لا تعلمه ربما. العالم ليس إلا شريعة جبارة. العالم سجن!"

قال لي: "لقد مضى بالضبط ثمانية وأربعون يومًا على آخر مرة قابلتُ فيها شخصًا هنا في حديقة الشعب، في هذا التوقيت. ذلك الشخص أيضًا سألتُه كم الساعة. ذلك الشخص أيضًا أخبرني أنها الثامنة. عجبًا أنني أسأل دائمًا عند الساعة الثامنة، كم الساعة. ذلك الشخص أيضًا سار معي حتى البرلمان، ثم إلى الجناح الروسي. بالمناسبة"، قال لي الرجل، "أنا، هذه هي الحقيقة، لم أضيّع ساعتي. أنا لا أضيّع ساعتي. انظر، ها هي ذي"، قال لي، ومدّ أمامي معصمه كي أتمكن من رؤية ساعته. "حيلة!"، أخبرني، "لنعد إلى موضوعنا: هذا الشخص، الذي قابلتُه قبل ثمانيةٍ وأربعين يومًا، كان بعمرك. مثلك صامت، مثلك تردد في البداية، ثم قرّر الذهاب معي. طالب علوم"، قال الرجل. "هو أيضًا قلت له إن صدمةً، حادثةً، وقعت منذ زمن بعيد، هي السبب الذي يدفعني لأن أتوقف كل مساء هنا في حديقة الشعب. بحذاء نسائي. ردة فعل." قال الرجل، و"بالمناسبة، لم أر شرطيًا هناك أبدًا. تتحاشى الشرطة منذ عدة أيام حديقة الشعب، وتركّز على حديقة المدينة، وأنا أعرف السبب...".

"سيكون الآن مثيرًا للاهتمام"، قال، "أن نعرف في هذه اللحظة التي نتّجهُ فيها نحو الجناح السويسري إن كان ما يُعرضُ في المسرح كوميديا أم تراجيديا... هذه أول مرة لا أعرف فيها ما الذي يُعرض. لكن عليك ألا تخبرني..." ، قال لي "كلا، لا تقل لي! إنه ليس بالأمر الصعب - بينما أدرسك، مركّزًا عليك، منشغلًا بشكل كامل بك وحدك - أن أعرف إن كان ما يُعرض في المسرح، هذه اللحظة، كوميديا أم تراجيديا. أجل"، قال لي، "شيئًا فشيئًا، ستبيِّن لي دراستي لشخصك كلَّ ما يجري في المسرح، وكلَّ ما يجري خارج المسرح، كلَّ ما في العالم، المتعلقِ بك كليًا. في النهاية يمكن أن تأتي حقًا تلك اللحظة التي، ومن خلال دراستي الأكثف لك، سأعرف فيها كل شيء عنك...".

عندما صرنا أمام سور الجناح السويسري، قال: "هنا، في هذا الموضع، فارقني الرجل الذي قابلته قبل ثمانية وأربعين يومًا. تريد أن تعرف كيف؟ حذارِ! آه!"، قال لي، "كأنّك لن تغادر؟ لن تقول طابت ليلتك؟ نعم"، قال، "إذًا دعنا نرجع من الجناح السويسري، إلى المكان الذي أتينا منه. لكنْ من أين أتينا؟ أجل، نعم، من قهوة ماياراي. الغريب في البشر، أنهم باستمرار يخلطون بين أنفسهم والآخرين. إذًا"، قال، "أردتَ اليوم حضور العرض. مع أنك، كما تقول، تكره المسرح. أتكره المسرح؟ أنا أحب.." الآن أنتبه أن الرجل كان يعتمر أيضًا قبعةً نسائية، الأمر الذي لم أنتبه له طوال الوقت.

كذلك معطفه الذي ارتداه، كان معطفًا نسائيًا، معطفًا شتويًا نسائيًا.

إنه في الحقيقة لا يرتدي إلا الملابس النسائية، أخذتُ أفكر.

"في الصيف"، قال، "لا أذهب إلى حديقة الشعب، إذ لا عروض مسرحية حينذاك، لكن، دائمًا، حين تُقدَّم العروض في المسرح، أذهبُ إلى حديقة الشعب، إذ حين تُقدَّم العروض، يتوقف الجميع، إلا أنا، عن الذهاب إلى حديقة الشعب، فحينها تكون حديقةُ الشعب شديدةَ البرودة. يدخل شبابٌ فرادى إلى حديقة الشعب، وعلى الفور، كما تعرف، أتحدّث إليهم، وأطلب أن نمضي معًا، مرة واحدة إلى البرلمان، ومرة واحدة إلى الجناح السويسري... ونرجع مجددًا من الجناح السويسري ومن قهوة ماياراي... لكن لم يحصل حتى الآن، وهذا يلفت انتباهي"، قال، "أن قام أحدهم بالذهاب مرتين معي إلى البرلمان ومرتين إلى الجناح الروسي، والرجوع بالتالي أربع مرات إلى قهوة ماياراي. الآن ذهبنا مرتين إلى البرلمان ومرتين إلى الجناح الروسي، وعدْنا منهما"، قال، "يكفي هذا. إن أردتَ رافقني جزءًا من طريقي إلى البيت. لم يسبق من قبل أن رافقني أيّ شخص جزءًا من طريقي إلى البيت". قال لي.    

يقيم في الدائرة العشرين.

يسكن في منزل والديه اللذين قبل ستة أسابيع ("انتحارًا، أيها الشاب، انتحارًا!") ماتا.

"علينا أن نعبر قناة الدانوب"، قال لي.

أثار الرجلُ اهتمامي، ورغبتُ بمرافقته أطولَ مسافةٍ ممكنة.

"عند قناة الدانوب عليك أن تعود"، قال لي، "لا يمكنك الاستمرار بمرافقتي بعد قناة الدانوب. لا تسألني، إلى أن نصل إلى قناة الدانوب، عن السبب!"

خلف ثكنةِ روساور، قبل مئة متر من الجسر الذي يفضي إلى الحيّ العشرين، قال الرجل فجأة، وهو واقفٌ، ينظرُ إلى مياه القناة: "هنا، في هذا الموضع".

استدار نحوي، مكررًا: "في هذا الموضع".

وقال: "دفعتُها بسرعة البرق. الملابس التي أرتديها، ملابسها".

ثم أشار إليّ إشارةً تعني: اغرب عن وجهي!

أراد أن يختلي بنفسه.

"اذهب!" أمرني.

لم أمض فورًا.

تركتُه يكمل: "قبل اثنتين وعشرين سنة وثمانية أشهر"، قال.

"وإذا كنتَ تعتقدُ أن في السّجن تسلية، فأنت مخطئ! العالم كله ليس سوى شريعة. العالم كله عبارة عن سجن. واليوم مساءً، أؤكّد لك، أصدّقتَ ذلك أم لم تصدّق، سيعرضون في المسرح، هناك، كوميديا، إنها بالفعل كوميديا".