هو ذا جنرال طويل القامة، خالي البال، ميممٌ حتفه غير عابئ، مودعٌ، مبتسمٌ كاشفًا عن جمال أسنانه، وعن جسده المستكين إزاء موتٍ عنيف. 

حياتنا أنهار

قصة لإيلينا جارّو

ترجمة: مريم الدوسري

إيلينا جارّو (1916- 1988) كاتبة مكسيكية من رواد الواقعية السحرية، صدرت لها روايات ومجموعات قصصية وأعمال مسرحية. في هذه القصة، كما في الكثير من أعمالها، تصوّر جارّو مشاهداتٍ من الحرب الأهلية المكسيكية التي اندلعت في العام 1926 وانتهت في العام  1929. هذه الحرب، أو ما يعرف أيضًا بتمرد كريستيرو، اشتعل فتيلها بقرار أصدرته الحكومة المكسيكية في محاولة للحد من انخراط الكنيسة الكاثوليكية في الحياة المكسيكية العامة. أودت الحرب بحياة 250 ألفًا من المقاتلين من الجنود ومن المسلحين الكاثوليكيين والمدنيين.


إيلينا جارو، عن gaceta

بقميصه العسكري الذي يكشف عن عنقه، وخصلة شعر متهدلة بين عينيه فاتحتي اللون، وقفَ الجنرال في مكان أبعد من سِواه. أرجحَ ذراعاه في مسير ضجر مستخِف، مطالعًا من حوله بابتسامة.  توقفَ حين طُلبَ منه ذلك. تلكأ في وقوفه مائلًا بثقله على ساق واحدة وفي إحدى يديه سيجارة. نظر إلى العالم بعيني هِر على وشك أن يتمطى، ورفع ذراعه ملوحًا تلويحة وداع كما لو كان عازمًا التنزه في الساحة العامة. انثنتْ ساقاه في سقوطه إلى الوراء نحو قبره المفتوح، فأصبحَ لا يُرى منه إلا نصف جسدٍ بعينين شبه مفتوحتين وحنجرة تقطر دمًا؛ ثم ذراع الضابط تثبتُ المسدس إلى صدغ الجنرال لحظة إطلاق الرصاصة القاضية؛ وأخيرًا، يظهرُ رأسه المتوسد الأرض وأثر فتحة صغيرة قريبة من جبهته يسيل منها خيط أسود يختلط بتراب الأرض المنبوش.

ذيَّلت هذه الجمل الصور.

الجنرال روِيدا كيخانو يتوجه متوانيًا نحو فصيل إطلاق النار.

- ما رغبتك الأخيرة يا جنرال؟ - سيجارة.

يدخنُ الجنرال دون أن يتساقط رماد سيجارته. لاحقًا، يرفعُ الجنرال يده مبتسمًا، ويودعُ قائلَا بالإنجليزية "مع السلامة".

فصيل الإعدام ينهي حياة الجنرال.

يطلق الضابط الرصاصة الأخيرة على المدان.

لحظة موته كان عمر الجنرال سبعة وعشرين عامًا.

لم تدرك الصغيرتان في ذلك الوقت أن سبعة وعشرين عامًا كانت تعني أن المرء ما يزال شابًا، فها هو ذا جنرال طويل القامة، خالي البال، ميممٌ حتفه غير عابئ، مودعٌ، مبتسمٌ كاشفًا عن جمال أسنانه، وعن جسده المستكين إزاء موتٍ عنيف.  وإن يكن شابًا، فقد تركهما الجنرال مغمومتين.

أمام عينيهما تظهر البنادق، ومن ورائهما زمنٌ لم يدركه أحدٌ سوى الجنرال ولم تسجله آلات المصورين. كان رأس اليخاندرو المحتضر بين الكتب، ومثله في الصحيفة، على تراب أرضٍ في مكان من المكسيك، ترقد رأس وحنجرة الجنرال المحتضر. مات صباح الأمس، وتفكرتْ الفتاتان في موته في عشية اليوم اللاحق الهادئة.

كانت أوراق الصحيفة الملقاة على بلاط الممر الأحمر جافة ومصفرّة، والصور المطبوعة بحبر أسود تحكي موت جنرال مكسيكي في السابعة والعشرين من عمره. تفحَّصتْ الطفلتان جزمته العسكرية، وبنطاله الجبَرْدِين، وقميصه المفتوح، وخطواته المتباعدة، ووقع حركة ذراعيه، ونظرته قبل أن يموت. دققتا أيضًا في وجوه الجنود الصارمة، ثم تمعنتا في الحنجرة القوية، والرأس الملقى على الأرض المحفورة. أطالتا النظر مستلقيتين على الأرض على بطنيهما، تطالعان كلاهما الميتة نفسها للجنرال نفسه. لم يكن شيء ليستعيد خطواته، ولا مسيره المتواني، ولا وسامته.

- لن ينهض بعد هذا أبدًا.

قالت إيفا وهي تشير إلى أرض الصحيفة.

- أبدًا.

-أبدًا. وإلى أبد الآبدين.

أصرَّت إيفا.

وحتى بعد أن غير الضابط والجنود أماكنهم، ظل الجنرال روِيدا كيخانو ثابتًا كنصبٍ محطمٍ على الأرض اليابسة.

- قال: "مع السلامة".

- هذا رمز.

أجابت إيفا.

-أهو سحر؟

- نعم؟ قال ذلك حتى تتلقاه الملائكة التي تحمل السيوف.

وفي ذلك المساء الهادئ طافت كتائبٌ من ملائكة برتقالية مسلَّحة. هزّت الأشجار أغصانها. فَزِعًا من دمدمتها، وتضاؤل المنزل أمام عظمة تحليقها حتى لم يعد أكبر من حصوةٍ مفقودة في سهل عظيم. أثار عبور الجنرال من عالم المحاربين الفانين صليل السيوف هذه، ثم تلاه هذا الصمت، هذا اللاشيء، هذه الحنجرة الممزقة، هذا الأبد، وهذه الصحيفة اليابسة بأوراقها المتناثرة على البلاط.

- قتلته الحكومة. لا بُدَّ من حذر شديد من الحكومة.

شرحت إيفا لأختها وهي تنظر إليها بثبات بعينين مفتوحتين على اتساعهما.

 -أرأيت الحكومة؟

- نعم... رأيتها مرة واحدة... وقال لي روتيليو: "الحكومة السافلة قتّالة".

- قتلتْ الجنرال روِيدا كيخانو.

- قتلته إلى الأبد.

أضافت إيفا جادة هذه الكلمات.

- إلى الأبد؟ ... ولكننا نتناسخ...

بدأت عجلة التناسخ بالدوران كدوامة الخيل في الملاهي بطيئة وحزينة وكأنها تدور على وقع موسيقى أغنية "المكسيك فبراير 23" التي تُسمع في ممر المنزل. مرَّ الجنرال روِيدا كيخانو ممتطيًا حصانًا برتقاليًا مزينًا بريش أبيض. بيده المرفوعة قال لهم "مع السلامة" ثم اختفى. وعلى نفس الحصان عاد للظهور بعد لحظات. "ها قد عدت" قال بصوته المبتهج واختفى مرة أخرى.

لقد ولد مجددًا.

- ولكننا لا نعود بنفس الشَعر، ولا بنفس العيون، ولهذا تقتل الحكومة إلى الأبد.

قالت إيفا بجدية.

- لن ينهض أبدًا.

ما زال الجنرال ملقى على الأرض الجافة في الجريدة. فمه المنفرج قليلًا لن يقول مع السلامة مجددًا. ما زالت حنجرته الهامدة مرمية بالرصاص على الورقة اليابسة، وشعره لَبِدٌ بحبرٍ ثابت. نظر إليه الجنود الصامتون، لن يسمعوا صوته أبدًا لا في نهارٍ مقبل، ولا في عشية مقبلة، ولن يشهدوا مسيره؛ أردوه إلى الأبد.

- إلى أبد الآبدين.

 أعادت إيفا جملتها.

توسدت إيفا الصحيفة، وظلّتْ هادئة. قلدتها ليلي. فتاتان ساكنتان فوق جنرال ساكن. وكما الفتاتين، كان البيت ساكنًا حتى يُخَيّلُ بأن الحكومة أطلقت عليه الرصاص هو أيضًا. النهار مشهدٌ من صورة فوتوغرافية، والمساء مساءٌ مطبوعٌ في صحيفة. اقترب منهما صوت خطوات تطأ أوراق المساء اليابسة وتهشمها، ولكنهما لم ترفعا رأسيهما عن الجنرال المُعْدَم.

- ليلي. عمّكُ يدعوكِ للعشاء، يا صغيرة.

كان القادم بالدعوة سيفرينو خادم عمها بوني. رأتْ ليلي الجنرال يتقدم لا مباليًا نحو موته.

- تعالي يا صغيرة، فعمُّكِ حزين جدًا.

 ألحَّ عليها سيفرينو.

منذ وفاة إيبي وعمّها دائم الحزن، عاش وحيدًا يذرع ممرات منزله جيئة وذهابًا، ولم يرغب في رؤية أحدٍ وإن كان شقيقيه. لم تكن ليلي لترفض دعوته فهو لا يحادث أحدًا سواها. خُيِّلَ لليلي أنها ترى إيبي بشعرها الأشقر الذي تضيئه شمس المغيب، تتأرجح في الكرسي الهزاز، تُكرر قائلةً: "أريد أن أرحل من هنا"، وفي أحد الأيام رحلتْ. إلى أين؟ من يدري! هناك الكثير من الأماكن التي تُقصدُ بعد الموت، لذا كان من الصعب التكهن بأيِّها قد تذهب إليه إيبي والجنرال روِيدا كيخانو.

- ما زلت أنتظر يا صغيرة.

أبعدتْ ليلي وجهها عن الصحيفة وألقتْ نظرة أخيرة على الجنرال يمضي بخطواته الطويلة نحو فصيل الإعدام. نهضت، ابتسمت، وبدأت تمشي بخطوات متباعدة متوانية، تأرجح ذراعاها إلى جانبيها كالجنرال.

- مع السلامة!

قالت لأختها بنبرة متعالية، وخرجت إلى الشارع يتبعها سيفرينو.

- الحكومة قتّالة.

- نعم، تطلق النار على كل المكسيكيين.

أجاب سيفرينو الذي حاذى مشيها في الممرات الهادئة.

- أنا أيضًا مكسيكية.

قالت ليلي التي سارت في تلك اللحظة كجنرال مكسيكي بخطواتٍ متباعدة في ساحة الإعدام غير آسفٍ لفقدان حياته.

نظر إليها سيفرينو متهكمًا.

- مكسيكية؟ أنتِ طفلة شقراء جدًا. أنتِ إسبانية.

آلمتها كلمات سيفرينو، فهو لم يشأ أن تكون مكسيكية. صمتتْ وعبَّتْ هواء المساء الذي بدأ ينتشر في السماء. في البعيد، استمر صمت التلال البرتقالية والبنفسجية، دون حرابي، دون صقور، دون هبة هواء. ودون ماءٍ، همد النهر جافًا، كالجريدة الملقاة على أرض الممر في منزلها. وانتثرت على الحصى الصلد في الشارع قشور الفول السوداني. الشرفات مغلقة. الأكشاك الصامتة في الساحة نصبٌ جنائزية. أهم ما في هذه الحياة هو أننا متنا. مات كل من ذهب إلى السوق. مات كل من بقي في البيوت. ماتت أيضًا السيدات اللاتي قرأتْ عنهن في جريدة يوم الأحد: سيدات ارتدين قبعات بيضاء صغيرة، وأطعمن البجعات في سيدني في أستراليا،  وابتسمن رغم حظهن التعس. كانت هناك أيام كهذا اليوم حين يجسُ الموت بأصابعه النحيلة الشوارع والأشجار، ليذكرنا بأننا لا نملك شيئًا في هذا العالم. في منزل عمِّها، وجدت ذات الوحشة التي خلَّفها موت إيبي، وذات الأشجار الظليلة، وذات الكلاب المستلقية في الممر، وذات الغزلان تجري في الحديقة، ورائحة سجائر الجمل ذاتها. كل شيء كما هو، لحظي، متلاشٍ، ولهذا لم تفهم ليلي لم يرد لها سيفرينو أن تكون مكسيكية.

- لماذا نحن أسبان يا عمي؟

- لأننا نلفظ الثاء.

لحرفٍ واحد لم يعد للجنرال روِيدا كيخانو وجود. ابتسم سيفرينو الجالس على الدرابزين راضيًا. على الطاولة الصغيرة في الممر، حيث السجائر والولاعة، كانت الجريدة حيث الجنرال المعْدَمِ بالرصاص.

- لم يكن يبلغ سوى سبعًا وعشرين عامًا.

قال العم وهو يطالع صورة الجنرال المنهار على الأرض ويهزَّ رأسه غير مصدق.

متأملًا لون أوراق التبغ الداكنة لف سيفرينو لفافة، واستغرقت ليلي الجالسة على مقعدها المرتفع في تأمل قدميها متأرجحتين في الهواء في صندلهما التقليدي. أصابع يديها صغيرة وردية اللون كأزهار القرنفل قبل تَفَتُحِها. يومًا ما لن تكون وردية، ولن يراها أحد، حتى هي نفسها لن تراها. ستظل أصابعها هامدة كقدميّ الجنرال في صمت الجريدة المطْبِق. ظلَّ عمها وسيفرينو صامتين يتفكران أيضًا في اختفاء أقدامهما وأصابعهما. كان المنزل صامتًا أيضًا يتخيل موته. وما هي إلا لحظة حتى ظهرت فيلي حافية تحمل صينية فيها مشروب الكركديه، وشراب الجِن من إنتاج شركة بولس، وقطعٍ من الليمون الأخضر. حيَّت فيلي الموجودين ثم غادرت دون ضجة. مساءً ستتناول ليلي وعمها العشاء وحيدين على الطاولة العظيمة بغطائها المنشى، وستقدم فيلي لهما تحلية من التين، والمكسرات، والمحلبية.

- كم عمركَ، يا عمي؟

- واحد وثلاثون.

لم يوحِ لها الرقم بشيء. نظرت إلى عمِّها لترى ما قد يكون عليه رجل في الحادية والثلاثين. أشقر الشعر، يرتدي قميصًا من حرير أبيض، تفوح منه رائحه الكولونيا كما هو الحال دائمًا، وعيناه الصفراوين حزينتين.

- ماذا قال لكِ عمكِ؟ 

سُئلتْ حين عادت إلى البيت.

- قرأ لي من مسرحية الحياة حلم.

- سينتحر بوني. 

قال والدها وهو ينظر إليها بعينين صفراوين كعيني عمِّها، وكعمِّها أيضًا يرتدي والدها دائمًا قميصًا أبيض، ويردد أحيانًا مذعورًا "أننا مطرودون من رحمة الرب".

دنى عمها من الجريدة وأطال النظر في الجنرال روِيدا كيخانو.

- كان يتمنى الموت.

صبَّ لنفسه قليلًا من الجِن وخلطه بالماء وشيءٍ من الليمون الأخضر، ومضى مطرقًا إلى الممر بعد رشفة واحدة. أدبر وأقبل، ثم أدبر وأقبل مرات عديدة قبل أن يقترب من الطفلة.

- أتريدين أن تموتي؟

ما الذي يعنيه الموت؟ تفكرتْ ليلي  في السؤال وقتًا قبل أن تجيب:

- نعم، إن كان الوقت سيظل نهارًا في الموت.

رفع عمها خصلة شقراء نافرة عن جبهتها  وربّتَ عليها.

- الموت نهارٌ دائم. لهذا أريد أن أموت، ولكن الموت حكمّ عليّ بذرع هذا البيت جيئة وذهابًا.

- كلنا نموت، يا سيدي، فلِمَ قلة الصبر؟

سأل سيفرينو بصوت موزون.

ولكن العمَّ بوني نافد الصبر قرعَ بأصابعه الطاولة التي غطتها الصحيفة.

- وإن كان على المرء أن يفعل ذلك، فهذه هي الطريقة، وبهذه الروعة.

وأشار إلى الجنرال روِيدا كيخانو.

لم يكن شيءٌ ليُسَرَّي عنهم. جلسوا بانتظار أن يحل الليل ويجيء الموت. وماذا بعد ذلك؟ ما من جواب لما بعد ذلك، ولا حتى عند الكلاب المطرقة المستلقية انتظارًا أيضًا. اقتربت بعض الغزلان وادعة من الصغيرة والتهمن السجائر التي مدتها لهن. راقبت ليلي محيا سيفرينو الثابت، ومسير عمها المتواصل في الممر المهجور، وشعرت بأنها ستظل على هذه الحال دومًا: تتأمل المأساة وفي يدها المبسوطة سجائر تقدمها للغزلان الصامتة.

- فقد الجنرال صبره.

قال سيفرينو.

فهمتْ ليلي نفاد صبر الجنرال روِيدا كيخانو، وستحذو هي حذوه. ستمضي قدمًا  لتنهي أيامها. ستسير نحو فصيل الإعدام مؤرجحة ذراعيها، وستبتسم مزدرية لما يحمله لها اليوم، ثم ستقول لهم، للآخرين، مع السلامة، وبرصاصة ستشق طريقها إلى يوم الموت الأبدي حيث ملائكة برتقالية تحمل سيوفًا برّاقة باهرة.

- عندما أكبر سأصبح جنرالًا مكسيكيًا.

عاود سيفرينو النظر إليها باشمئزاز. ولأنه كان أكثر كسلًا من أي يرد عليها، أشاح عنها في طرفة لينظر إلى الأشجار.

- ستكونين رائعة كما كان الجنرال روِيدا كيخانو.

أكدَ لها عمُّها.

- قال لهم "مع السلامة". قال لهم "خونة".

قال سيفرينو ونظره إلى الغزلان المتلصصة من خلف الأشجار.

- لمن قال هذا؟

سألت الفتاة.

- للحكومة.

وعاد الثلاثة إلى صمتٍ كصمت الجنرال الميت في الجريدة. اختفت العَشِية خلف جدران الحديقة، وواصلت خطوات بوني طوافها بين الظلال، ورائحة عطرةٌ تتبع غدو ورواح قميصه الأبيض. غير مجدٍ طوافه حول دائرةٍ كانت إيبي مركزها، فهو مسمّرٌ مسحور كالجنرال في الصحيفة. وحين توقفت إيبي عن أرجحة كرسيها وأرخت شعرها ليضيء بشقرته الشمس، ثَبَت المنزل برمَّته في ذلك اليوم من أيام أبريل، وتحَجَّرت فيه أسابيع واحتفالات، وأصبح دفء أزهار الجاردينيا التي يسقيها التراب، والهواء الخانق في الغرف المؤصدة أبديًا.

ثم علا صوت بوني غامضًا كتعويذة سحرية  قادمة من زاوية في الممر:

حياتنا أنهار

تجري نحو البحر

الذي هو الموت

حين نُطِقَت كلمات أغنية مانريكي بصوت عالٍ تفكك الصمت الذي كَبَّلَ المنزل، ودفعتِ الأغنية بالليل بغتةً ليمخر نهرًا واسعًا وافر، وانساب معها الصوت المكروب الذي نطقها في نهر متموج متعرج يشقُ دربًا حزينًا، وشيئًا فشيئًا تبعه الآخرون مبحرين في خِفَّة. طفا سيفرينو في تيار نهره الأصفر، جالسًا على درابزين الممر، وتقدم متمهلًا نحو بحر مضيء. وولج الكرسي الذي جلستْ عليه ليلي تيارًا باردًا، وبدأت هي أيضًا تبحر بيدين ممدودتين تطعم السجائر للغزلان التي طفتْ أزواجًا في جداول قريبة تمضي هي الأخرى نحو البحر. كم كان سهلًا للحياة أن تنساب نحو الموت. داعبتْ ريح رقيقة شعرها، ومرتْ أمام عينيها مناظرٌ بهية لا يُدركً جمالها ولا يُطال. صوَّرَ صوت بوني قاعاتٍ ضجَّت بحفلاتٍ بعيدة، واستحضرَ رطوبة الجبال، وأشجارًا تحركها العصافير. وحين صمتْ استمر الزمن في جريانه من ينبوع سري، واستمرت السماوات، وشرفات المنازل تنساب في النهر؛ أقمار تتسلل بين الغيوم. تركوا المائدة. أقبلتْ فيلي وماريا ترفعان الصواني عاليًا حتى لا يلطخ ماء أنهارهما ما تحملانه من الجوز والمحلبية. تطوَّحت ضفائرهن السود خفيفةً على ظهورهن، ورفرفت تنانيرهن الداخلية الداكنة كأعلامٍ غُرِزتْ في مجري نهرين. وولج الليل أيضًا نهرًا يُجلي معه النجوم، والأفواه، والأغصان، والرياح، والجنرالات المكسيكية المقتولة بالرصاص.

أدركتْ ليلي وهي تأكل المحلبية أن نسمة رطبة بللت شعرها، وأنها في جلوسها على رأس المائدة ذات الغطاء المنشى ماضية نحو بحر أزرق ذي شموسٍ صفراء.

- هل لأنهار الجنرالات تيارات، يا عمي؟

بغتةً قاطعتِ الصورة المجتثة من عنف الجريدة جريان النهر نحو البحر. جنرالٌ وسامته المفقودة لا تُسْتَرد، وجبينه المشجوج بلا جدوى، وساقاه المثنيتان تقودانه إلى الوراء. بدا للصغيرة بأنه ماضٍ وحده، دون جهد منه، بل ورغمًا عنه، إلى مكان مجهول أُرسِلَ إليه بعنف رصاصات الجنود. بات عبثًا تناول المحلبية من الأوعية الخزفية البيضاء. لم تعد ليلي تشتهي أكلها. وضعت الملعقة في الطبق، وانتظرت رد عمِّها الذي نظر إليها بعينيه الصفراوين المترعتين بالألم.

- نعم، تياراتها سريعة، ولكنها لا تدوم سوى سبعًا وعشرين عامًا.

- ونهرك؟

أشاح عمُّها عنها وظل يتأمل موضعًا بعيدًا جدًا وكأنه يرى الجنرال قبل أن يُردى.

- نهري؟ نهري فيه انعطافات كثيرة ....

- ونهر سيفرينو؟

-طويل جدًا ويجتاز وديانًا كثيرة...

تفكرتْ ليلي في نهر سيفرينو. نهرٌ عجوز شَهِدَ أمطارًا كثيرة، وشموسًا كثيرة، وأحزانًا كثيرة. كم مضى من الوقت وسيفرينو يبحر منتعلًا صندله المكسيكي التقليدي، تظللُ قبعته البيضاء عينيه السوداوين، وماء نهره قد ندَّى قميصه الوردي؟ من يدري! لا يمكن لأحد أن يجزم، ولا حتى سيفرينو نفسه، لأنه قد نسي الدروب التي أبحر فيها لسنوات طويلة. شبَّكتْ ليلي يديها على غطاء الطاولة، والتمعتْ عينيها، وسألتْ بشجاعة:

- ونهري؟

تأمَّل بوني موقفها الجاد، يديها الهادئتين، وعينيها الشجاعتين لبعض الوقت.

- لنهركِ تيارات. إنه نهر جنرال مكسيكي، ولكن كل الأنهار، نهركِ، نهري، نهر سيفرينو، نهر الجنرال روِيدا كيخانو، تفضي إلى البحر نفسه.

التقت عيناه الصفراوين بعينيها، وأهداها ابتسامة. وتلاشى أسى الجريدة في كلماته، وعرفت ليلي أن الكلَّ سواء في البحر، وأن الجنرال روِيدا كيخانو لن يمضي وحده نحو فصيل الإعدام، هازئًا تراقبه عيون الجنود الصارمة والصحفيون بآلات تصويرهم العبثية؛ وأن رصاصات أسلحة ماوسِر قد ذهبت بالجنرال إلى ذات المكان الذي يقودها إليه نهرها ذو التيارات العنيفة؛ إلى بحر أزرق ذي شموسٍ صفراء، ومن وهجها ينظر إليها الجنرال وهي تقترب.