لا تحول السلطة بين البشر وبين إمكانهم، أي بينهم وبين ما يقدرون على فعله، وإنما بين البشر وبين لاإمكانهم، أي بينهم وبين ما لا يقدرون على فعله، أو بالأحرى، بينهم وبين ما يقدرون على عدم فعله.

جورجيو أجامبِن: ما يمكننا ألا نفعله

ترجمه عن الإنجليزية: طارق عثمان

Giorgio Agamben, “on what we can not do”, in Idem, Nudities, trans. David Kishik and Stefan Pedatella (Stanford: Stanford univrisity press, 2011), pp. 43-45.


جورجيو أجامبن، عن versaire

عرَّف دولوز عمل السلطة، ذات مرة، بأنه المباعدة بين البشر وبين ما يمكنهم فعله، أي بينهم وبين إمكانهم، قدرتهم (potentiality). فالقوى الفاعلة يُحال بينها وبين فعل ما تريد أن تفعله في الواقع، إما بسبب حرمانها من الأوضاع المادية اللازمة لجعل ذلك ممكنًا أو بسبب تحريم يجعل ذلك مستحيلًا رسميًا. وفي كلا الحالتين، تُباعِد السلطة—وهذا هو شكلها الأشد قمعًا وقسوة—بين البشر وبين إمكانهم، وبذلك تجعلهم غير قادرين، عاجزين (impotent).[1] لكن ثمة عمل آخر للسلطة أشد مكرًا وخبثًا من ذاك الذي عيَّنه دولوز: لا تحول السلطة بين البشر وبين إمكانهم، أي بينهم وبين ما يقدرون على فعله، وإنما بين البشر وبين لاإمكانهم (impotentiality)، أي بينهم وبين ما لا يقدرون على فعله، أو بالأحرى، بينهم وبين ما يقدرون على عدم فعله.[2]

تحتل الفكرة التالية موضع القلب من نظرية الإمكان التي طرحها أرسطو في الكتاب التاسع من الميتافيزيقا: كل إمكان هو، في جوهره، لاإمكان دائمًا، أي أن كل قدرة على الفعل هي، في جوهرها، قدرة على عدم الفعل دائمًا.[3] لا يعني الـلاإمكان هنا مجرد غياب الإمكان، أي عدم القدرة على الفعل، وإنما يعني القدرة على عدم الفعل، أي قدرة المرء على ألا يحقق إمكانه بالفعل. وهذه الطبيعة المتناقضة لكل قدرة—كونها قدرة على التحقق وعلى عدم التحقق، قدرة على الفعل وعلى عدم الفعل—هي ما يميز حقًا القدرة البشرية. فالإنسان هو الكائن الحي القادر على الشيء وعلى عكسه، القادر على الفعل وعلى عدم الفعل. وهذا تحديدًا ما يجعله أكثر عرضة، من أي كائن آخر، للوقوع في الخطأ؛ لكن ذلك هو ما يسمح له، في الوقت عينه، بمراكمة قدراته وصقلها، بتحويلها إلى "مَلكات" أو "مُكْنات" راسخة. إن ما يعيِّن منزلة الفعل البشري ليس مقدار ما يمكن للمرء فعله فحسب وإنما قدرته على عدم الفعل في المقام الأول. ففي حين لا تقدر النار إلا على أن تحرق، ولا تقدر الكائنات الحية الأخرى إلا على تحقيق قدراتها الخاصة—فهي قادرة فحسب على فعل هذا السلوك البيولوجي أو ذاك—الإنسان هو الحيوان القادر على تحقيق لاإمكانه، أي القادر على ألا يفعل.

تفضِّل سلطة زمننا، التي تُسمى على نحو مُفارِق بالسلطة "الديمقراطية"، أن تؤثِر على هذا الوجه الآخر، الأكثر غموضًا، من وجهي الإمكان. فهي لا تحول بين البشر وبين ما يمكنهم فعله فحسب وإنما تحول، في المقام الأول وبقدر أكبر، بينهم وبين ما يمكنهم ألا يفعلونه. وبالمباعدة بينه وبين لاإمكانه، أي بحرمانه من تجربة ما يمكنه ألا يفعله، أضحى الإنسان في أيامنا هذه مؤمنًا بأنه قادر على كل شيء. ولذلك نجده يردد بمرح قوله: "no problem"، "مفيش مشكلة"، وبتهور قوله: "I can do it"، "أنا أقدر" ، تحديدًا في المواطن التي ينبغي له فيها أن يتبين، عوضًا عن ذلك، أنه قد عُهد إليه بما لا قِبل له به، وأُسلم لقوى وعمليات ليس له أدنى سيطرة عليها. لقد أصبح إنسان أيامنا هذه في عمى لا عن قدراته وإنما عن عدم قدراته، لم يصبح في عمى عمَّ يقدر على فعله وإنما في عمى عمَّ لا يقدر على فعله أو عمَّ يقدر على عدم فعله. 

لذلك نجد في أيامنا هذه خلطًا تامًا بين الوظيفة (job) والصنعة كمَلكة راسخة (vocation)، بين الهوية المهنية والدور الاجتماعي، حيث تؤدى كل واحدة منهما بواسطة ممثل ثانوي مؤقت، يتناسب مدى اختياله عكسيًا مع مدى تقلقل أداءه وتردده. إن فكرة كون أي شخص قادر على أن يكون أي شيء أو أن يفعل أي شيء—أن أتوقع أن يصبح الطبيب الذي يفحصني اليوم فنان فيديو في الغد، وأن أكتشف أن الجَلّاد الذي سينفذ فيَّ حكم الإعدام هو، في واقع الأمر، مطرب، كما هو الحال في المحاكمة لكافكا[4]—ليست سوى تعبيرًا عن إدراك أن جميعنا يلوي نفسه ويطوعها ببساطة بموجب تلك المرونة التي تُعدّ السمة الأساسية التي يطلب السوق توفرها في كل شخص. 

والحق، أن لا شيء يجعلنا أكثر فقرًا وأقل حرية من هذا الحرمان من قدرتنا على عدم الفعل.[5] فأولئك الذين يُحال بينهم وبين ما يقدرون على فعله ما زال بوسعهم أن يقاوموا، إذ لا يزالون قادرين على ألا يفعلوا. بينما أولئك الذين يحال بينهم وبين ما يقدرون على عدم فعله لا يعود بوسعهم أن يقاوموا.[6] وتمامًا كما أن وحده إدراكنا الحاد لما لا يمكن أن نكونه هو ما يضمن حقيقة كنهنا، كذلك وحده إدراكنا الحاد لما لا يمكننا فعله أو ما يمكننا عدم فعله هو ما يضمن اتساق أفعالنا. 

§ حاشية للمترجم

الإمكان والقدرة؛ إمكان الوجود في الواقع والقدرة على الفعل، potentiality (باليونانية: dynamis)، في مقابل التحقق الواقعي والفعل، actuality (باليونانية: energeia). مفهوم مركزي للغاية في فكر أجامبِن برمته. وتأويله لنظرية أرسطو عنه تأويل فريد، مخالف للتأويل السائد في الفلسفة الغربية (أو لأرسطو نفسه كما يرى البعض)، بحيث يسوغ لنا القول إن أجامبِن قد طرح نظريته الخاصة عن الإمكان، على الرغم من إصراره على نسبتها إلى أرسطو، معتمدًا في ذلك على ثلاثة نصوص بعينها لأرسطو، يرى أنها مغفول عنها أو مُساء فهمها. وقد فصّل أجامبِن القول في مسألة الإمكان في ثلاثة نصوص وهي: "on potentiality”؛ “Bartleby, or on contingency”، وكلاهما منشور في كتابه Potentialities: collected essays in philosophy؛ والفصل الثالث من كتابه Homo Sacer: Sovereign power and Bare Life، المعنون بـ “potentiality and law”.

يفرق أرسطو بين نوعين (أو بالأحرى مرتبتين) من الإمكان: الإمكان العام، كأن نقول مثلًا أن هذا الطفل لديه القدرة على أن يكون نجارًا، أو من الممكن له أن يكون معماريًا، أو لديه الإمكان لكي يكون طبيبًا. هذا النوع من الإمكان غير موجود، بمعنى أنه لا بد للطفل أن يتعلم ويتدرب طويلًا حتى يصير قادرًا على أن يكون نجارًا أو معماريًا أو طبيبًا. وأجامبن (وأرسطو بحسبه) غير مشغول بهذا النوع الأول من الإمكان، وإنما بالنوع الثاني: الإمكان الموجود عند صاحبه. أي القدرة التي تصير عند ذلك الطفل بعدما يتعلم ويتدرب ويكبر ليصير نجارًا أو معماريًا أو طبيبًا بالفعل.

ما معنى أن نقول إن النجار لديه القدرة على أن يكون نجارًا؟ ما معنى أن يقول معماري: أنا أقدر على بناء بيت؟ ما معنى أن يقول شاعر: بإمكاني أن أكتب قصيدة؟ الجواب البسيط هو التالي: يكون النجار قادرًا على النجارة عندما يصنع كرسيًا. ويكون المعماري لديه القدرة على البناء عندما يبني بيتًا. ويكون بإمكان الشاعر قرض الشعر عندما يؤلف قصيدة. أي أن كُلًّا منهم يكون قادرًا على صنعته عندما يحقق هذه القدرة في الواقع، عندما يفعل (يصنع كرسيًا ويبني بيتًا ويؤلف قصيدة). وعلى ذلك، لا يكون النجار نجارًا إلا عندما يكون ممارسًا للنجارة بالفعل، ولا يكون المعماري معماريًا جديرًا باسمه إلا عندما يمارس العمارة بالفعل، ولا يكون الشاعر شاعرًا بحق إلا عندما يقرض الشعر. هذا هو الرأي الذي يربط الإمكان بالتحقق الواقعي، ويجعله في مرتبة أنطولوجية أدنى منه وتابعه له: ليست القدرة قدرة إلا لأنها تفعل في الواقع، كل إمكان غير متحقق واقعًا هو إمكان غير موجود، عدم (هذا هو قول الفلاسفة الميجاريين—نسبة إلى ميجارا، المدينة اليونانية).

لكن أين تذهب المعرفة والمهارة التي اكتسبها النجار عندما لا يمارس النجارة؟ إنها لا تختفي ببساطة وإنما تظل لديه، فبالرغم من أنه لم يصنع كرسيًا طوال عقد، إلا أنه كان يعرف، طوال هذه السنين، كيف يصنع كرسيًا، أي أنه كان قادرًا طوال هذه السنين على أن يصنع كرسيًا. قد لا يمارس المعماري العمارة لكن ذلك لا يعني أنه غير قادر على العمارة. عندما يتوقف الشاعر عن كتابة القصائد يظل شاعرًا على الرغم من ذلك (هذا هو رد أرسطو على الميجاريين).

لكي نثبت للإمكان وجودًا خاص به، أي كإمكان محض، نقي، لا بد إذن من فصله عن التحقق في الواقع وعن الفعل. ينبغي النظر إلى الإمكان بمعزل عن تحققه، أي ليس في علاقته بالتحقق وإنما في علاقته بنفسه. لكن أين نجد هذا الإمكان النقي، منبت الصلة عن التحقق؟ في القدرة على عدم التحقق، في قدرة النجار على ألا يصنع كرسيًا، وقدرة المعماري على ألا يبني بيتًا، وقدرة الشاعر على ألا يكتب قصيدة. هنا يكون الإمكان موجود كإمكان محض. وهذا تحديدًا ما يقصده أجامبِن (وأرسطو بحسبه) من القول بأن الإمكان هو لاإمكان: لا يوجد الإمكان كإمكان محض إلا في شكل لاإمكان، أي قدرة على عدم التحقق والفعل. لا يكون المعماري قادرًا قدرة محضة على البناء (معماريًا بالإمكان أو بالقوة حقًا) عندما يبني البيوت وإنما عندما لا يبني البيوت، أي عندما يقدر على عدم تحقيق قدرته، على عدم الفعل. فهنا، وهنا فقط، يكون إمكانه كمعماري موجود كإمكان نقي. ليس الـلاإمكان نقيض الإمكان إذن وإنما شكل وجوده، وجهه. كل إمكان موجود كـلاإمكان.

لكن كيف يمكن للإمكان، إذا كان لاإمكان في جوهره، أي قدرة على عدم الفعل، أن يتحقق فعليًا؟ أو كما تساءل أجامبِن: يحقق المرء قدرته على العزف على البيانو بأن يعزف مقطوعة موسيقية على البيانو؛ لكن كيف له أن يحقق قدرته على عدم العزف على البيانو؟ يحقق المرء قدرته على التفكير بأن يفكر في هذه الفكرة أو تلك؛ لكن كيف له أن يحقق قدرته على عدم التفكير؟ كيف أحقق قدرتي على عزف البيانو إذا كانت قدرتي على عزف البيانو هي قدرة على العزف وقدرة على عدم العزف في الوقت عينه؟ كيف أحقق قدرتي على عزف البيانو إذا كان الشكل النقي لقدرتي على العزف على البيانو هو قدرتي على عدم العزف على البيانو؟ أو بعبارة أخرى، ما الذي يحدث لقدرتي على عدم العزف على البيانو عندما أحقق قدرتي على العزف على البيانو بعزف سوناتا لبتهوفين؟

شرط تحقق إمكان ما هو تنحية لاإمكانه جانبًا، تعليقه، تعطيله. لكي أحقق قدرتي على العزف، بعزف سوناتا لبيتهوفن، لا بد أن تُعطل قدرتي على عدم عزف البيانو. تحقق القدرة على العزف بالعزف لا يقتضي محو، نفي، زوال القدرة على عدم العزف، وإنما يقتضي تعطيلها فحسب. عندما أعزف لا تزول قدرتي على عدم العزف وإنما تظل موجودة لكن معطلة. وهذا التعطيل هو شكل تحقق القدرة على عدم الفعل، العزف هنا (تمامًا كما أن تعطيل الشريعة في الزمن المسيحاني لا يعني زوالها وإنما شكل تحققها، تطبيقها؛ وتمامًا كما أن تعطيل السيد للقانون في حالة الاستثناء هو شكل تطبيقه، فالقانون يطبق فيها تحديدًا عن طريق تعطيله؛ وتمامًا كما أن الإنسان المستباح يُحتوى في القانون تحديدًا عن طريق طرده منه، كونه مطرودًا لا يعني أنه خارج القانون وإنما يعني أنه داخل فيه لكن عن طريق طرده منه تحديدًا).

لنكرر، قدرتي على العزف على البيانو هي في جوهرها قدرة على عدم العزف (لأن كل إمكان هو لاإمكان في جوهره، في صورته النقية، أي قدرة على عدم الفعل)، وعندما أعزف على البيانو أحقق قدرتي على العزف بالعزف وأحقق قدرتي على عدم العزف بتعطيلها. عندما أعزف، أي عندما أحقق قدرتي على العزف لا تنمحي قدرتي على عدم العزف (لاإمكاني على العزف) وإنما تظل موجودة لكن معطلة.

ويجد أجامبِن مثالًا بارديجميًا على الإمكان المحض، أي بصفته لاإمكانًا، أي قدرة على عدم الفعل في المطلق، في شخصية بارتلبي النساخ (بطل قصة هرمان مِلفيل) وعبارته الشهيرة، I would prefer not to  أُفَضِّل ألا أفعل.  


[1]  القوة (force) مفهوم أساسي في فكر جِل دولوز. يعود إلى نيتشه ( جينالوجيا القيم، إرادة القوة) وسبينوزا (و"صيحة حربه": لا أحد يدري ما يقدر الجسد على فعله). الواقع عبارة عن علاقات قوى. القوى نوعان: قوة فاعلة (active): مهيمنة، عُليا، خلاقة، متفجرة؛ وقوة منفعلة (reactive): مهيمن عليها، دُنيا، محافظة، متكيفة، رد فعل على القوة الفاعلة. على مدار التاريخ، القوى المنفعلة هي القوى المهيمنة والغالبة على القوى الفاعلة. تغدو القوة الفاعلة منفعلة عندما تتمكن قوة منفعلة من الحيلولة بينها وبين ما يمكنها فعله. وقد فصّل دولوز القول في ذلك في كتابه نيتشه والفلسفة. [المترجم]

[2]  لا يقصد أجامبن بمصطلح "لاإمكان" عدم الإمكان، انعدام القدرة والاستطاعة، أي العجز، وإنما القدرة على عدم الفعل وعلى عدم التحقق في الواقع، كما سنبين في الحاشية. [المترجم]

[3]  ليس المقصود هنا أن قدرة المرء على فعل شيء ما تقتضي قدرته على عدم فعله، أي أن يفعله في وقت ولا يفعله في آخر، وإنما أن قدرته على فعل هذا الشيء توجد كقدرة محضة تحديدًا في قدرته على عدم فعله، وليس في فعله، وهذا هو عين المقصود من أن الإمكان هو لاإمكان، كما سنبين في الحاشية. [المترجم]   

[4]  «يبعثون في سبيلي ممثلين عجوزين...في أي مسرح تمثلان؟...لعلهما مغنيا أوبرا»، ناجى ك. نفسه وهو بين يدي جلادَيّه. [المترجم]

[5]  يقول أجامبِن: «أن تكون حرًا لا يعني ببساطة أن تكون قادرًا على فعل هذا أو ذاك، ولا أن تكون قادرًا على رفض فعل هذا أو ذاك. أن تكون حرًا يعني أن تكون قادرًا على لاإمكانك الخاص [أي على عدم الفعل في المطلق، تماما كبارتلبي النساخ].» Potentialities، ص 183، التشديد من أجامبِن. [المترجم]

[6]  لأن الحيلولة دون ما نقدر على عدم فعله تقتضي الحيلولة دون ما نقدر على فعله أيضًا، بما أن الثانية ليست في جوهرها سوى الأولى. [المترجم]


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه