انظر. هذا غريب. الولد يلوح –كم يبدو هذا حزينًا– ولا أحد من المسافرين يلوح له. وهو يأخذ هذا الأمر بجدية في قلبه.

الليل في الفندق

قصة زيجفريد لنتس

زيجفريد لنتس (1926- 2018) أديب ألماني من أبرز أدباء ما بعد الحرب في ألمانيا. له أكثر من عشرين رواية ومسرحية ومجموعة قصصية، وفاز في العام 2000 بجائزة جوتة عن منجزه الأدبي.

ترجمة عن الألمانية: شيري منتصر


لوحة «نافذة على نيس» للفنان الفرنسي راوول دوفي

تحسس موظف الاستقبال بأظافره المقروضة فوق دفتر صغير، ثم رفع كتفيه بأسفٍ ولف جسده ناحية الشمال، فأصبح قماش ملابسه مشدودًا بعنف تحت ذراعه، ثم قال: «هذا هو الحل الوحيد.. في هذه الساعات المتأخرة لن تجد في أي مكان غرفة لفردٍ واحد. الأمر يعود لك بالتأكيد، أن تسأل في فنادق أخرى. ولكن أستطيع أن أقول لكَ الآن، إننا، عندما تعود بلا نتيجة، لن يكون في مقدورنا خدمتك مجددًا؛ لأن السرير الفارغ في الحجرة المزدوجة، الذي –لا أعرف لأي سبب– لا تريده، سيجده شخص نعسان آخر».

رد شفام:[1] «جيد.. سآخذ هذا السرير. ولكن فقط، كما أظن أنك ستتفهم هذا، أريد أن أعرف، مع من سيتوجب عليَّ مشاركة الغرفة؛ وليس هذا على سبيل الحذر، بالتأكيد لا؛ لأني ليس لديَّ ما أخاف عليه. هل شريكي –وأظن أننا قد نسمي الأشخاص الذين نقضي معهم ليلة شركاء– موجود بالفعل؟»

«نعم، هو موجود ونائم».

«نائم». كرر شفام الكلمة، ثم أخذ استمارة التسجيل، وملأها وأعطاها لموظف الاستقبال؛ واتجه صاعدًا. فور أن رأى شفام الغرفة بالرقم الذي أخبره به الموظف، أبطأ خطواته بلا إرادة منه وحبس أنفاسه، على أمل أن يسمع أي ضوضاء يمكن أن يصدرها الرجل الغريب هذا. ثم انحنى عند ثقب الباب. كانت الغرفة مظلمة. في هذه اللحظة سمع شخصًا يصعد السلم، والآن يجب عليه أن يفعل شيئًا ما. يمكنه الانصراف، وذلك مفهوم، يمكنه التظاهر وكأنه أخطأ في الممر، وهناك أيضًا إمكانية أخرى: أن يدخل الغرفة، التي أُرشد إليها بشكل صحيح، والتي بها سريران، أحدهما ينام عليه شخص بالفعل.

ضغط شفام على مقبض الباب فاتحًا إياه، ثم أغلقه وراءه بينما كان يبحث بكف يده عن مفتاح النور، ثم توقف للحظةً –وقد استنتج سريعًا أن السريرين يجب أن يكونا في هذا المكان– وسمع شخصًا جانبه يقول له بصوتٍ داكن ولكن أيضًا حيوي:

«توقف! لا توقد النور أرجوك. ستكون قد فعلت لي جميلًا، إذا تركت الغرفة مظلمة».

سأل شفام مصدومًا: «هل كنت تنتظرني؟». ولكنه لم يحصل على رد، وبدلًا من ذلك قال الغريب: «لا تتعثر بعكازي، وكن حذرًا، لكيلا تقع على حقائبي، التي توجد تقريبًا في منتصف الغرفة. سوف أقودك بأمان إلى سريرك: امش ثلاث خطوات بجانب الحائط، ثم استدر ناحية اليسار، وبعد ثلاث خطوات أخرى، ستلمس العمود الخشبي للسرير».

أطاع شفام كلام الرجل. وصل إلى سريره وخلع ملابسه وانزلق تحت الغطاء. وسمع قطار أنفاس الرجل الغريب وشعر في نفسه، أنه لن يقدر على النوم.

قال مترددًا بعد لحظات: «اسمي شفام بالمناسبة».

«حسنًا».

«أجل».

«وهل أنت هنا لحضور اجتماع ما؟»

«لا. وأنت؟»

«لا».

«للعمل إذن؟»

«لا. ليس بالتحديد».

قال شفام: «من المرجح أن لدي أغرب سبب يمكن أن يمتلكه شخص ما لكي يسافر إلى هذه المدينة». على رصيف المحطة كان أحد القطارات يغير مساره، فاهتزت الأرض، واهتز معها السريران اللذان يضجع الرجلان فوقهما.

قال الآخر: «هل تنوي الانتحار في المدينة؟»

رد شفام: «لا. هل أبدو كذلك؟»

قال الآخر: «لا أعرف كيف تبدو. الغرفة مظلمة».

تحدث شفام بفرحة متوترة في صوته قائلًا: «أعوذ بالله! لا. لدي ابن يا أستاذ.. (لم ينطق الرجل الآخر باسمه) ولد عفريت صغير، وبسببه أتيت إلى هنا».

«هل هو في المستشفى؟»

«من قال ذلك؟ هو سليم. شاحب قليلًا، يمكن قول هذا، لكنه سليم أيضًا. أود أن أخبرك لماذا أنا هنا، معك في هذه الغرفة، وكما قلت، يتعلق الأمر بابني. إنه حساس للغاية، يجرحه النسيم، ينفعل إذا وقع عليه ظل».

«إذن فهو لا يزال في المستشفى؟»

صرخ شفام: «لا. لقد قلت إنه سليم من كل ناحية. هو فقط معرض للخطر. هذا الولد الشقي لديه روحًا شفافة، ولهذا السبب هو في خطر».

سأل الآخر: «لم لا ينتحر هو؟»

«ولكن يا سيد، طفل مثل هذا، صغير لم ينضج بعد، في هذا العمر! لم تقول ذلك؟ ابني معرض للخطر لأسباب أخرى، فكل صباح، عندما يذهب إلى المدرسة –وهو يذهب دومًا وحده بالمناسبة– يجب أن يقف أمام القضبان، وينتظر مرور قطار الصباح. يقف هناك إذن، هذا الولد الشقي، ويلوح، يلوح بحماس، وبلطف وبيأس».

«ثم ماذا؟»

واصل شفام: «ثم.. ثم يذهب إلى المدرسة، وعندما يعود إلى المنزل يكون ذاهلًا عما حوله، ومخدرًا، وأحيانًا ينفجر بالنحيب والبكاء. لا يستطيع أن يحل واجباته المدرسية، ولا يرغب في اللعب أو الحديث. هكذا هو الوضع منذ أشهر، كل يوم جميل يمر هكذا. يدفعني هذا الولد للجنون».

«ما الذي يدفعه إذن لمثل هذا التصرف؟»

قال شفام: «انظر. هذا غريب. الولد يلوح –كم يبدو هذا حزينًا– ولا أحد من المسافرين يلوح له. وهو يأخذ هذا الأمر بجدية في قلبه، لدرجة أننا –امرأتي وأنا– لدينا أعظم المخاوف. فهو يلوح، ولا أحد يلوح له في المقابل، ولا يمكن إجبار المسافرين على هذا الأمر بالتأكيد، سيكون شيئًا عبثيًا ومثيرًا للسخرية، أن يتم إصدار قانون لهذا الأمر، ولكن..»

«أنت إذن، يا سيد شفام، تود امتصاص حزن ابنك بركوب قطار الصباح غدًا، والتلويح له؟»

«أجل. أجل».

رد الغريب: «أنا لا أهتم بالأطفال. إنني أكرههم، وأتحاشاهم، لأن بسببهم –إذا أخذ أحد هذه الجملة على محمل الجد– خسرت زوجتي. ماتت في أول ولادة».

قال شفام: «أنا آسف»، ثم ارتاح في سريره، وإذا بدفء لذيذ يتسرب إلى جسده، وشعر الآن أنه قادر على الغرق في النوم.

سأل الرجل الآخر: «ستسافر إلى كورتزباخ، أليس كذلك؟»

«أجل».

قال الرجل بصراحة: «ولا تساورك أي أفكار بخصوص ما ستفعله؟ ألا تخجل من نفسك، من خداع ابنك؟ فما تنوي فعله يجب عليك أن تعترف بأنه خداع صاف، غش».

رد شفام بغضب: «من تظن نفسك؟ أرجوك! كيف تتحدث هكذا؟!» وترك نفسه ينزلق في السرير، وأدخل رأسه تحت الغطاء، وظل على هذا الوضع لحظات ثم نام.

عندما استيقظ شفام في اليوم التالي، لحظ أنه بمفرده في الغرفة. نظر إلى الساعة فأصابه الذعر، لم يبق إلا خمس دقائق فقط على موعد قطار الصباح، ومن المستحيل أن يلحق به.

بعد الظهيرة، لم يكن قادرًا على تحمل نفقة ليلة ثانية في المدينة، فعاد إلى منزله محبطًا وبلا أمل.

فتح ابنه الباب، وكان سعيدًا، يكاد يموت من الفرحة. ألقى بنفسه عليه وخبط على فخذيه فرحًا، وقال: «أحدهم لوح لي اليوم، أحدهم لوح لي لمدة طويلة».

سأله شفام: «بعكاز؟»

«أجل. رجل بعصا. ربط منديله على العصا ولوح بها لمدة طويلة من النافذة، حتى غاب عن رؤيتي».


[1] اسم بطل القصة، ومعناه الحرفي «سفنجة» (Schwamm).


الترجمة خاصة بـBoring Books.

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.