سامح هو عقل المحل، يعود إليه المعلم في السر والعلن ليسأله ويأخذ برأيه، ويمكننا القول إن المحل لم يحصل على تلك الشهرة الواسعة التي يحظى بها الآن في حي عين شمس إلا بعد تعيين سامح.

الخلود في حي عين شمس

قصة كريم محسن


نسخة معدلة عن لوحة العذراء تصلي لجيوفاني دي ساسوفيراتو، عن oraculorecords

-1-

دَق التليفون الأرضي لمحل بيتزا "عمدة إيطاليا".

رد سامح بنبرة صوتية تمرن عليها طويلًا.

نبرة لا تمتلك خصوصية معينة، عمومية، منبطحة للآخر، خدمية، توظف اللغة في استقبال الأوامر وتفعيلها فورًا، لا تسبب الإزعاج لأحد، ملساء على الأذن، حيادية، ناعمة، تتخللها بهجة بلاستيكية لا يصدقها أحد، لكنها ترفع كفاءة الخدمة تلقائيًا. نبرة أدائية، تتأسس على تغييب ملامح الذات، وتشذيب زوائدها. أضاف سامح توابله الخاصة مع الوقت، ليس بهدف تأسيس خصوصية للنبرة العمومية، إنما لتعزيز خدميتها وانبطاحها. فبعد التحية والسلام والاسم والعنوان، يسأل العميل بحميمية غير مبررة: طمني عليك يا فندم؟ يا رب آخر طلب يكون عجب حضرتك. وإذا سمع صوت الأولاد في الخلفية، يستكمل: عندي عرض هيعجب الأولاد جدًا يا فندم، معاه كولا وفرايز.

أغلق سامح الهاتف بعدما استلم الطلب ودَوَّن كافة المعلومات في فاتورة الحساب، بالإضافة إلى ملحوظة جانبية: العميل مرهق ويقاوم النوم، يرجى الاتصال على رقم هاتفه عند الوصول، جرس الباب أصابه عطل تقني صباح اليوم ولن يَسمع صوت الطرق وسط دوامات الإرهاق وبُعد غرفته عن باب الشقة.

بدأ مهاب في التشكيل بالعجينة أمام الفرن ليشعل أجواء المحل ويجذب أنظار المارة والزبائن المحتملة بعد منتصف الليل، رفع صوت المهرجان قبل البدء في العجن واللعب، "الأتاري جات، سامع السارينة، الدايرة يسطا لبش، حكومة بترازينا"، رمى الزيتون والفلفل ثم لَطع قطع الجبنة الموتزريلا على سطح البيتزا، ورماها في الفرن، وأشار لسامح: في الفرن يا ريس.

يستغل سامح فقرات مهاب الراقصة أثناء العمل، ليصور فيديوهات قصيرة ويرفعها على الفيسبوك مع عبارات حماسية تلهب بطون المتابعين الجائعين الهائجين على مواقع التواصل، الباحثين عن مثيرات مؤقتة لحواسهم، تشبع رغباتهم ولو على مستوى الخيال. كان سامح صاحب تلك الفكرة، اقترح على المعلم صاحب المطعم إنشاء صفحة على الفيسبوك والترويج بلغة شبابية من الواقع اليومي المعيش، مع فيديوهات لمهاب أمام الفرن أو مواقف مضحكة بين الزبائن أو عروض توفير عشوائية يتلقفها المتابعون المحظوظون: اشتر بيتزا لارج بداية من الساعة 6 مساءً، واحصل على فطيرة بالنوتيلا والموز مجانًا حتى منتصف الليل فقط.

سامح هو عقل المحل، يعود إليه المعلم في السر والعلن ليسأله ويأخذ برأيه، ويمكننا القول إن المحل لم يحصل على تلك الشهرة الواسعة التي يحظى بها الآن في حي عين شمس إلا بعد تعيين سامح. لذا يغدق عليه المعلم "الحلاوة" من فوق ومن تحت، يتقاضى راتبًا أساسيًا يتقارب مع باقي عمال المحل، لكن بالحلاوة، يصبح راتبه الضعف على أقل تقدير.

البيتزا في الفرن ومهاب ما زال يشكل ويرقص بالعجين مع ابتسامة ثابتة تبرز صف أسنان أصابه عطب أبدي من تدخين الكيلوباترا، وسامح يمسك الموبايل لتصوير فيديو جديد.

وبندق، يجلس مقرفصًا بجوار الموتوسيكل عند باب المحل، يدخن سيجارة ويمرر نظرة تائهة بطول شارع العشرين.

-2-

قام بندق ليتمشى في شارع العشرين الذي أصبحت تشقه الآن بحيرة سوداء، تسبح فيها الميكروباصات والقمامة، ويقفز المارة في حركات بهلوانية بين الرصيف والشارع حتى لا تبتل ملابسهم، هطلت الأمطار منذ ساعتين وغرق الحي في شبر مياه لغياب منظومة صرف قادرة على تحمل 10 دقائق متواصلة من الأمطار الغزيرة. لكن الناس في حركة، سيواصلون السير والعودة للمنازل حتى يستيقظوا في الصباح للعمل والمدارس والجامعات، سيغسلون أحذيتهم المتسخة وينامون، أو يتركونها كما هي.. في الصباح ستكون الشوارع لا تزال على حالتها بنسبة كبيرة.

رن هاتفه، سامح يطلب منه العودة وتوصيل الطلب، فرد عليه بندق بغضب مكتوم: روق على حالك، أنا لسه قايم امشي رجلي شوية.

يحمل بندق لسامح غضبًا مبطنًا في كل الأفعال والكلمات، يحقد على قربه من المعلم وعلى الحلاوة التي يغدقها عليه باستمرار. لكن أكثر ما يغيظه أن سامح يتجنب ظهوره في فيديوهات صفحة المطعم على الفيسبوك، وإذا حشر نفسه بالصدفة في أحد الفيديوهات، لا يرفعه سامح على الصفحة، بل ينتظر خروجه من المطعم لتدخين سيجارة، ويطلب من مهاب الرقص بالعجينة من جديد ليعيد التصوير.

أشعل بندق سيجارة وعاد للمطعم ببطء متعمد جعله يشعر بآلام عضلاته تحت وطأة ساعات العمل، التي تمتد عادة من الضهر حتى منتصف الليل، وأحيانا تتجاوز منتصف الليل في يوم ممطر يفتح شهية الزبائن على بيتزا ساخنة، فتمتد ساعات العمل لتصل لما يزيد عن 14 ساعة من القيادة واللف والدوران وصعود وهبوط السلالم المتعرجة والمكسرة، والجدالات المتعلقة بتأخر الطلب أو أخطاء فاتورة الحساب.

تخيل سامح يشيط غضبًا ويفرك هنا وهناك منتظرًا وصوله، فابتسم ببلاهة من انتصاره الصغير والمؤقت على سلطة سامح، وشعر براحة في عضلاته من التمشية الهادئة المطمئنة. بل لنقل إنه لف في مكانه نصف دورة ليتمادى في تعبيره عن لذة الانتصار أو ليضاعفها داخله فيتضخم إحساسه فوق ما يحتمله الموقف البسيط التافه.

وصل فوجد سامح أمام المحل ممسكًا بعلبة البيتزا في يده وينظر حوله كطفل تائه في مصيف عائلي.

- أنت يا ابني بتستعبط؟

- قولتلك روق على حالك، ماشي؟ أنا شغال من صباحية ربنا، وهكمل شغل وسط المطر والخرا.

نتش العلبة من يده، وركب الموتوسيكل بسرعة منطلقًا وسط بركة المياه الصغيرة المتصلة ببحيرة شارع العشرين، ينفث الهباب الأسود من الشكمان وتتناثر المياه الوسخة من حوله في كل مكان، فسقطت قطرات صغيرة على ملابس سامح، وتقدم على أثرها خطوتين للأمام.. لكنه كبت انفعاله ودخل المحل في صمت.

-3-

يحب بندق إنهاك العمل، تحطيمه لقدراته ورغباته، يحب التأوه في السرير من آلام عضلاته، وفقدانه للتركيز من تفاقم التعب، يمقت ساعات الصباح حين يكون الذهن يقظًا وحاضرًا والجسد نشيطًا، وقتها يعي بوضوح بؤس واقعه ويفكر في سامح وكلبه الراقص مهاب ومرتبه الهزيل الذي لم يعد يحتمل قفزات الدولار المتتالية واشتعال الأسعار يومًا بعد يوم، حتى أنه أصبح يأخذ من 5 إلى 10 جنيهات بالعافية فوق حساب كل طلب، وإذا رفض العميل، يحضر له الطلب في المرة القادمة باردًا ومقددًا، ينتزع حقه عنوة من الحياة ومن جيوب الزبائن. يفضل بداية اليوم بأنفاس من الحشيش الرديء المشبع بالكيتامين وعجائب البرشام في الأرض، فيتسرب إلى جسده خمول لطيف وتناحة وهمدان عام يجعله ينطلق في الشوارع مبتسمًا وغارقًا في نصف غيبوبة. يخدر الوعي والجسد حتى يُنهك نفسه لأقصى درجة ممكنة.

يريد أن يحطمه العمل، يمزق وعيه بالعالم ويفسخ ذاته الهشة، لكن مقابل مرتب أكبر أو مرتب يقفز مثلما يقفز الدولار على طيزه.

ركن الموتوسيكل في حارة جانبية ونزل ليتبول سريعًا. بجوار الحائط، تسرب البول وهو يغني مقطع من "حلف القمر"، الأغنية التي يدندنها كثيرًا في الأيام الماضية. خرج البول متقطعًا، يحتاج دفعة باطنية حتى يتدفق، تشوبه حمرة خفيفة، وقبل أن يفرغ مثانته انفجر نباح كلب خلف ظهره، لم يتحكم في رد فعله وأمسك طوبة قذفها بكامل قوته في عشوائية لا تطمح لإصابة الكلب تحديدًا، إنما لتفريغ شحنة الغضب العالية التي تولدت داخله فجأة، فسقط في بركة من الطين المعجونة بالقمامة والفضلات. خمد هيجانه وسب الدين لنفسه ولسامح وللكلب، ثم ركب المتوسيكل ثانية.

"حلف القمر، يمين وقالي..".

بدأ في الدندنة بعد أربعة أنفاس سريعة من جوينت وجد نصفه في علبة السجائر. خرج على شارع العشرين ثانية يستكمل طريقه، فوجد شابًا ينام على الرصيف ممسكًا رقبته التي يستقر فيها سكين مطبخ يخبئه بيديه الاثنتين ويرتعش جسده في مبالغات درامية تتصاعد نحو ذروة لا تتحقق، لا أثر للدماء على جسده أو على الرصيف، كأن السكين مغروز في وسادة قطنية. شخر بندق، نزل من الموتوسيكل، بل لنقل إنه رمى الموتوسيكل في منتصف الشارع وجرى عليه، استغرب تجاهل المارة من حوله، اقترب منه وامسك كتفيه بحرص، فقد شاهد فيديو على الفيسبوك منذ يومين يحذر من تحريك جسد المصاب بطعنة حتى لا تحدث له مضاعفات خطرة. نَظر له الشاب بعيون ستقابل ربًا كريمًا بعد ثوانٍ، وقبل أن يلفظ أنفاس الوداع قال: الحياة ملهاش أمان، لما تهون العشرة على الصحاب الجدعان.

-4-

عندما استيقظ بندق صباح اليوم، لم يرغب في مغادرة السرير، إنما أراد إغماض عينيه والحفاظ قدر الإمكان على إحساس الغياب رغم الحضور، الوجود على أرض تربط الحلم بالواقع، حيث كل شيء ممكن. الماضي والحاضر والمستقبل، يتضافرون في لحظة واحدة تحت لحافه الدافئ نتن الرائحة من قلة التهوية وندرة التنظيف.

عين تتحسس الواقع، وأخرى تائهة في حلم.

على هذا البرزخ، يسترد نفسه قليلًا أو بالأحرى يصبح متصلًا بماضيه وأسئلته وطموحاته ورغباته.

يقترب بندق من عامه السابع والعشرين وينتظر ضربة الحظ التي يحلم بها منذ سنوات، بعد فشل كل محاولاته في استكمال سنوات الجامعة والحصول على شهادة، بعد سهره الليالي يتعلم الإنجليزية حتى يضمن وظيفة مكتبية تدمجه عميقًا في الطبقة الوسطى وتشكله على هواها وتضبط لسانه وحركاته على نغمة تسمح له بصداقات وعلاقات مع أبنائها. لن يقرفص ابن الطبقة الوسطى معه عند ناصية الشارع أو مدخل حارة لتدخين سيجارة وتبادل أطراف الحديث، هذا ما أدركه بندق منذ زمن.

يحلم بندق بالخلود، أن يمتد وجوده الهش فيعبر الزمن، ويتجاوز المكان فيصل إلى كل بقاع العالم. رغبته في الخلود لا تكشف عن رسالة أو فكرة أو أحلام سلطوية حتى، إنما رغبة مفرغة، بلا أمل في الوصول أو الاستقرار أو التحقق. يريد الانتشار، التواجد هنا وهناك، تحت وفوق. يطمح لخلود مثل فرقعة مدوية بلا أثر، بلا خسائر أو نجاحات.

يفكر في الخلود ذاته، الشكل نفسه وعلاقته بالعالم والناس، يفكر في النتيجة قبل وضع البذور، يحلم بخلود أشبه بقفزة في الهواء، لكن بلا عودة إلى أرض. أن يحرق روحه ويتضاعف وجوده، هذا ما حلم به بندق. أحيانًا يفكر أن رغبته في تدمير نفسه بالعمل المتواصل هي تطبيق عملي ومحدود الأفق والخيال لرغبته في الخلود، كأنه يشعل عود ثقاب فيحترق في صمت، بلا نار أو ضوء. يفقد حدود جسده، فيعانق الأبدية.

لكنه لا يعرف ما العمل؟ وكيف يحقق حلمه المبهم؟ ومن أين ينطلق وهو لا يريد أن يصل؟ كيف ينطلق ويظل ينطلق؟ كيف يصبح فقاعة بلا هواء؟

فتح بندق عينيه على اتصال من سامح، شدته رَنة الموبايل من برزخه الحنون إلى خشونة الواقع وصحرائه.

-5-

سمع صوت تصفيق حاد من خلفه، كانت يداه ما زالتا تمسكان بالجثة المقتولة بسكين الغدر، وجسده مصعوق من خوف ضاعفته دماغ الكيتامين. وجد أربعة مراهقين خلفه يمسك ثالثهم موبايل مثبت على حامل مُصنع منزليًا، يقتربون منه ويصفقون بلا توقف.

أخبروه أنهم يصورون الحلقة الأخيرة من مسلسل قصير ينشرونه تباعًا على صفحتهم على الفيسبوك، قرروا أن يكون مسلسلًا جادًا يتناول قضايا وآفات مجتمعية، بعد إسكتشات هزلية قصيرة مكنتهم من جمع عدد لا بأس به من المتابعين في البداية. موضوع الحلقة كان غدر الصحاب وتمزق النسيج الاجتماعي وهشاشته، كان سيناريو الحلقة سينتهي بصاحبهم الخامس ينام في الشارع مقتولًا لا ينتبه إليه أحد، تأكيدًا على موضوع الحلقة وسؤالها الأخلاقي، لكن بندق تدخل في اللحظات الأخيرة ليبث الأمل ويغير مسار السيناريو.

سألهم وهو يكتم ضحكته، هل ظهر بوجهه في الفيديو؟ قالوا له لا، لكنه يمثل جيدًا بظهره مثل الفنان أحمد زكي، قال له أحدهم: تأويلي للمشهد أن ظهورك بظهرك يعبر عن ضمير الإنسانية كلها. كأنك رمز لما نفتقده.

انتبه بندق إلى تأخر الوقت بعدما نظر في ساعته المشروخة، أمسك بالهاتف المعلق في الحامل المنزلي وقام بإضافة نفسه على الفيسبوك وقال لهم: بقولكم ايه اسمي على الفيسبوك أحمد بندق، حطوا اسمي في بوست الفيديو وقولوا مع ظهور خاص لبندق.. سلام.

شَرخ بالموتوسيكل متجاهلًا سباب المارة من حوله، واسترق السمع لهاتفه من وسط زمجرة الشكمان، كان يأمل سماع صوت تطبيق الفيسبوك يخبره أن طلب صداقته قُبل من صاحب الهاتف الذي لا يعرف اسمه، وبعد دقائق سينسى شكله.

-6-

الأجساد المقتولة في الشارع والملقاة في الطرقات، تبحث هي أيضًا عن خلودها الخاص. لم تمت تلك الأجساد بَعد، لكنها تحاول للمرة الأخيرة أن تكون أكثر من ذاتها، أن تكون بشعة ومفزعة وقاسية ومقززة. لحم رخو ينزف وينز ويتألم، متكومًا على الرصيف لا يطلب منك شفقة أو مساعدة، دعه لطموحه أن يكون كثرة مبعثرة، وليس جسدًا منظمًا.

كان بندق يعلم ما حدث لشوارع عين شمس في السنوات الأخيرة، عندما تحولت تدريجيًا إلى ساحات عروض تفاعلية كبرى، تصور بالهواتف وتبث عبر الهواتف. لم يفكر أبدًا في المشاركة، رغم نماذج كثيرة خرجت منها وأصبحوا نجومًا في التليفزيون الآن، يظهرون في برامج مسائية على محطات فضائية، ويخبرونا عن معاناتهم في الحياة واجتهادهم في الصعود من تحت لفوق، يغنون في فقرات مرحة رغم أنهم لا يعرفون شيئًا عن الغناء والموسيقى، لكن المذيع يحاول تسلية المتفرج المَلول بطبعه، الباحث عن تسلية يدفع بها اليوم إلى نهايته، حده الأقصى، حيث لا يوجد بعده غير النوم والغياب. كان يكتفي بالمشاهدة من بعيد أو الظهور وسط الجماهير المبعثرة في أحد الفيديوهات أو الضحك بصوت عالٍ على أمل أن يعرف أحدهم طبقة صوته ويميزها يومًا ما.

وعندما اقتحم العرض أخيرًا، ظهر بقفاه.. قفا الإنسانية، مسخها.

وصل إلى عمارة العميل في شارع مصطفى نصار، صعد ورن الجرس، طرق ثم رن ثانية، اتصل به، ألصق أذنه بالباب يسمع نبض الشقة، نزل لا يعرف ماذا يفعل، ولما اتصل سامح يستفسر عن تأخره، أغلق هاتفه ووضعه في جيبه.

استند بظهره إلى الموتوسيكل وأشعل سيجارة. لمح شابة في منتصف العشرينات تقف في بلكونة الدور الثالث، تضع حجابًا أبيض على رأسها على طريقة مريم العذراء وتمسك هاتفًا في يدها، تستند على السور ويُظهر وجهها ملامح سأم واضح، لا تدري ماذا تفعل بنفسها أو يومها، عيناها سارحتان في العمارة التي ترتفع عشرة أدوار أمامها، وتحجب عنها السماء والحياة.

تظاهر بأنه لا يراها، ثم وقف أمام الموتوسيكل وبدأ يغني مغمضًا عينيه عندما سقطت على أنفة قطرتين من المطر:

"حلف القمر يمين وقالي

يا حلوة ساعة ما شافك

حلف القمر يا قمر يا قمر

يمين وقالي

يا حلوة ساعة ما شافك

في الحسن لا بعدك ولا قبلك يا روحي

يا روحي كملت أوصافك يا يا روحي".

اندمج في الغناء حتى نسى نفسه أو تظاهر بنسيان نفسه، سمع صوت ضحكات وشخير وأشخاص يقتربون منه ويحومون حوله، بل شعر (لكنه غير متأكد) أن أحدهم صفعه بخفة على قفاه وآخر شده من شعره. فتح عينيه عندما انتهى من الغناء، ثم قفز سريعًا على الموتوسيكل وطار في الشوارع لا يريد مواجهة ما فعله أو رؤية أثره. وصل البيت ودخل سريره، لف جوينت سريع ودخن نصفه في أنفاس متلاحقة، وعندما ضربه جوع الخربان العظيم أكل بيتزا العميل، ثم نام مكانه ويديه غارقتين في الزيت والصلصة.

-7-

استيقظ لا يعرف كم الساعة. كان تلك الصباحات التي يبدو فيها كل شيء يحدث ببطء غير معتاد، فالنوم كبح جموح المساء، وغير مسار الحياة نحو بداية جديدة غير متوقعة.

لم يفتح هاتفه من ليلة أمس.

متجاهلًا برودة ديسمبر، خلع ملابسه وحصل على دش بارد لا يشبه إلا النسيان، خرج منه يرتعش وينتفض. ارتدى ملابسه ونزل إلى الشارع شعره ملتصق على رأسه يقطر قطرات صغيرة من الماء على الجاكت الجلد الأسود، وانطلق بالموتسيكل يلفح الهواء البارد وجهه، فشعر بدفقة من الهدوء تسري في روحه لن ينساها أبدًا.

عندما وصل إلى المحل، وجد سامح والمعلم ومهاب يقفون ملتصقين بالقرب من الكاشير، جسد واحد بثلاثة رؤوس، عيناهم مدهوشة وتعبيرات وجوههم مضطربة مذهولة، يحدقون في شاشة موبايل سامح الذي يخرج منه صوت بندق وهو يغني "حلف القمر". وعندما شعروا بتوتر وجوده حولهم، نظروا إليه ثلاثتهم في نفس اللحظة، كأن وجوههم مربوطة بخيط رفيع واحد.


* القصة خاصة بـ Boring Books

** يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بنصه دون إذن منه