من الخطأ فهم تقرير نيتشه بـ "موت الإله" على أنه حكم، فلعبارة نيتشه معنى حرفي أكثر مما نعتقد. لم يقتل نيتشه الإله، بل ينقل خبر موته.

كيف يمكن أن نحيا بالفلسفة؟

مراجعة لكتاب تود ماي، "كيف يمكن أن نحيا؟ مقدمة لفلسفة جيل دولوز"، ترجمة: أحمد حسان، الصادر عن دار هنًّ للنشر والتوزيع

مراجعة: محمد مهدي


جيل دولوز

يقدم تود ماي[1]*، في كتابه الأبرز حول فلسفة جيل دولوز، وتأويل الأخير لنيتشه ومفاهيمه، تحليلًا عميقًا لمعنى "موت الإله" رابطًا إياه بنزوع التفسير عند نيتشه، قبالة نزوع الحكم على الحياة مع الفلسفات السابقة. ويجعل تود ماي الحكم على الحياة مسألة مستترة، يبرز نيابة عنها سؤال حَكَمَ الفلسفات السابقة كلها، حتى حدود كانط، والسؤال هو: "كيف يجب أن يحيا المرء؟"[2]. وتتفرع أسئلة تابعة لهذا السؤال الحاكم: ما المسار الذي يجب أن تأخذه الحياة الإنسانية؟ ما هو الدور المناسب للإنسان في الكون؟ ويأتي الجواب في هيئة فلسفات جامعة، تبدأ بالنظر الأنطولوجي، متبوعًا بالنظر المعرفي، منتهيًا بإلزامات قيمية ترى للكائن الحي ماهية محددة، في ضوء ما سبق وتقدم من نظر. يقول لسان حال الفيلسوف المحتكم إلى صيغة السؤال هذه: وفق ماهيتك التي حددتها بالنظر لما قدمته لك عن الوجود والمعرفة، يتوجب عليك أن تحيا وفق الجانب القيمي من الفلسفة التي سأقدمها، "بالنسبة لأفلاطون، يتمثل هذا النظام في السعي إلى الخير، أما بالنسبة لأرسطو، فإنها مسألة أن يحيا المرء غائية إنسانية بنحو خاص، ولا يشك أيهما، كما لا يشك الآخرون، مثل الرواقيين أو الأبيقوريين، في أن للكون نظامًا خاصًا، توازنًا وشكلًا عامًا يجب أن تعكسه أو تتوافق معه حيوات الكائن الإنساني".[3]

مع حلول أواخر القرن الثامن عشر، وبالتحديد مع كانط، تم استبدال بالسؤال القديم سؤال حديث: "كيف يجب أن يتصرف/ يفعل المرء؟[4] قد يبدو ظاهريًا أن السؤال الحديث هو ذاته السؤال القديم، فالمرء يحيا من خلال أفعاله، وشكل حياة المرء لن يكون أكثر من محصلة أفعاله. بالفعل، قد نقول إن هذين السؤالين ليسا سؤالين مختلفين، بل هما شكلان مختلفان، أو صياغتان مختلفتان لنفس السؤال. لكن، وكما يتجلى لعين مدققة، يجري تغيير معطى وحيد في التصور القديم، يعطي الحق للقول باختلاف السؤالين تمامًا؛ ما يتغير هو دور الكائن الإنساني، إذ لم يعد الإنسان واجدًا مغزى وجوده في نظام كوني يكون هو جزءًا منه، بل يتم الحكم على الإنسان من خلال سماته الذاتية. يتم سؤال الإنسان أمام الإله أو أمام القانون الأخلاقي، لا أمام نظام يكون الإنسان منظورًا إليه فيه بنحو تال. يقف الرجال والنساء وحيدين أمام أفعالهم وأمام قاض تُقدَّم إليه تلك الأفعال، وليس ثمة مجموع أكبر (أو على الأقل لا مجموع أكبر من مجتمع المرء) يتطلب مشاركة المرء فيه. تختلف أفعالي عن حياتي ككل، ولم تعد حياة المرء ككل مدار اهتمام الفلسفة الحديثة. نجد ترجمة لهذا التغيير المهم مع كانط، فيأتي بصياغة جديدة للآمر الأخلاقي المطلق: "اعمل دائمًا بحيث يكون في استطاعتك أن تجعل من قاعدة فعلك قانونا كليًا للطبيعة"[5]، صياغة جديدة تشي بالقطيعة مع التصور الأخلاقي القديم، صياغة تضع القالب دون إلزام بمضمون، صياغة لا تلزم بسلسلة من المبادئ والقوانين واجبة الاتباع، أنت ملزم فقط بانتهاج قالب سلوكي[6]. لم يعد الإنسان جزءًا من نظام عام كلي يفرض على الإنسان سلوكًا محددًا يتواءم به وفقه معه. ثورة كوبرنيقية على المستوى القيمي، يكون سؤالها الحاكم هو: على أي نحو يجب أن يتصرف المرء؟ وسؤالها الفرعي هو: "كيف يكون في الإمكان قيام أخلاق، أعني نظامًا من القوانين الحرة المتمايزة عن القوانين الطبيعية، إلى جانب نظام الطبيعة؟[7] يصير السؤال الجامع، في الحقبة الحديثة، أقل انشغالًا بالشكل الكلي لحياة المرء، ما يهم هو ما إذا كان المرء يفعل (يتصرف) بالطريقة الصحيحة، أم لا، ما إذا كان يفي بالتزاماته، أم لا. لم يعد المرء ملزمًا بالبحث عن مكانه الصحيح في نظام الأشياء، وبدلًا من ذلك يجب أن تخضع أفعاله للسؤال، بصفته عضوًا في المجتمع، بصفته عبدًا أمام الإله.

يعتبر الكثيرون أن تغيير السؤال خسارة فلسفية كبرى، لأنه قد ينتج عنها من ازدواجية بين الحياة والسلوك، الأمر الذي قد يُنتج تصدُّعًا بين حياة المرء الخاصة وبين سلوكياته. ويؤكد آخرون أن في الصياغة الحديثة للسؤال الجامع توسيعًا لمجال الحرية في اختيار الحياة التي يود المرء إبداعها. فلا يجب أن تشرِّع الفلسفة لمسار حياة المرء، أو للشكل الذي يجب عليه أن تأخذه، أو حتى ما إذا كان يجب أن تأخذ الحياة شكلًا متماسكًا. لا بد لكل منا أن يجيب، وحده، على الالتزامات المطروحة أمامه، وفيما وراء ذلك، ليس من شأن الفلسفة أن تشرع ما يجب أن نكونه أو ما نصبح عليه، فهذا شأننا الخاص.[8]

مع نيتشه، ومفهوم "موت الإله"، تأتي صياغة مختلفة تماما لسؤال الفلسفة الحاكم. وفق تود ماي ـ إذ لم يعد السؤال: كيف يجب أن تحيا؟/كيف يجب أن تتصرف؟ فهذان السؤالان، أو هذا السؤال ذو الصياغتين المختلفتين، ينبني على تصور متعالٍ رأسي للعالم، يضع الحقيقة التي يضعها الفلاسفة فوق هذا العالم لمحاكمته بها، سواء أخذت الحقيقة اسم إله أو مثال الخير أو الغاية أو العقل...إلخ، في حين أن نيتشه يقدم المحايثة والنزوع التفسيري، ضدًا على التعالي ونزوع الحكم، يقدم الإمكان ضدًا على الضرورة، فيقدم سؤالًا حاكمًا للفلسفة لا يحوي كلمة ضرورة، أو وجوب، بل يقول: كيف يمكن أن يحيا المرء؟[9] يمكن مقاربة مفهوم نيتشه هذا مقاربات عدة، مقاربات يجملها بعضهم في عشر مقاربات ومعانٍ مختلفة لمقصد نيتشه من موت الإله، ويقدم دولوز نفسه ثمانية معان لموت الإله[10]، ويقول إن هذه المسألة يمكن النظر إليها من غير وجهة، ذلك "لأن الآلهة حين تموت، فإنها تموت بطرق كثيرة"[11]، ومن هذه الوجهة، يعني موت الإله موت التعالي، يعني انتفاء كل الرؤى القديمة التي رفعت الحقيقة وتجلياتها فوق هذا العالم، وراحت تحاكم العالم بالنظر إليها. يعيد "موت الإله" طرح السؤال بالنسبة لنا، يمكننا أن نسأل من جديد عما يمكن أن نفعل بأنفسنا في هذا العالم الذي نسكن، يمكننا أن نكف عن إنكار أحلامنا ومشروعاتها باسم تعالٍ يحكمنا. يمكننا تفسير هذا العالم بمعطيات من هذا العالم، لا الحكم عليه من شيء ننصبه خارجه.

من الخطأ فهم تقرير نيتشه بـ "موت الإله" على أنه حكم، فلعبارة نيتشه، التي أخذها من ترنيمة لوثرية[12] معنى حرفي أكثر مما نعتقد. لم يقتل نيتشه الإله، بل ينقل خبر موته[13]. لا يتعلق الأمر برأي شخصي، ولا يدخل نيتشه في جدل ميتافيزيقي حول مسألة موت الإله، ولا يبرهن على عدم وجوده[14]، ولا يمكن فهم هذه القضية في إطار مفهوم الإلحاد بمعناه السائد، بل يتعلق بنقل حدث موضوعي، حدث هو الأهم في أزمنة أوروبا الحديثة[15]. لا تتعلق المسألة بتبشير بوجود إله، أو بجدل صبياني مناكف بشأن غياب وجوده، وهذا ما يلاحظه هيدجر حين يقول "قد نعتقد أن عبارة (مات الإله) تعبر عن وجهة نظر نيتشه الملحد، وبالتالي لا يتعلق الأمر سوى باتخاذ موقف شخصي متحيز يسهل دحضه بالإحالة إلى مثال عديد الأفراد الذين يذهبون، أينما كانوا، إلى الكنيسة ويؤدون شعائرهم بثقة مسيحية بالإله... لكن لندقق الأمر مرة أخرى: تسمي كلمة نيتشه مصير عشرين قرنًا من التاريخ الغربي"[16]. وهذا أيضا ذات موقف ألبير كامو، حيث يرى أن نيتشه لم يقتل الإله، كما يعتقد نقاده المسيحيين، بل إن نيتشه وجده ميتًا في روح عصره[17].

إن عبارة موت الإله عبارة تعددية، أي أن لها أكثر من معنى، وينطقها أكثر من فرد. فهي تعني، من بين معانيها المتعددة؛ موت التعالي، ويرتبط هذا المفهوم مباشرة بالحداثة الغربية، فالحداثة ليست مجرد تغيير كيفي في تناول العقل بين الإنسان القديم والإنسان الحديث، بل هي إحلال للإنسان محل الإله، فالإنسان الحديث يخنق الإله ويميته، ويحل مكانه، بنحو تدريجي. إن موت الإله حدث يميز أوروبا الحديثة، بل إن موت الإله تجسيد للطور الحديث من أطوار العدمية، عدمية ليست حدثًا عارضًا في تاريخ الإنسانية، بل هي محرك التاريخ بما هو كذلك،[18] حيث تم إحلال الإنسان محل الإله في كل مناحي الحياة، إحلال بدأ مع اضمحلال فكرة الإله خلال القرن الثامن عشر، وامتد ليكون مع الأنوار مجابهة الديانات بدين طبيعي، وقلصت الثورة الفرنسية من سلطته، حتى لو لم تنفِ فكرة الإله تمامًا، بل نجحت في الحد من سلطته في المجال السياسي. والذي رجَّ فكرة الإله في مستوى وعي الإنسانية "الأوروبية"؛ علوم القرن التاسع عشر الوضعية، أو كما يقول تورين في عبارة جامعة "تحل فكرة الحداثة فكرة العلم محل فكرة الله في قلب المجتمع"[19]. سنحت للإنسان فرصة مواتية لكي يعيد إبداع قيم جديدة حين "مات الإله"، لكنه لم يلغ الموضع، ظل مبقيًا عليه. "هل نتوقف عن كوننا متدينين حين نتداوى من الدين؟ هل يتغير الشيء الكثير حين نحيل الثيولوجيا إلى أنثروبولوجيا؟ هل نلغي الشيء الجوهري، حين نحل الإنسان محل الإله؛ الموضع؟"[20] وهنا يمكن لنيتشه أن يهتف ثانية، ولكن بنبر مختلف: كيف يمكن أن نحيا في معطيات كهذه؟


[1]*  Todd Gifford Mayأستاذ الفلسفة في قسم الفلسفة والديانة،  جامعة كليمسون، جنوب كارولينا.

[2]Todd May, Gilles Deleuze: An Introduction, Cambridge University Press, New York, U S A, 2005, p. 4. وللكتاب ترجمة عربية، تود ماي، كيف يمكن أن نحيا؟ مقدمة لفلسفة جيل دولوز، ترجمة: أحمد حسان، دار هنًّ للنشر والتوزيع، القاهرة، ط 1، 2022.

[3]Ibidem

[4]Ibidem

[5]زكريا إبراهيم، كانت أو الفلسفة النقدية، مكتبة مصر، الفجالة، ط2، 1972، ص 142.

[6] "إن القانون كشكل صوري فارغ في (نقد العقل العملي) يتوافق مع الزمن كشكل صوري خالص في (نقد العقل الخالص).  لا يقول لنا القانون ما يتوجب علينا ولكنه يقول لنا فقط "يتوجب"، مع احتمال أن نستنبط منه الخير بمعنى موضوعات هذا الأمر الخالص"راجع: الصياغة رقم (3) من الصياغات الشعرية الأربع، والتي يمكن أن تلخص فلسفة كانط، تقديم دولوز للطبعة الانجليزية لكتابه عن كانط. Gilles Deleuze, Kant's Critical Philosophy: The Doctrine of the Faculties.,op cit,.  preface. .

[7]زكريا إبراهيم، كانت أو الفلسفة النقدية، مرجع سابق، ص 131.

[8]Todd may, op., cit, p. 5

[9]Todd may, op., cit, p.7

[10]من بين معاني موت الإله المبثوثة في نص دولوز، أولًا: موت الواحدية وميلاد التعدد " (ص 8، نيتشه والفلسفة، المعني)، ثانيًا: موت الإله كقضية تشخيصية درامية، لا كقضية تأملية تفكرية، أو موت الإله كعدمية ارتكاسية (ص 195، نيتشه والفلسفة، موت الإله)،  ثالثًا: موت الإله على يد أقبح العالمين...رابعًا: موت الإله اليهودي المحلي ليصير مع المسيح إلهًا كوسموبوليتيًا عالميًا (ص 196، نيتشه والفلسفة، من وجهة نظر العدمية النافية، لحظة الضمير اليهودي والمسيحي)، خامسًا: استيلاء القديس بولس على هذا الموت، يعطي تفسيرًا لموت الإله سيشكل المفهوم المسيحي له، يموت المسيح لأجل خطايانا، لقد قدم الدائن ابنه شخصيًا، دفع لنفسه ابنه شخصيًا، لشدة ما كان دين المدين هائلًا. لا يقتل الأب ابنه ليكون مستقلًا عنه، بل لأجل خطايانا (ص 197، نيتشه والفلسفة، من وجهة نظر العدمية النافية، لحظة الضمير اليهودي)، سادسًا: يخنق الإنسان الارتكاسي الإله، ويحل مجله، يخنقه ناكر الجميل هذا، الذي أحبه الإله جدا (ص 199، نيتشه والفلسفة، من وجهة نظر العدمية الارتكاسية، لحظة الضمير الأوروبي)، سابعًا: تماشيًا مع قول نيتشه بشأن القوة، فإن الشيء لا يبلغ معناه الحق فور حدوثه، بل يحتاج الأمر وقتًا لكي تتبين أي القوى التي تسيطر عليه، فعلى عكس ما رأى هيجل، ليس موت الإله معارضة متجاوزة، ليس تصالحًا بين المتناهي واللامتناهي، ليس وحدة بين الله والإنسان، يلزم بعض من وقت لكي يمر فيه الحدث بأطوار يصير فيها "لذاته" ما هو الآن "في ذاته" ولكن بمعنى آخر يختلف عنه مع هيجل، وهذا هو موت الإله من منظور فلسفة إرادة القوة، وهو مختلف عن التصور الجدلي الذي يظل قابعًا في مجال الأعراض، يصير الموضوع محمولًا، ويصير المحمول موضوعًا، تتبادل الحدود أدوارها فقط دون تقديم أي تفسير، كل شيء مع هيجل يحدث في المناطق الوسطى، ويسمي دولوز تصور هيجل لموت الإله تصورًا عدميًا ارتكاسيًا (صـ 202، نيتشه والفلسفة، ضد الهيجلية)، ثامنًا: موت الإله كحدث بهيج، كفرصة للإنسان بأن يتجاوز التناول الارتكاسي للوجود، فرصة لإخضاع موت الإله لدورة العود الأبدي الفاعلة، فرصة لإحلال ديونيزيوس مقطع الأوصال، ديونيزيوس التعدد والمرح، مقابل المسيح المصلوب الارتكاسي (ص 243، نيتشه والفلسفة، ديونيزيوس وزرادشت).

[11]نيتشه والفلسفة، ص 195 (مات الإله)

[12]Gilles Deleuze, What is grounding?, Trans: Arjen Kleinherenbrink, The New Centre for Research & Practice, Broadmoor, 2015, p. 84

[13]نور الدين الشابي، نقد نيتشه للحداثة، رسالة دكتوراه غير منشورة، إشراف: على الشنوفي، جامعة تونس، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، ص 131

[14]جيل دولوز، نيتشه والفلسفة، ترجمة: أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، لبنان، ط1، 1993،  ص 195 (مات الإله)

[15]نور الدين الشابي، نقد نيتشه للحداثة، مرجع سابق ص 132

[16]Martin Heidegger, The question concerning technology and other essays, Trans. William Lovitt, Garland publishing, New York, 1977, p. 57 "Nietzche's Word: "God Is Dead".

[17] نور الدين الشابي، نقد نيتشه للحداثة، مرجع سابق، ص 130

[18]جيل دولوز، نيتشه والفلسفة، مرجع سابق، ص 195 (تحليل الشفقة)

[19] ألان تورين، نقد الحداثة، ترجمة: أنور مغيث، المشروع القومي للترجمة، 1993، ص 29.

[20]جيل دولوز، نيتشه والفلسفة، ص 114 (نيتشه وكانط والنقائض)


* المراجعة خاصة بـ Boring Books

** يحتفظ المؤلف بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمراجعته دون إذن منه