مستقبل مشطوب عليه مسبقًا! عالم مُتباك!

حين ينطبق قناع الإنسان على وجه الأرض، تصير أعينها مفقوءة.

ولد رنيه شار في 14 يونيو 1907 في بلدة  لِيلْ سور لا سورج بمقاطعة الفوكلوز في منطقة بروفانس-رون-آلب. بدأ الكتابة في سن الخامسة عشرة  ونشر قصائده الأولى في سن 21 سنة 1928 في ديوان "أجراسٌ فوق القلب"، وسرعان ما أحرق صحائفه. غير أن بول إيلويار الذي تلقى إحدى هذه الصحائف، سيذهب إلى بلدة ليل-سور-لاسورج  لزيارة  هذا الشاب النكرة [حينئذ]  الذي يُعَرِّفُ نفسه منذ القصيدة الأولى  كـ "مدرب التنويم المغناطسي".  في الشهر الموالي، سيصعد  شار إلى باريس  ليلتقي بأراجون وبريتون وكروفيل وكل الجماعة الحركة السريالية التي سيلتزم معها بعض الوقت، لكنه سينفصل عنها في عام 1934 لاستعادة استقلاليته التي ستشكل سمته الخاصة المطلقة.

قاوم  الاحتلال النازي لفرنسا، وكان عضوًا في الجيش السري تحت اسم ألكسندر. و انخرط في صفوف القوات الفرنسية المقاتلة برتبة نقيب. في عام 1943، كان مسؤولًا عن الإنزال الجوي للمقاومين من لندن والجزائر، وتخزين الأسلحة، وتنظيم الاتصالات اللاسلكية، فضلًا عن النقل السري. سيفقد خلال الحرب العديد من رفاق السلاح  ومنهم الشاعر اليافع روجي برنار الذي سيكتب عنه بعض القصائد. 

غالباً ما يُستعمل مصطلح "شذرة" أو "شظية" لوصف جوانب معينة من شِعر شار ( دواوين "طاحونة أولى"، "الصباحيون"، "الكلام أرخبيلاً "، "وُرَيْقات هيبنوس")،  لكنه هذا التوصيف لا يصح إلا إذا اسْتُخدِم في أحد المعاني الأصلية للكلمة  -كما هو الحال مع الزهرة "كاسرة الصخر"، التي يستخدمها الشاعر: حيث يتساءل في بداية  نصه المعنون "من أجل بروميثيوس كاسرٍ للصخر": "ما هو الواقع بدون طاقة الشعر المخلخِلة؟"،   بورتريه ذاتي للشاعر (الكلام أرخبيلًا). وباعتباره قِرِّيئاً للفلسفة اليونانية،  ولهيراقليط أولاً وقبل كل شيء، يَعلم شار تمام العلم أن الشذرة/الشظية ليست سوى بُقْيَا نصٍّ ضاع جُلُّهُ. 

في تقديمه للترجمة الكاملة لأعمال هيراقليط التي أنجزها إيف باتيستيني (دفاتر الفن ، 1848) كتب شار ما يلي:

"إن هيراقليط، من بين الجميع، هو  الذي رفض تجزيئ السؤال الهائل، الذي  قاده إلى إيماءات الإنسان وذكائه وعاداته دون التخفيف من لهيبه (...). كان يعلم أن الحقيقة نبيلة وأن الصورة التي تكشفها هي المأساة. لم يكن يكتفي بتعريف الحرية، فقد اكتشف أنها لا تُجْتَثُّ (...) في قلب الأبدية. لقد أقنعته نظرته، نظرة النسر الشمسي وحساسيته الخاصة (...) بأن اليقين الوحيد الذي نمتلكه لواقع اليوم الموالي هو التشاؤم، وهو الشكل الكامل للسِّرِّ المكنون الذي نَرِدُهُ  كي ننتعش، وننتبه وننام (...). 

هذا العبقري الأبيّ والثابت والقلِق (...) يمتلك سلطان القوة السامية التي تُصيبُ اللغةَ بالانفتاح وتمنحها الحركة (...). وفي ما وراء درسه يبقى الجمال بلا تاريخ (...) ".

ولكنه قارئ أيضًا لِ "صواريخ"* بودلير و ومضات نيتشه ("إن بودلير هو الذي يؤجل ويرى بجلاء من قارب المعاناة لديه، عندما يصفنا كما نحن. نيتشه الزلزالي على الدوام، يرسم خريطة كامل أراضينا الشِّقاقية. الاثنان هما سقَّاءيَّ"). يرى شار في الشذرة/الشظية إمكانية حصر فكرةٍ في بضعة أسطر قوية، وهذه الفكرة في تقلصها وانقباضها، هي  الشعر تحديدًا، وهي أبعد ما تكون عن  تراخي النثر. يبدأ ذلك من الفكرة المجمَّعة ولكن الجليّة: " يرغب الغباء في التحكم. ولانتزاع حظوظه، سنبدأ بإطلاق النار على هذه القُرى المترعة  بالحس السليم"؛ وصولًا إلى قصيدة الهايكو المبهمة، وإن كانت واضحة:

"مرحبًا، أيها الصياد ذو المِخْلاة المسطحة

لك  أنت أيها القارئ، أن تقيم العلاقات.

شكرًا لك أيها الصياد ذو المخلاة المسطحة.

لك، أيها الحالم، أن تُيَسِّر العلاقات

* "صواريخ- قلبي عاريًا" ، هي مذكرات شخصية في شكل شذرات نُشرت بعد وفاة بودلير سنة 1887، يلخص فيها الشاعر "حياته الفكرية والأخلاقية" الاستفزازية والمتناقضة بكل كثافة وتقتير. كتب بودلير رسالة إلى أمه "أريد أن أخلق إحساسًا دائمًا بأنني غريب عن العالَم ومعتقداته وطقوسه". نكتشف في هذه المذكرات حياة ثانية لبودلير أكثر استيهامًا، حياة تَعْبُر كل السنوات التي كان فيها الشاعر يعيد خلق ذاته في كل ما يدمره.


لوحة خوان ميرو، الحقل المزروع، عن ويكيبيديا

بُقيَا

إلى لويس فرنانديس

مم تعاني؟ وكأن صولة وجه جمدته مرآة لاذعة تستيقظ في المنزل. وكأنك ترفع إلى حلقك المخنوق الطاولة القديمة بفاكهتها، والمصباح العالي وسطوعه المخفضين فوق طبق أعمى. وكأنك تحيي من جديد هروبك في غبشة الصبح للقاء الثورة المحبوبة، تلك التي تمكنت، أفضل من أي رقة، من إنقاذك والسمو بك، البوابة الجليلة والسبيل الذي يؤدي إليها.

مم تعاني؟

من اللاواقعي السليم في الواقع المدمَّر. من مراوغاتهما المغامرة المحاطة بالنداءات وبالدم. مم اختير ولم يُمسّ، من ضفة القفزة إلى شاطئ الوصول، من الحاضر الغافل الذي يزول. من نجمة دنت والتي، يا لحماقتها، ستموت قبلي.

لعبة بكماء

بنواجذي

قبضت على الحياة

على مدية شبابي

بشفتيّ اليوم

بشفتيّ فقط

وافدةٌ قصيرة،

وردة المنحدَر

شوكة الجوزاء

تبدَّت من جديد.

تقليدُ النيزك

الأمل الذي أغويه

الانهيار يعُبُّني

حيثما يشدو المرج

أوجد، وأوجد.

النجوم تفتري علي

السماوات التي تبتكرني.

لا أحد سواي

يمر من هنا،

سوى طائر الليل

ذي الأجنحة المذنَّبة.

*

جسدٌ شاحبٌ متاح

فوق سريرٍ ضيق.

جسدٌ حامضٌ مهزوم

يغرقُ في النفق.

امكثْ في النافذة

حيث حُمَّاك تخفق

أيا قلبًا متطوعًا

عدّاءٌ تقاتل!

فوق الصقيع الذي يربو،

إنك لخالدُ.

على منزل جاف

إن كان عليك أن ترحلَ من جديد، خذ مُتكأً على منزلٍ جاف. لا تقلق بخصوص الشجرة، ستتعرف عليه بفضلها، من بعيد. ثمارها نفسها ستسقيها.

مُشرقةً قبيل دلالتها، توقظنا كلمةٌ، تهبنا صفاءَ النهار، كلمةٌ لم تحلم.

[...]

ضع نفسك مكان الآلهة، وانظر إلى نفسك. مرةً واحدةً حين تولد مبادلًا، جسدًا نُزعت أعشابه حيث يرسو البلى. أنت لا مرئي أكثر منها، وتتكرر أقل.

للأرض أيادٍ، القمر يعدمها. الأرض قاتلة، القمر آسف.

[...]

الحرية هي الفراغ، لاحقًا، فراغ يستحيل إحصاؤه. وبعد ذلك، أعزائي المساجين أصحاب السمو، هي الرائحة القوية لخاتمتكم. كيف لها أن تفاجئكم؟

هل يجب عشق هذا العُري المُعطِب، ثُريا حقيقية ذات قلب جاف، دم متشنج.

[...]

مستقبل مشطوب عليه مسبقًا! عالم مُتباك!

حين ينطبق قناع الإنسان على وجه الأرض، تصير أعينها مفقوءة.

[...]

هل نحن حانقون إلى الأبد؟

مطليّون بجمالٍ آمن؟

كان بإمكاني اتخاذ الطبيعة شريكةً، والرقص معها في كل الحفلات. كنتُ أحبها. لكن اثنين لا يتزوجان في قِطاف العنب.

[...]

كان عشقي يفضل الثمرة على شبحها. كنت أقرن أحدهما بالآخر، ثائرًا ومنحنيًا.

ثلاث مئة وخمسة وستون ليلًا دون نُهُر، شديدة الحلكة، ذاك ما أتمناه لكارهي الليل.

[...]

لا تُشذب اللهب، لا تُقلص الجمرة في ربيعها. الهجرات، في الليالي الباردة، لن تتوقف لدى رؤيتك. نُكابد أرق نياغارا ونبحث عن أراض مكلومة، أراضٍ قميئة بإشجاء طبيعة مسعورة من جديد.

[...]

عواصفنا جوهرية لنا. في نسق الآلام، المجتمع غير خاطئ حتمًا، رغم ساحته الضيقة، جدرانه، انهياراتها وترميمها المتتالين.

لا يمكن مضاهاة الصورة التي يكونها الآخر عنا، سرعان ما يضيع التناظر.

هارب الأرخبيل

الجوزاء،

مُصبَّغًا باللانهاية وبعطش أرضي،

لم يعد يثلِم سهمه بمنجل قديم،

بسمات مسودة بالحديد المتفحم،

وقدم متيقظة دومًا لتفادي الصدع،

طاب له المقام بيننا

وبقى.

همس بين النجوم.

هذا الأزرق ليس لنا

الجوزاء

(برج) الثور

كنا في دقيقة التميز الأقصى.

وجب إعادة المدية إلى موطنها. وحُمرة اللحم التناظرية.

قلةٌ خبروا النظر إلى الأرض التي يحيون فوقها ورفعوا التكلفة معها مخفضي البصر. أرض النسيان، أرض مقبلة، نعشقها برعب. والرعب انقضى..

لكل ساعته الرملية للتخلص من الساعة الرملية. المضي قدمًا في التدفق في الضلال.

من يوصل الرسالة لن تكون له هوية. لن يَقمع.

التشكيل في نهاية العالم، أليس هذا ما نقوم به كل ليلة فوق وجه متكالب حتى الموت؟

الأداة التي قد تكشف يدنا المنزوعة الذاكرة معروفها في كل لحظة، لن تشيخ، ستحافظ على اليد سليمة.

حينها اختفى الرجال ذوو الكيس الصغير وسط الضباب.

ضفدع

يُفضي ضفدع إلى القصبة التي تسحبه بسره. الغصن الرطب ينزع فستانه. اللحاء والوريقات لها تجلة.

سيكون مرق المنجل الملتهب أعشابًا معضعضةً للعالم السفلي! للبطن النبيل.

الازورار يشغل السماء بكاملها: هناك في الأعالي، النسرين الإلهي يجلدُ نجومه حتى الموت.

بلاغة الجوزاء

مهمومًا بانتمائك لشعب يأكل الجياد، الروح والبطن متجاوران. يضيع ضجيجه وسط الشوفان الأحمر للحدث المسلوب من بذرة قمته. وُهب لك أن تقول ذات مرة للبهية، للمسافة المختالة، أناشيد التمرد الصباحية. معدنًا يوقد دون هوادة من أساك، تصلني مبللة بالقسوة والحب.

والآن إن كنت استطعت قول تابل عالمك العميق، لدعوت العلقم. النداء على العلامة يساوي التحدي. سوف تستقر بصفحتك، على ضفاف جدول، مثل الكهرمان الرمادي على أعشاب البحر الجانحة. ثم، حين يجن الليل، سوف تنأى عن السكان المستائين، بُغية نسيان أضحى نجمًا. سوف لن تسمع بعد حذائك الممزق يئن.

بناة الجسور

الحديقة بحاجة إلى ضفتين: إحداهما لذهابنا، والأخرى لإيابها. طرقات تعب أضبتها. تدع ضحكاتنا الجذلى سليمة. مهيضة، تظل منقذة لصغارنا العائمين في مياه جليدية.


الترجمة خاصة بـBoring Books.

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.