بعد تأثيث المشهد وبلورته بتكثيف يجعل الفصول القصيرة تتوالى بسرعة، يكشف كرين عن رهانه الإبداعي: الوصول إلى أعماق شخص الجندي الشاب والمتطوع هنري فلمنج

شارة الشجاعة الحمراء لستيفن كرين (1895)

مقال روبرت مكروم

ترجمة: أسماء السكوتي

بمناسبة صدور كتاب أفضل مئة رواية في اللغة الإنجليزية للناقد اﻹنجليزي روبرت مكروم - ثالث إنتاج Boring Books كتب مملة الورقي بالتعاون مع دار دار هن elles للنشر والتوزيع.


ستيفن كرين

ولد ستيفن كرين في نيوآرك في ولاية نيوجرسي عام 1871، ومن ثم فقد كان في العشرين من عمره حين أنهى الرواية القصيرة التي ستصبح فيما بعد الأب الروحي لكل روايات الحرب الأمريكية وإلهامًا لكتاب مختلفين تمامًا من قبيل إرنست همنجواي وج.د. سالينجر. كان موضوع كرين هو حرب الولايات التي انتهت حتى قبل أن يُولد، ومن ثم فهو لم يعايش أيًا من عذابات الحرب أو أهوالها، وبالرغم من ذلك، فقد كان نثر كرين الواقعي المكثف، واستجوابه العميق لنفسية الجندي، وتوظيفه الحي والدال للألوان والتفاصيل، سببًا في اقتناع الكثير من القراء أنه كان محاربًا قبل أن يتحول إلى روائي.

يرى بعض النقاد أن "شارة الشجاعة الحمراء" نص مؤُسِّس في المدرسة الحداثية؛ بل الرحم الذي ظل أثره جليًا في كتابات من قبيل "العاري والميت"، و"الخدعة-22"، و"الخط الأحمر الرفيع"، و"ماترهورن"، وغيرها. جَمَع كرين، الذي كان كاتبًا حرًا، جزءًا من مواد بحثه من أخبار الحرب الأهلية التي جاءت في المجلات، والجزء الآخر من حواراته مع الجنود القدماء الذين عايشوا الحرب بأنفسهم. لاحقًا، سيخبرنا أنه "كان عن غير وعي يشتغل على تفاصيل قصته أغلب فترة صباه"، وأنه قد تخيل "قصص الحرب منذ أن خلع سراويل الأطفال القصيرة".

رغم أن فكرة انغماس الكاتب في التعبيرات الأدبية التي تناولت موضوعه قبل بدء الكتابة والنشر قد تبدو عادية لنا اليوم، إلا أنها كانت غريبة في تسعينيات القرن التاسع عشر، ولا يقل غرابة عنها، الجنس الأدبي الذي اختاره كرين، أي قصص الحرب. في هذه المرحلة، كان قد نشر، على نفقته الخاصة ومن دون نجاح، رواية وحيدة بعنوان ماجي: فتاة الشوارع (1893)، ولم يكن موفقًا عمومًا في إنتاجه الأدبي.

ليست رواية "شارة الشجاعة الحمراء" تاريخية بالمعنى التقليدي، فلها نسيج سينمائي، وهي تكسر مع ذلك كل القواعد عندما تلوي عنق الإحالات الزمانية والمكانية. هكذا، فيما ينقشع "الضباب المتصاعد" في الصفحة الأولى، يتجلى أسفله جيش "يمتد على التلال، مستريحًا"، ويتبع ذلك مقطع مدهش سيلهم أجيالًا لاحقة من كتاب السينما: "في الليل، حين يتحول مجرى النهر إلى عتمة حزينة، ترى على الضفة الأخرى البصيص أحمر لعيون عدوانية، هي نيران المخيمات على قمم التلال البعيدة".

بعد تأثيث المشهد وبلورته بتكثيف يجعل الفصول القصيرة تتوالى بسرعة، يكشف كرين عن رهانه الإبداعي: الوصول إلى أعماق شخص الجندي الشاب والمتطوع هنري فلمنج الذي انضم للجيش كي يتحدى ذاته، ولكن بمجرد أن يبدأ القتال من حوله، تغادره الشجاعة، إذ لا يمكنه أن يعرض نفسه إلى احتمالية عقوبة "الشارة الحمراء"، ليقرر من ثم الهرب، ولكنه يعود مرة أخرى. تتوالى مناورات ومناوشات، ومع الوقت، يتجاوز فليمنج خوفه، ينضج ويتعلم كيف يكون جنديًا حقًا، بل وتنفتح شهيته للمعركة.

في النهاية، يكون قد أصبح "حيوانا متقرحًا ومتعرقًا من أثر الشمس وألم الحرب"، ولكنه كذلك قد تمكن من الانفلات سليمًا، وبشكل ما، أصبح مكتملًا. يختتم كرين الرواية بقوله: "إنه عائد الآن بعطش عاشق إلى صور السماء الهادئة والمروج النضرة والجداول الباردة؛ عائد إلى وجود لين يطبعه السلم الأبدي".

ربما كان هذا ما يتمناه كرين لنفسه، بما أنه كان يعرف وقتها أن داء السل لن يمهله طويلًا. هكذا، وعندما نشرت روايته الثانية هذه، استمتع بلحظة تقدير قصيرة جدًا، حرص فيها على التقليل من شأن كتابته، إذ يقول: "لا أظن أن الشارة الحمراء رواية جيدة حقًا". مات كرين عام 1900، واكتُشفت روايته بعد الحرب العالمية الأولى، ولم تتوقف إعادة طبعها منذ ذلك الحين.

ملحوظة على النص

بدأ كرين كتابة النص الذي سيصبح شارة الشجاعة الحمراء (كان مفترضًا أن يسمى في البداية "الجندي فلمنج: معاركه المختلفة")، في يونيو 1893، وسلم مسودته النهائية المكونة من 55 ألف كلمة إلى الناشر ماكلور الذي احتفظ بها قرابة ستة أشهر من دون أن يتخذ فيها قرارًا. ولما استرجع كرين مسودته التي لم تُنشر أعطاها لناشر آخر هو إرفينج باتشيلر الذي باع حقوق النشر المسلسل لدار فيلادلفيا. من ثم، كان أول ظهور للرواية في شكل سلسلة، من 18 ألف كلمة فقط، وهذه النسخة أعيد طبعها بسرعة في أكثر من مائتي جريدة محلية وفي ستمائة جريدة أسبوعية، لتحقق نجاحًا فوريًا ساحقًا عند جمهور القراء.

أدى نجاح السلسلة إلى طبع ناشر آخر هو أبلتون للنص في هيئة كتاب في أكتوبر 1895. كانت هذه النسخة أقصر بنحو خمسة آلاف كلمة من نسخة كرين الأصلية، كما تضمنت الكثير من الاقتطاعات الغريبة والمشوهة التي لم تُصحح إلا في النسخة النهائية لدار نشر نورتون وشركائه في عام 1982. أما في إنجلترا، فقد أطلقت هاينمان نسخة بريطانية عام 1896 كجزء من سلسلة الأدب الرائد.

يشير هـ. ج. ويلز، الذي كان صديقا لكرين، بغيرة إلى أن إنجلترا قد تلقت شارة الشجاعة الحمراء "باحتفالية مدحية مفعمة بالنشوة"، مما شجع كرين على الاستقرار في ذلك البلد في السنوات التي سبقت موته السابق لأوانه عام 1900. لقد كانت لحظة سعادة مقتضبة في حياة فتى شاب. يكتب كرين لأحد أصدقائه: "لدي فخر وحيد هو أن النسخة الإنجليزية من شارة الشجاعة الحمراء قد لاقت تهليلًا عظيمًا من النقاد الإنجليز. أنا فخور، بكل بساطة، لأن أولئك الأبعد عن التجربة هم عادة الأعدل في أحكامهم والأصعب في استمالتهم".

ولنختم بشهادة هارلود فريدريك في حق الرواية حين أكد أنه "لو كان هناك وجود لأي كتب مماثلة لهذا النص، لكان من السهل القطع بأنه أفضلها جميعًا. لكن هذا الكتاب لا شبيه له. إنه نص خارج كل تصنيف. نص استثنائي، لدرجة منازعة المرء نفسه لكيلا يعلن أنه ليس كتابًا بإطلاق".


غلاف الكتاب

* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها