يعني أنا ما أقدرش أفكّك الفرق بين الأدب والأدب إلا إذا اعترفت بإن التفكيك نفسه بيتم في فضاء لغوي، وإن الفضاء ده له طبيعة شفاهية ومكتوبة خاصة.

التفكيك

مقال شهاب الخشاب

بمناسبة صدور كتاب "الفَهَّامَة" لشهاب الخشاب عن دار ديوان. يضم الكتاب مقالات مبسطة بالعامية المصرية عن العديد من المفاهيم في العلوم الإنسانية. ساهم شهاب الخشاب بعشرات المقالات في موقعنا Boring Books ضمن سلسلة "موسوعة الملل".


غلاف كتاب الفهَّامة

إيه الفرق بين الأدب والأدب؟ اللي بيقرا من على وش القفص مش هيشوف الفرق: الأدب هو الأدب وخلاص، ومش محتاجين نوجع دماغنا بالحوارات دي. اللي بيقرا بتركيز أكتر ممكن يسأل إشمعنى كررت كلمة "أدب" مرتين من غير ما أشرح الفرق، وطبعاً ده سؤال منطقي لولا إنه مش كافي. مهما كانت نية الكاتب سالكة، الكلام قدامنا ولسة ما فهمناش حاجة. أما الفِتِك اللي بيقرا بعقل جدلي يقدر يسأل إذا كان الأدب زي قلته، أو بمعنى أصح، هل فيه فرق بين قلة الأدب وقلة الأدب؟ والحوار عن الأدب ممكن يمتد بالشكل ده إلى الأبد، وده يخلّينا نطرح سؤال تاني:: يا ترى إيه الفرق بين الأدب والأبد؟

التفسير الأولي للإشكالية راجع للفرق بين مجموعة السلوكيات والأفعال المؤدبة (يعني الأدب يا مؤدب) وبين مجموعة النصوص التقيلة اللي بتشكّل التراث المكتوب في مجتمع ما (يعني الأدب يا أديب). الأدب يا مؤدب هو أدب الصالونات والعزومات والإنسانيات، أدب التلميذ اللي ما يقدرش يتكلم في الفصل إلا إذا رفع إيده، أدب البنت اللي بتمسك إيد جدتها العجوزة عشان تعديها الشارع، وقليل الأدب يا مؤدب هو اللي بيشاغب في الفصل وبينسى أصول التعامل مع المسنين وغيرها من السلوكيات المحترمة. أما الأدب يا أديب، فهو أدب الصالونات (الثقافية) والمعارض والمكتبات، أدب الكاتب الكتّيب اللي عايز يحكي لك قصص وحكاوي تورّيك العجب، أدب القارئة النهمة اللي بتقضي وقتها بين مكتبة والتانية، وقليل الأدب يا أديب هو اللي ما راحش يشرب من بحر المعرفة.

طبعاً الفرق التاريخي بين الأدب والأدب ما كانش قاطع للدرجة دي. في التراث العربي، الأدباء ما كانوش بس ناس كتّيبة، وإنما ناس بتشارك في ترسيخ قيم وأفكار عن سلوكيات المجتمع المتحضر، وبالتالي ما كانش فيه فرق قاطع بين المؤدب والأديب زي ما بنلاقيه النهارده. إنما النقطة التاريخية دي ما بتشرحش إزاي جوه نفس النص، زي نص المقالة دي، الأدب والأدب ممكن يبانوا كأنهم نفس الحاجة بالضبط وكأنهم حاجتين مختلفتين تماماً في نفس الوقت. مافيش أي دليل يوضّح إني أقصد الأدب بمعناه الأول أو بمعناه التاني أو بمعنى تالت، والقارئ محتاس يفهم كل شوية معنى الكلام في النص. ربما اللي يمكن يساعدنا في إننا نفصل بين الحاجتين هو تفكيك النص (déconstruction) حسب تعبير الفيلسوف جاك دريدا (Jacques Derrida).

دريدا مفككًا

التفكيك عند دريدا مش منهج قد ما هو مدخل إلى قراءة النصوص. عكس تفكيك الشفرات التلفزيونية عند المفكر ستيوارت هول،  اللي كان بيحلل تأويلات المتفرج التلفزيوني العادي للخطاب التلفزيوني اليومي، التفكيك عند دريدا عملية فلسفية متخصصة مرتبطة بقراءة متعمّقة للنصوص. دريدا نفسه ما كانش حابب يعرّف مصطلح "التفكيك"، عشان كان رأيه إن التعريفات، حتى لو كانت جزئية، لازم تكون موضع للتفكيك هي نفسها. دريدا قدم التعريف المُحكم الوحيد للتفكيك في كتابه "ذكريات" (Mémoires)، وقال ببساطة إنه عبارة عن "أكتر من لغة" (plus d’une langue). طبعاً التعريف ده برضه ملغز بما إن له كذا تأويل، لكن إذا حبينا نفهم إزاي التفكيك بيشكّل "أكتر من لغة"، لازم نركّز في تعدد التأويلات دي تحديداً.

في تأويل أولي، التفكيك ما بيهتمش بس بلغة النص وإعرابه وأسلوبه وبلاغته، ولكن بيهتم كمان بطبيعة وجود النص نفسه. بالتالي التفكيك "أكتر من لغة" بمعنى إنه بيتعدّى حدود البلاغة اللغوية في حد ذاتها عشان يقدم نقد إجمالي لمفهوم اللغة نفسه. من أهم المبادئ التفكيكية هي نقد فكرة إن النص المكتوب له هالة عتيقة مُنزلة منذ قديم الأزل وإلى الأبد، وإن الهالة دي بتحكم تأويل النص مهما كان الوضع. فمثلاً عكس الناس اللي بتعتبر إن كلام فلاسفة زي كانط وهيجل مالوش إلا معنى واحد صحيح والقارئ لازم يلاقي جوهر المعنى ده جوه النص، الرؤية التفكيكية بتقول إن كلام كانط وهيجل معرّض لتأويلات كتيرة بعدد القراء الحقيقيين والمُحتملين. في الظروف دي، إشمعنى النص بيبان وكأنه مالوش إلا معنى واحد مُنزل وطبيعي؟ في إطار التراث الأدبي الغربي، وجود النص حسب دريدا مبني على بعض المفارقات اللي تبدو جذرية ولكنها متركبة جوه النص بأشكال مصطنعة ومش ثابتة: مفارقات بين الطبيعة والثقافة، بين الحضور والغياب، بين الكلام والكتابة. 

المفارقات دي ينفع تتفكّك عشان نفهمها: فمثلاً المفارقة بين الكلام والكتابة كانت تاريخياً قائمة على تراتبية بين الكلام باعتباره أساس للتفكير والكتابة باعتبارها تسجيل للكلام اللي بيتقال فقط. حوارات أفلاطون وسقراط من الأمثلة الشهيرة للتراتبية دي، بما إن الحوارات تبدو وكأنها مجرّد تسجيل للكلام اللي اتقال بين الفلاسفة دول. نفس الموضوع باين في مقالات الفلاسفة التنويريين زي روسو وديدرو وڤولتير، اللي كانوا حرفياً بيكتبوا "مقالات" المفروض تتقال بس الكلام بيتسجل على الورق. دريدا بيورّي إزاي الكتابة ماهياش أقل من الكلام في الواقع، بما إن الإتنين متركبين باستخدام أدوات لغوية شبيهة، وبما إن الكلام عن الكتابة والكتابة عن الكلام بتستخدم مجازات شبيهة. يعني النقد التفكيكي بيورّي إزاي المفارقات الجذرية اللي بتشكّل طبيعة وجود النص مالهاش دايماً أساس وجودي واحد محصور في تأويل واحد.

إذا تابعنا مسيرة التأويلات، التفكيك ممكن يكون "أكتر من لغة" عشان الواحد ما يقدرش يأوّل أي نص وكأنه مكتوب بلغة واحدة بس. الطرح ده يبدو غريب: إزاي الواحد يقدر يقول إن نص بالإنجليزي مش بالإنجليزي بس؟ أو نص بالعامية القاهرية مش بالعامية بس؟ الإجابة في تقدير دريدا إن أي نص بيبقى متركب من كذا لغة حتى ولو ضمنياً. أولاً، الحاجات اللي بتتقال في النص ساعات بتلمّس مع قراءات وأفكار وكلام بيتقال في لغات تانية، وده واضح في كتاب الفهّامة مثلاً. ثانياً، الحاجات اللي بتتقال في النص ساعات ما ينفعش تتقال إلا في اللغة دي وبس، والواحد ما يقدرش يحدد خصوصية اللغة دي تحديداً إلا لإنها مختلفة عن جميع اللغات الأخرى. فمثلاً كون إننا عارفين إن تعبير "بلاش تقطع عيشه" لها دلالة خاصة في العامية المصرية مش موجودة في تعبير (don't cut his bread) أو (ne coupe pas son pain) مرتبط بالفرق الضمني بين لغة والتانية جوه نفس النص. بالتالي الحاجة اللي تبدو بديهياً "لغة النص" ممكن تتفكّك إلى عدد من اللغات.

وإذا زقينا تأويلات التفكيك أبعد وأبعد، نقدر نقول إنه "أكتر من لغة" بمعنى إن فعل التفكيك نفسه بيحصل جوه إطار الأثر اللغوي اللي بيتم تفكيكه. يعني أنا ما أقدرش أفكّك الفرق بين الأدب والأدب إلا إذا اعترفت بإن التفكيك نفسه بيتم في فضاء لغوي، وإن الفضاء ده له طبيعة شفاهية ومكتوبة خاصة. بالتالي ما أقدرش أعتمد على إن شكل الحروف الثابتة  في كلمة "أدب" لها معنى ثابت وكل الناس هتشوف الحروف بنفس الشكل، بما إن من ناحية المعاني متعددة حسب السياق، ومن ناحية تانية العلاقة بين المعنى والتاني عمرها ما بتبقى واضحة وضوح الشمس. 

الموضوع ده بيبان في الفرق بين الأدب والأبد مثلاً: الفرق الكتابي الفعلي مجرّد في ترتيب حرف الـ"د" والـ"ب"، اللي هو ممكن يكون غلطة إملائية في بعض الأحوال، أو محاولة تعبيرية شاعرية في أحوال تانية، ولكن الفرق المعنوي اللي يبدو "طبيعي" بين الكلمتين مش موجود إلا في إطار الالتباسات الكتابية دي، اللي الواحد لازم يفكّكها قبل ما يفهم طبيعة النص اللي قدامه. باختصار، الفرق بين الأدب والأبد دليل على إن الواحد لازم يكون مركز تركيز عالي في المادة المكتوبة عشان يعرف يفكّك النصوص، والتركيز ده مدخل أساسي لقراءة النص الأدبي.

التحليل التفكيكي بينطبق بسهولة أكتر على نصوص ثابتة –أو تبدو ثابتة– زي ما لاحظ إدوارد سعيد في كتاب "العالم والنص والناقد"، نصوص زي كتابات أفلاطون وروسو وهيجل وغيرهم. دريدا يقدر بسهولة ينتقد التصورات الضمنية عن طبيعة وجود النص في الحالات دي، ويفكّك الثنائيات الجذرية اللي بتعتمد عليها النصوص دي، ويورّي الالتباسات اللغوية اللي بتشكّك في عقلانية النص. ولكن تطبيق المفاهيم التفكيكية على بعض النصوص الروائية بيبقى فيه نوع من التكرار، بما إن بعض التيارات الأدبية بتفكّك النص بنفسها عشان تنتج حِيَل روائية جديدة. ده واضح مثلاً في نصوص أدبية حداثية زي "عوليس" لجيمس جويس، وواضح في نصوص تجريبية زي أعمال تيار "الأوليبو" (OuLiPo) في فرنسا اللي كانوا بيحبوا يكتبوا بناءً على تفكيك لشكل النص الأدبي نفسه، زي كتاب "تمارين في الأسلوب" لريمون كونو (Raymond Queneau) ورواية "الاختفاء" لجورج پيريك (Georges Perec). في الحالتين، النص بيقدم تفكيك لنفسه عشان اللي بيقرا يكسر التهيؤات الضمنية اللي عنده عن طبيعة النص الروائي.

إذا رجعنا وفكّكنا الفرق بين الأدب والأدب، لازم أولاً نفهم إن الفرق مالوش علاقة بصوت الكلام ولا بتسجيله المكتوب، وإنما بالالتباس الجذري الموجود في أي محاولة للتعبير –سواءً كان تعبير يومي أو أدبي. باختصار، الأدب والأدب ممكن يكونوا نفس الحاجة، أو ممكن يكونوا حاجة تانية خالص، ومافيش حاجة تحسم الأمر في المطلق بسبب طبيعة الكتابة. كذلك لازم نفهم إن الفرق بين الأدب والأدب موجود في إطار فرق ضمني بين كذا لغة، لأن الفرق بين الأدب والأدب عنده خصوصية مش موجودة في الفرق بين (politeness) و(literature)، أو حتى بين (literature) و(littérature). وأخيراً الأدب والأدب ممكن يبانوا كأنهم نفس الحاجة، بس مش شرط يكونوا نفس الحاجة بسبب طبيعة الكتابة نفسها. لذلك الأدب والأدب ممكن يكونوا موضع للتفكيك، سواءً كان فيه فرق بينهم ولا لا.


نُشر هذا المقال بإذن من الكاتب