كان الطريق صامتًا وطويلًا وفارغًا، إلا من ظله الذي يتحرك كظل صقر في قلب الخلاء.
السائر الوحيد
قصة راي برادبري
ترجمة هبة الله هشام
راي برادبري (1920–2012) واحد من رواد أدب الخيال العملي الجماهيري، جرب الكتابة في عدد من الأنواع، وأشهر أعماله فهرنهايت 451 والسجلات المريخية. نُشرت هذه القصة لأول مرة في عام 1951، على صفحات مجلة المراسل (The Reporter).
كان الخروج في الصمت الذي تغرق فيه المدينة في الساعة الثامنة، في ليلة ضبابية من شهر نوفمبر، والمشي على الرصيف الخرساني المتعرج، ثم تخطي الطبقات العشبية لإكمال الطريق، مع وضع اليدين في الجيوب واختراق الصمت، هو جلَ ما يحب السيد ليونارد ميد. كان يقف في زاوية تتقاطع عندها الطرق ويحدق في الاتجاهات الأربعة التي يضيئها القمر محاولًا تحديد أي الطرق يسلك، لكن في الواقع لم يكن هناك فرق، فقد كان وحده في هذا العالم في عام 2053 م. وحده في كل شيء. حسم أمره أخيرًا، واختار طريقه. تقدم إلى الأمام والهواء البارد يسبقه ليتشكل أمامه كدخان سيجارة.
كان يمشي أحيانًا لساعات وأميال ثم يعود إلى منزله في منتصف الليل. وفي طريقه كان يرى الأكواخ والبيوت بنوافذها المظلمة، وهو منظر لا يختلف كثيرًا عن المنظر الذي قد يراه المرء في سيره عبر المقابر، حيث يلمع أقل طيف من ضوء اليراعات المضيئة خلف الشبابيك. قد يلمح أشباحًا رمادية على جدران الغرف الداخلية حيث كانت الستائر لم تُسدل بعد مع حلول الليل. وأحيانًا قد يسمع همسات وهمهمات من الشبابيك المفتوحة في المباني التي تشبه المقابر.
كان السيد ليونارد ميد يتوقف، ويميل برأسه، ويسمع، وينظر، ثم يتابع السير بقدمين لا تثيران أي ضوضاء على الرصيف الوعر. لقد قرر منذ زمن أن يرتدي الأحذية الرياضية عندما يتسكع ليلًا، لأن الكلاب ستفسد رحلته بالنباح في مجموعات متفرقة إذا كان يرتدي الأحذية ذات الكعب الحاد، وربما تُضاء عندئذ الأضواء وتظهر الوجوه، وينبهر الشارع بأكمله من مرور شخص وحيد، أي هو، في وقت مبكر، بأمسية من أمسيات شهر نوفمبر.
في تلك الليلة بالتحديد بدأ رحلته باتجاه الغرب نحو البحر الخفي. امتلأ الهواء بالبلورات الثلجية التي تجمد الأنف وتجعل الرئتين تتوهجان كشجرة عيد ميلاد بالداخل. يمكنك الشعور بالضوء البارد يظهر ويختفي، وجميع الأغصان تمتليء بالثلج الخفي. بعث الصوت الخافت لحذائه الخفيف وهو يحتك بأوراق الخريف شعورًا بالارتياح في نفسه، ثم أصدر صفيرًا باردًا هادئًا من بين أسنانه. كان يلتقط ورقة من أوراق الأشجار بينما يمر، ويتفحص تعاريجها على ضوء المصابيح النادر بينما يتحرك ورائحتها الترابية لا تفارقه.
– مرحبًا بكم.
همسها لكل منزل على كل جانب يمر به.
– ماذا ستعرض المحطة الرابعة، والسابعة، والتاسعة؟ أين رعاة البقر المندفعون؟ وهل سأجد سلاح الفرسان الأمريكي يهرع إلى التل ليؤدي واجبه؟
كان الطريق صامتًا وطويلًا وفارغًا، إلا من ظله الذي يتحرك كظل صقر في قلب الخلاء. إذا أغلق عينيه ووقف متجمدًا بلا حراك كان ليتخيل نفسه يحلق فوق صحراء أريزونا الواسعة الباردة الجافة، وأقرب منزل منه على بعد ألف ميل، ولا يؤنسه سوى مجاري الأنهار الخالية والشوارع.
قال وهو يتطلع إلى ساعة يده:
– كم الساعة الآن؟ الثامنة والنصف مساءً؟ أهوَ الوقت المناسب لحفنة من جرائم القتل المتنوعة؟ لاختبار؟ لعمل مسرحي ساخر؟ لسقوط ممثل هزلي من على المسرح؟
هل كانت تلك همهمة ضحكة داخل منزل لونه أبيض كبياض القمر؟ تردد، لكنه تابع عندما لم يحدث ما يقلقه. تعثر في جزء معين غير ممهد بالرصيف. كانت الأرض الأسمنتية تختفي تحت الزهور والعشب. على مدار عشر سنوات من المشي بالليل والنهار لآلاف الأميال، لم يقابل شخصًا آخر يمشي حتى ولو لمرة واحدة.
وصل عند تقاطع طرق يتلاقى فيه الطريقان السريعان الأساسيان في المدينة. كانا الآن يغرقان في الصمت. لكن في الصباح، يزدحم الطريقان بطوابير من السيارات، ومحطات الوقود المفتوحة، وتتحرك السيارات كحشرات عملاقة تتسابق وتناور للحصول على موقع مميز، تمامًا كما تفعل خنافس الجعران، تتبعها الرائحة المميزة التي تطلقها عوادمها وهي تتجه إلى منازلها البعيدة. لكن الآن تبدو تلك الطرق السريعة كمجاري الأنهار التي تيبست بفعل موسم الجفاف وأصبحت مجرد ممرات مليئة بالحجارة تعكس ضوء القمر.
عاد إلى الشارع الجانبي، متجهًا نحو منزله. كان على بعد شارع من وجهته حينما ظهرت سيارة وحيدة فجأة وأشهرت ضوئها الأبيض نحوه بقوة. توقف مشدوهًا تمامًا كفراشة الليل منبهرًا بالضوء، ثم تحرك نحوه.
ناداه صوت آلي:
– توقف. توقف مكانك! لا تتحرك!
تسمر مكانه.
– ارفع يديك!
قال:
– لكن..
– ارفع يديك أو سنطلق النيران!
إنها الشرطة بالطبع. لكن يا له من شيء نادر لا يصدق؛ ففي مدينة بها ثلاثة ملايين شخص، لم تكن هناك سوى سيارة شرطة واحدة متبقية، أليس كذلك؟ منذ سنة، في عام 2052، عام الانتخابات، أُجبرت القوات على تخفيف عددها من ثلاث سيارات إلى واحدة. لقد انحسرت الجريمة، ولم تعد هناك حاجة إلى الشرطة الآن، فقط ما يكفي لجعل تلك السيارة الوحيدة تجوب وتجوب الشوارع الفارغة.
همس صوت سيارة الشرطة الآلي:
– ما اسمك؟
لم يستطع رؤية الرجال بداخل السيارة بسبب الإضاءة الساطعة التي ضربت عينيه، لكنه قال:
– ليونارد ميد.
– ارفع صوتك!
– ليونارد ميد!
– ما هو عملك؟
– يمكنك اعتباري كاتبًا.
قالت سيارة الشرطة كأنما تحدث نفسها:
– لا عمل.
جعله ضوء السيارة يتسمر في مكانه كعينة من المتحف تمسكها إبرة مثبتة بصدرها.
قال السيد ميد:
– ما تقوله صحيح تقريبًا.
فهو لم يكتب منذ أعوام. لم تعد الكتب والمجلات تباع حاليًا لأن كل شيء أصبح متاحًا الآن بالليل داخل تلك البيوت التي تشبه المقابر، فكر سارحًا بخياله. تُضاء المقابر بضوء التلفاز الخافت، ويجلس الناس كالأموات تلمس الأضواء الرمادية أو متعددة الألوان وجوههم، لكنها في الحقيقة لا تلمسهم.
همس الصوت الفونوجرافي:
– لا يوجد عمل. ما الذي تفعله بالخارج؟
أجابه السيد ميد:
– أمشي.
– تمشي!
قال ببساطة رغم أنه كان يشعر بأن وجهه بدأ في التأثر بالبرد:
– فقط أمشي.
– تمشي، فقط تمشي؟
– نعم يا سيدي.
– أين تمشي، وما السبب؟
– أمشي من أجل الهواء. أمشي لأرى.
– ما عنوانك؟
– جنوب شارع سانت جيمس، المنزل رقم أحد عشر.
– ألا يوجد هواء بمنزلك؟ تمتلك مكيفًا للهواء، أليس كذلك يا أستاذ ميد؟
– أجل.
– وتملك شاشة عرض في منزلك لترى فيها ما تشاء؟
– كلا.
ردد الصوت بنبرة مليئة بالاتهام:
– كلا؟ أأنت متزوج يا أستاذ ميد؟
– كلا.
قال صوت الشرطي القادم من خلف الضوء الناري:
– غير متزوج؟
كان القمر عاليًا وواضحًا بين النجوم والبيوت كانت رمادية وصامته.
قال ليونارد ميد بابتسامة:
– لم يرغب فيّ أحد.
– لا تتحدث ما دمت لم يُطلب منك ذلك!
انتظر ليونارد ميد في الليل البارد.
– تمشي فقط يا سيد ميد؟
– نعم.
– لكنك لم توضح السبب.
– لقد وضحت بالفعل. من أجل الهواء ومن أجل الرؤية وفقط لأمشي.
– هل تفعل هذا عادة؟
– كل ليلة لسنوات.
استقرت سيارة الشرطة في منتصف الشارع وأصدرت فوهة مذياعها همهمات خافتة، ثم تحولت الهمهمات إلى كلمات:
– حسنًا، يا سيد ميد.
سأله بأدب:
– أهذا كل شيء؟
أجابه الصوت:
– أجل. هيا.
صدر صوت تنهيدة ثم طرقعة. انفتح باب سيارة الشرطة على آخره وأمره الصوت:
– اركب.
– انتظر قليلًا، أنا لم أفعل أي شيء!
– اركب.
– أنا أعترض!
– من فضلك يا أستاذ ميد.
سار فجأة كسكران. تخطى النافذة الأولى للسيارة وهو يتطلع بداخلها. وكما توقع، لا يوجد أحد بالمقعد الأمامي. لا يوجد أحد بالسيارة نهائيًا.
– اركب.
أمسكت يده الباب ودخل إلى الكرسي الخلفي الذي كان عبارة عن زنزانة صغيرة؛ سجن أسود صغير بقضبان. كانت رائحته تشبه الفولاذ المبرشم وتفوح منه رائحة مطهر قوي. رائحة نظيفة وقوية ومعدنية للغاية. لم يوجد بها أي شيء ناعم.
قال الصوت الحديدي:
– إذا كنت متزوجًا كانت زوجتك لتضمنك، لكن..
– إلي أين تأخذني؟
ترددت السيارة، أو بمعنى أصح أصدرت نقرات خافتة، كصوت معالجة المعلومات بتتابع البطاقات المثقبة تحت عين إلكترونية، ثم قالت:
– إلى «مركز الطب النفسي لأبحاث الميول الرجعية».
دلف إلى السيارة. أُغلق الباب وراءه بصوت مكتوم، ثم تحركت السيارة عبر الطرق المظلمة وضوؤها الساطع يسبقها.
مروا بمنزل معين في شارع ما بعد عدة لحظات. مجرد منزل في تلك المدينة التي تمتليء بالمنازل المظلمة، لكن هذا المنزل تحديدًا كانت كل أضوائه الكهربية مضاءة وساطعة، وخلف كل نافذة من نوافذه إضاءة صفراء قوية، تبرز مربعة ودافئة وسط الظلمة الباردة.
قال السيد ليونارد ميد:
– هذا منزلي.
لكنه لم يتلق إجابة.
تحركت السيارة عبر الشوارع أسفل مجاري الأنهار الجافة وسارت بعيدًا تاركة الشوارع الفارغة والأرصفة الخاوية. ولم يتبق من ليلة نوفمبر الباردة سوى الصمت والسكون.
الترجمة خاصة بـBoring Books.
تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.