لغة السياسي أدائية، سواء كان يعلن خفض الضرائب، أو حالة الطوارئ، أو «العالم الجديد». أما لغة الكاتب فهي لغة تحريض، لغة تؤدي إلى التأمل، الشعور، الحلم، التذكر بشكل لا يمكن الفكاك منه.

حوار مع آني إرنو

أجراه: ألكسندر جيفن

ترجمة: أسماء كمال أبو سحلي

* ورد الحوار في كتاب «الأدب شأن سياسي» (La Littérature est une affaire politique) الصادر في أبريل عام ٢٠٢٢، وأعيد نشره في موقع lejournal.cnrs.fr عقب فوز الكاتبة بنوبل للأدب.


Portrait of Annie Ernaux (born Annie Duchesne) 06/06/2019 ©Basso CANNARSA/Opale.photo

ألكسندر جيفن: ما أول مواجهة لك مع المسألة السياسية؟ هل تذكرين أول مرة قمتِ فيها بالتصويت؟

آني إرنو: يبدو لي أن أول مواجهة لي مع السياسة قد حدثت منذ أن أصبح لدي وعي، وهذا لسبب بسيط: لقد ولدت عام 1940 في نورماندي، حيث الحرب، والتفجيرات المميتة، ثم الهدنة، وأنا بفستاني الصغير ذي اللون الأزرق والأبيض والأحمر للاحتفال بالحدث. أتذكر أنني رافقت والدتي التي كانت تصوت للمرة الأولى، إلى هذا المكان الغريب المغلق بستارة، حيث يشبه الأمر مكان الاعتراف في الكنيسة، أعني: حجرة الاقتراع. يدير والداي محل بقالة ومقهى. كان المقهى الذي يجاور المطبخ –لا يوجد باب بين الاثنين- يحافظ على هذا الانغماس في القضايا السياسية، وكان ذلك من الواضح يأتي في شكل تعليقات معارضة من هؤلاء العمال الذين يترددون عليها. قضيت طفولتي في الغالب ومراهقتي كذلك في خطاب اجتماعي سياسي، حيث إضرابات صيف عام 1953 ضد لانييل (Laniel)، وسقوط ديان بيان فو (Dien-Bien Phu)، وبالطبع الحرب في الجزائر، وهو ما كنا نسميه «الأحداث». وفي عام 1958 كان عمري ثمانية عشر عاما، وكنت أؤيد تمامًا التصويت بـ«نعم» في الاستفتاء الذي نظمه ديغول، برغم أنني لم أصوت، لأن سن الرشد المدني هو 21 عامًا. يبدو لي أن أول نقاشاتي الجادة كان يعود لصيف ذاك العام، حول الجمهورية الخامسة التي أرادها ديغول. وفي العام التالي تحولت إلى معارضة ديغول، وأعلنت نفسي مؤيدة لاستقلال الجزائر. هذه المسألة، وهذه الحرب، وهجمات منظمة الدول الأمريكية (OAS)، وانقلاب الجنرالات، كل هذا كان له تأثير على سنواتي الجامعية الأولى، مثلما أثرت على جميع الطلاب في ذلك الوقت. أنا لست مستعدة لنسيان المرة الأولى التي قمت بالتصويت فيها: في 28 أكتوبر عام 1962، حيث الاستفتاء الذي عدل الدستور ليكون انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع العام. أفكر في ذلك في كل مرة تقام فيها انتخابات رئاسية، مما يعطي وقعًا مريرًا لتصويتي في ذلك الوقت، أعني التصويت بـ«لا». فما نددت به رفضته فرنسا في عهد مينديز، وميتران، ووالديك-روشيه في ذلك الوقت –أي تعزيز سلطة الرئيس على حساب البرلمان– حدث بالفعل.

ألكسندر جيفن: هل نشأت في عائلة، أي وسطًا كانت فيه السياسة أمرًا مهمًا ومحوريًا؟ وهل هناك تقليد للنقاش والنشاطية؟ وما نسق تصوراتك وميولك السياسية؟

آني إرنو: في عائلتي، كان ابن عمي ينتمي للحزب الشيوعي. لم يكن والداي منتمين إلى أي حزب، لكن بصرف النظر عن تصويتهم بوصفهم من صغار أصحاب المتاجر لصالح بوجاد في 1965، كانوا دائما يصوتون لليسار، مفضلين ميتران على ديغول في عام 1965. كانت ذكرى إضرابات عام 1936 وليون بلوم (Léon Blum) واضحة للغاية. هذا الليون بلوم الذي «كان جيدا للعامل». كانت هذه الصيغة التي غالبا ما تُسمع مع نظيرتها «الوقوف بجانب البدناء» (الأغنياء) تعبر عن النظرة السياسية للعالم في محيطي وتعرفها. لم يكن الهابيتوس السياسي الخاص بي واضحًا جدًا حتى سن السادسة عشر أو السابعة عشر، لأنني كنت أرتاد مدرسة كاثوليكية خاصة مع فتيات من «الطبقة العليا» (la heute)، وأساتذة كانوا يهاجمون المدرسة العلمانية -«المدرسة التي بلا إله»، والاشتراكيين والشيوعيين، بينما في المنزل نعيش بشكل متواضع وعادل أفضل قليلا من العمال –وهذا ما كان عليه والداي. أزعجتني «عناقيد الغضب» (Les Raisins de la colère) عندما قرأتها وأنا في السادسة عشر من عمري، كما لو أن أحداثها وقعت في هذا المكان الاجتماعي بين هؤلاء الناس؛ كان على أن أعرف موقعي. هناك نسق سياسي محدد للمارق الطبقي، ممزق كموقفه. ولكن في مقرر الفلسفة، كان من السهل الاقتناع بالتحليلات الماركسية للأستاذة، وكان أول كتاب في المكتبة الدوارة التي أنشأتها، وهو الكتاب الذي استعرته، كتاب أتذكره جيدا، وهو «الحياة اليومية لأسر الطبقة العاملة» لعالم الاجتماع شومبار دولو (Chompart de Lauwe). لقد وجدت فيه نسق تصوراتنا وميولنا الاجتماعية برمته، كما لم يكن معروفا بعد. بعد قولي هذا، أتساءل إلى أي مدى ليست الأوامر والأحكام التي تصدر عن الآباء في الحياة اليومية هي التي تخلق الميول السياسية. علي سبيل المثال، كوني سمعت من أمي «أنت تستحقين» مرارًا وتكرارًا في الحقيقة تحدى شعوري بالدونية حيال زملائي من خلفيات ثرية، وكان بنفس أهمية النقاش مع الرفاق، إن لم يكن أهم.

ألكسندر جيفن: تستحضرين في العديد من نصوصك التاريخ السياسي الفرنسي، فما رؤيتك العامة للعقود الأخيرة؟

آني إرنو: نحن نشهد تحول يميني تقدمي بلا انقطاع، على الرغم من وجود «لحظات» يسارية -مثل تكيف شيراك مع جوسبان عام 1997– وذلك منذ التحول الليبرالي الذي اتخذته رئاسة ميتران في عام 1983. لم نكن نريد أن نرى ميتران، وهو رجل عام 1981، وكل قوانين الحرية التي جاءت هادرة –مثل إلغاء عقوبة الإعدام والأسبوع الخامس من الأجازة وما إلى ذلك، لم نكن نريد أن نراه يدفعنا بقوة إلى التشقف واقتصاد السوق، فمن الصعب التخلي عن الوهم. بالنسبة لي ثمة تاريخ مهم، وهو برنامج عاشت الأزمة (Vive la crise)، مع إيف مونتان، رفيق الحزب الشيوعي في دور الشخص الذي يشرح لنا إلى حد ما كيف يجب أن نخضع للنظام الاقتصادي الليبرالي. وفي الوقت نفسه، كان ثمة محو للمجال الاجتماعي؛ وأصبح الشعب شبحًا سياسيًا إلا في وقت الانتخابات الرئاسية. من الواضح أن هذا الابتعاد عن حياة الناس وهذا الخذلان الذي يُعزى إلى كل من الحزب الاشتراكي واليمين قد دفع بعض الناخبين نحو الجبهة الوطنية، التي يعد حضورها القوي المتزايد في المشهد أحد الجوانب الرئيسية لهذه العقود. لقد فرضت تلك الجبهة موضوعاتها، كالهجرة والإسلام، التي لم تكن لتنتشر بهذه السهولة لو لم تجد ترحيل ومماطلة فيما بين اليمين واليسار في الحكومة (مانويل فالس، على سبيل المثال لا الحصر). كان هناك دائمًا اضطرابات، تسمى الآن «حركات الاجتماعية»، لكن لو نظرنا إلى نتائجها، فيمكننا أن نرى -باستثناء عام 1995 عند سحب قانون الضمان الاجتماعي وعام 2006 عند سحب عقد العمل الأول (CPE)- لم ينجح أي شيء كبير أو طويل المدى بعض الشئ، وهذا اتجاه واضح بشكل متزايد في العقد الماضي في عهد هولاند وماكرون. ويرافق هذا الاحتواء الدائم لحركات التمرد في المجتمع زيادة مراقبة الشرطة وقمعها، وهي الطريقة الوحيدة لتمرير القوانين التي تحابي الليبرالية وإثراء الأوليجاركية المالية. هذا ما نحن فيه.

ألكسندر جيفن: ما تقييمك للحركات الاجتماعية التي حدثت في فرنسا في السنوات الأخيرة؟ 

آني إرنو: تجدر الإشارة إلى أن هذه الحركات تتبع بعضها البعض بوتيرة أسرع، وتدوم أطول من ذي قبل، سواء كان ذلك الحراك ضد قانون العمل، أو إصلاح شركة السكة الحديد المملوكة للدولة (SNCF)، المتعلق بالمعاشات التقاعدية، أو المظاهرات الأسبوعية للسترات الصفراء. فهي تتجاوز مطالبها، وتوجّه بشكل متزايد ضد السياسات اليمينية العامة المواتية للأعمال التجارية الكبيرة. إن الوجود الجديد لـ«موكب قيادي» (cortège de tête) مع الطلاب، العمال، النقابيين الذين خرقوا الحظر وهو موكب جرى قبوله بشكل متزايد، لهو علامة على سخط جزء من السكان.

ألكسندر جيفن: أنت تدعين مواقف يسارية. ماذا تعني لك هذه الكلمة اليوم؟

آني إرنو: تعني الحرية، المساواة، الأخوة. لكنها تعني المساواة قبل كل شيء؛ فالمساواة شرط الحرية والأخوة. لكن أين الحرية عندما يعيش المرء –بالوراثة، وهي الظلم الأول– حياة هشة، بعيدًا المعرفة والثقافة، ويضطر لقبول عمل منخفض الأجر؟ وبدون عدالة اجتماعية تصبح الأخوة إغراء، ولحظة عاطفة وطنية بلا مستقبل كما حدث بعد هجمات عامي 2015 و2016. مجال المساواة هو التعليم والصحة والإسكان والعلاقات بين الجنسين وبين جميع البشر في الواقع. فالحكومات والأحزاب التي تقول إنها يسارية، لكن لا تحارب عدم المساواة لا تستحق هذا الاسم.

ألكسندر جيفن: هل النسوية قضية سياسية؟

آني إرنو: من خلال قولها إنه إذا كان «للمرأة الحق في الصعود على السقالة، فيجب أن يكون لها الحق في الصعود إلى المنصة»، تعبر أوليمب دو جوج (Olympe de Gouges) بطريقة رائعة ومأساوية، أثناء الثورة، عن مسألة الحقوق وعن دور المرأة في المدينة. فمنذ القرن التاسع عشر، تطالب الحركة النسوية بالحقوق التي تتعلق بالحياة العامة التي لم يكن يمتلكها سوى الرجال، أي الحق في التصويت والدراسة بالتساوي مع الرجال، وممارسة المهن المحظورة عليهن. وعندما نفكر في عدد السنوات، أو حتى القرن الذي مر حتى أصبح للمرأة في فرنسا حق التصويت (1945)، وفتح حساب مصرفي دون موافقة أزواجهن (1965)، والالتحاق بكليات العلوم التقنية، والقدرة على الجلوس في نفس الاختبارات التحريرية مثل الرجال في اختبارات القبول (1980)، يمكننا ملاحظة أن الحصول على حقوق متساوية، التي تفترض كل مرة تغييرًا في القوانين، كان قضية سياسية رئيسية.

في سبعينيات القرن الماضي، مع إعلان أن «الشخصي أمر سياسي» كنا نجعل المجال الخاص، وحرية المرأة بخصوص جسدها مسألة سياسية. يبدو لي أن النسوية في الوقت الحاضر تشكل قوة سياسية في حد ذاتها مع تيارات أخرى -كونية أو مادية أو متقاطعة. ويتعلق نضالها بإقامة مجتمع مختلف في نطاق العمل، التعليم، الثقافة، التمثيل السياسي، للجميع رجالاً ونساءً. النسوية والثورة؛ هذا برنامج جميل.

ألكسندر جيفن: لقد اتخذت مواقف علنية في مناسبات عديدة. هل هذا واضح لك ككاتبة؟ وهل من الضروري فصل الترتيب؟ 

آني إرنو: الكتابة في نظري دائمًا فعل سياسي، بالمعنى الأعم للكلمة: الكتابة تقدم صورة عن العالم، وعن الأفراد؛ وهي، كما قال رولان بارت (Roland Barthes)، اختيار المنطقة الاجتماعية التي يحفر عليها المرء لغته. وإذا نظرت إلى الوراء في النصوص التي كتبتها، فمن الواضح أنها تحمل رؤية وتحديًا للنظام الاجتماعي، من ناحية، ولحال المرأة من ناحية أخرى، وغالبا ما يكونا كلاهما معا. لكن كتاباتي ولدت من رحم العواطف والمشاعر التي كنت في حاجة إلى توضيحها في عملية البحث في الواقع. هذا هو الشرط الذي يسود دائمًا. لا توجد كلمة أكثر تضليلاً بالنسبة لي من كلمة «رسالة» عندما أتحدث عن كتبي وحتى عن «الالتزام» بالمعنى التقليدي الذي اتخذته في فترة ما بعد الحرب. ما ألتزم به في كتاب هو أنا نفسي وحياتي تمامًا. لكن الأهمية التي أوليها للكتابة تتماشى مع الشعور بمسئولية خاصة عما يحدث هنا والآن. وبما أن لدي الفرصة أن يقرأني الآخرون ويسمعونني، فمن واجبي أن أتخذ موقفًا، وأن أتدخل في النقاش السياسي. 

ألكسندر جيفن: هل تشعرين بالحنين إلى الأدب الملتزم لفترة ما بعد الحرب؟

آني إرنو: لا، لكنها شكلتني، أنا أفكر في رواية سارتر «مسارات الحرية» (Chemins de la liberté) ومسرحه، وفي مسرح كامو مثل مسرحية «الظرف الإنساني» (La Condition humaine). لكن عندما بدأت الكتابة، وعلى الرغم من أنني كنت غير ملتزمة بشكل حازم، كانت الرواية الجديدة هي التي جذبتني وأثارت تساؤلاتي عن الكتابة. 

ألكسندر جيفن: كيف تقيمين علاقة معاصريك بالسياسة؟

آني إرنو: إذا بدأنا بإعادة انتخاب شيراك عام 2002، يبدو لي أن هناك –باستثناء الإثارة المحيطة بالانتخابات الرئاسية– أكثر من مجرد عدم الاهتمام بالسياسة؛ يوجد عدم إيمان بأن الحكومات يمكن أن تغير الحياة، واشمئزاز من الوعود المتكررة التي لم يوفوا بها. في عام 2005، صوت أكثر من 54% من الناخبين بـ«لا» في الاستفتاء على الدستور الأوروبي، ثم استُهزيء بهذا التصويت من قبل المخادعون. وحركة السترات الصفراء هي ظهور لهذا العجز والشعور بالعالم السياسي والحكومات والأحزاب بعيدًا عن العالم الحقيقي. وفي الوقت نفسه، ربما لم يكن التطلع إلى العيش بشكل مختلف قويًا للغاية منذ عام 1981.

ألكسندر جيفن: هل يتحدث السياسيون لغة مختلفة عن لغة الكُتاب؟

آني إرنو: يستخدم الكتاب والسياسيون اللغة بشكل مختلف؛ لأن لديهم أهدافا مختلفة. فالسياسيون يريدون الإقناع والإغواء، ويسعون إلى توافق فوري في الآراء، ودائما ما يقصدون بعباراتهم أن تكون أفعالاً: القول يعني الفعل. إن لغة السياسي أدائية، سواء كان يعلن خفض الضرائب، أو حالة الطوارئ، أو «العالم الجديد». أما لغة الكاتب فهي لغة تحريض، لغة تؤدي إلى التأمل، الشعور، الحلم، التذكر بشكل لا يمكن الفكاك منه. فهي لا تخضع لطغيان الحاضر أو النتيجة..

ألكسندر جيفن: بالنسبة لك، ما الأعمال الأدبية العظيمة ذات الطموح السياسي؟ وماذا تعلمنا اليوم؟

آني إرنو: أنا معجبة بشدة بأعمال عظيمة، مثل رواية «الحياة والمصير» لفاسيلي جروسمان (Vassili Grossman)، و«التاريخ» لإلسا مورانتي (Elsa Morante) التي تأخذنا إلى أعماق الزمن التاريخي، والتي في الوقت نفسه تجعلنا نعيش تعقيده. فهما يكسران الفردية والحاضرية (présentisme) التي تسم عصرنا الحاضر. ومع ذلك، لدي نقطة ضعف حيال «الأحمر والأبيض» (Le Rouge et le Noir)، بل وأكثر حيال «التعليم العاطفي» (L’Éducation sentimentale)، وهي أعمال «يُعاش» فيها السياق والأفكار السياسية، في الحقيقة، من خلال شخصية جوليان سوريل أو فريديريك مورو. لقد جعلتني أيام السبت من شهري نوفمبر وديسمبر عام 2019، حيث تمرد السترات الصفراء، أتذكر صفحات فلوبير حول أيام 1848. فالنصوص تمكننا من المقارنة والفهم: نحن أقل خوفًا، وأقل إدانة لما قد عايشناه خلال القراءة.


الترجمة خاصة بـBoring Books.

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.