ركضت إلى الشاطئ، وقعت، وشعرت بكره الجزيرة لي ومحاولتها التخلص مني ومن القارب المحمّل. بكيت، وشتمت، وواصلت الدفع، فانطلق القارب والمجاديف ما تزال في الماء.

الجزيرة

نص لتوفه يانسون

ترجمة: مريم الدوسري

عن ترجمة هرنان دياز إلى الإنجليزية

توفه يانسن (1941-2001) رسامة وكاتبة فنلندية ارتبط اسمها بقصص عائلة المومن الموجهة للأطفال. نصوص يانسن، أكانت موجهة للأطفال أم للبالغين، تأملية تحث على التفكر في الوجود، في الحياة والموت، وفي علاقة البشر بما حولهم، ونص "الجزيرة" مثال على ذلك.  في هذا النص الذي استوحته الكاتبة من فترات إقامتها في إحدى الجزر الفنلندية، تصور يانسن تحولات الفصول واختلاجات النفس البشرية، واستراحات قصيرة لا يبدو فيها الإنسان عازمًا على تطويع الطبيعة، ولا تقاوم فيه الطبيعة تغوّل البشر، وما يتخلل هذه الهُدِن من عزلةٍ ومحاولاتٍ للبقاء.


توفه يانسون، عن The Paris Review

هناك عدد كبير ومفاجئ من الناس ممن يحلم بجزيرة.

أحيانًا يبحث هؤلاء الأشخاص العازمون عن جزيرتهم، ويحتلونها. وأحيانًا أخرى يكون فيها الحلم بالجزيرة رمزًا غير واعٍ لما لا يمكن الوصول إليه وإن كان على بعد خطوة. على أي حال، في الجزيرة خصوصية وحميمية وبُعد. هي كلٌّ مستدير، دون أسوار أو جسور، يعزلها الماء ويحميها ويجعل منها في الوقت نفسه احتمالًا لا يؤخذ في الحسبان. وكما الدائرة، للتسكع على الشاطئ في جزيرة المرء الخاصة ذات الحتمية المُرْضِية.

هذا الحد الفاصل بين الأرض والبحر، الشاطئ، متقلب وخوّان، شكَّله البحر بعنف أهوج مبعثرًا عليه أشياءً غريبة منحها البحر وهو يملِّسها قوة ونعومة. لا شيء أكثر احمرارًا من شاطئ من الطحالب تلتمع وقت الظهيرة. حصى ناعم وعشب كثّ. وبين حطام فوضوي متحدر، الأرض رملية ناعمة على غير ما هو متوقع، ومناظر طبيعية التي لم تمس بعد تنعكس مصغَّرة في سواد أحواض الماء.

تبدو الجزيرة للناظر من البحر بلونها الكابي الحزين صغيرة لامبالية. كلها على الأغلب أحجار ونتف من غابة مبتورة. لا جبال عالية فيها ولا ميناء. بعد الغروب تغدو الجزيرة ظلًا أسود، لطخة صغيرة في لوحة من الكوبالت، صاخبة بالأصفر والأزرق السماوي. يختفي الأفق، بينما طيور البط والحَذَف تطير بصمت بالقرب من الماء في خطوط واثقة. تجلس النوارس استعدادًا للمساء بلا حراك على الجزر القريبة، رؤوسها جميعا تشير إلى ذات الاتجاه.

يتجول المرء في الجزيرة في سكينة تامَّة. ما من أحد قادر على المجيء، وما من أحد يحتاج إلى المغادرة. توقفت الساعات منذ وقت طويل، ومضى وقت على انتعال الأحذية. تجد الأقدام طريقها، واثقة، مكتفية بذاتها، حساسة كالأيدي، تتحسس فرحةً عجلى، الرمل والطحالب والجبل. ملابس المرء خفيفة وناعمة، بهُتَت، كما الشَعْر، لا ينسدل أبدًا، منتصبًا كالعشب.

كل ما يهم المرء سُوّي، حُيِّد، أفرِغَ من الأهواء والمصالح. المرء هنا رفيق نفسه، نادرًا ما يتحدث، وأبدًا لا يسأل. شخصٌ يمكن للمرء أن يعيش معه.

ينعكس كل شي خارج المرء في تأمل هادئ للمألوفات التي تتحول دون مقاطعة لتخلق شعورًا غامرًا بالراحة والتوجس- في البحر المتبدل، في الشاطئ الذي يعلو، وينخفض، ويغير شكله، في كل الأشياء التي تنمو، وتموت، وتنمو مرة أخرى في أماكن جديدة وغير متوقعة- في صمود الأشجار في وجه العاصفة، وفي كل ما بناه المرء، يجري الخراب مجراه الطبيعي، يجد المرء متعة في إدراك ذلك وفي تكراره.

بعد أن يبقى المرء وحيدًا لمدة طويلة، يصيخ السمع بطريقة مختلفة، ينظر بطريقة مختلفة إلى ما هو طبيعي وغير متوقع حوله، متلمسًا جمال الأشياء العصي على الفهم. وتغادر المرء أفكاره الأنانية أو تذوي وتموت. تصبح الأحلام أبسط ويستيقظ المرء مبتسمًا.

هيكلٌ متداعٍ ذاك القارب الذي يموج في ظلمة الأفق، يدفع المرء لقاءه خوفه من الظلمة والشعور المفاجئ بالهلع. خلال أيام الأسبوع الحافلة بمهام عمليَّة، هادئة ورتيبة- اسحب القارب من الماء قبل العاصفة. أشعل المصباح استعدادًا لليل. اجمع الحطب واقطعه- تغدو العزلة أكثر طولًا وأشد صلابة.

سهلة هي المشاكل ويمكن حلَّها.

يتسرب الماء. يخر من السقف. تكاد شجرة تقتلع. حطم طيهوج النافذة، واختفت شبكة. بداية الربيع هي أكثر الأوقات أمانًا، هامش آمن بين قلق المدينة والصيف المستهلك، أخضر، مطمئن وودود. لا قوارب تتنقل بين الجزر، لم يطأ أحد الرمال، والجزيرة تدنو خلسة من البرية باردة الألوان وجادة، ورقيقة كالجليد على أحواض الماء، والسماء المتجهمة مصنوعة من زجاج. كل شيء، وقد تخلص تمامًا من غواية الصيف، متوجس، مترقب.

ليلًا تأتي صيحات البط ذي الذيول الطويلة من جزر بعيدة، يمكن سماعها عندما يستيقظ المرء لإشعال النار قبل الفجر. يقف عند الباب، متجمدًا جَذِلًا، يتأمل الأرض الهزيلة والجبال في الغبش.

ما ذبل ومات العام الماضي يبدو الآن كمصيدة بنية تصطاد كل ما قرر أن يبدأ بالنمو. يصبح التفكير في الاحتمال البعيد في أن الحياة هبة، ممكنًا. تشتعل النار في الموقد. يتكور المرء لينام مدركًا للصمت حوله، متصادقًا مع نفسه.

هناك متعة في رفع الصخور الثقيلة، في سحب وموازنة جذع شجرة لإخراجه من الماء، وفي توجيه القارب في ريح جنوبية غربية. الماء متجمد والأرض صلبة والنور يشتد كل يوم، حتى يشعر المرء بأن الجنة في متناول اليد، وإن نسيّ عامًا بعد عام، أن السعادة تكمن في الانتظار، لا في الوصول.

ولكن الصيف لا يخلف وعده ويغادر.

يمضي سبتمبر نحو أكتوبر، وتصبح الجزيرة قاسية غير مكترثة مرة أخرى. ترحل آخر قوارب الصيد ليلًا، تختفي أضواؤها في المحيط. هناك صمت جديد، لا يسمع فيه تغريد الطيور. تغدو الألوان قاتمة، والجزيرة مكدودة متعبة بوجه معادٍ جذّاب.

الخوف من الظلمة يدفع بالمرء خارج الكوخ ذي النوافذ السوداء الثلاث إلى سقيفة الشِباك الصغيرة في الخلف- مكان آمن صلب لا يمكن أن يشي بالمرء حال الخطر الذي تأتي به عواصف الخريف. عواصف حقيقة لا تخف عند المغيب، ترتهن الجزيرة عشرة أيام، ترج الكوخ وتغير الشواطئ. وفي اليوم الرابع من العاصفة، يسمع المرء أصواتًا غريبة، عالية في الغرفة ومحسوسة أيضًا في السقيفة- نغمٌ يتشظى كالموسيقى التي تصدرها الإلكترونات، ضحك، وعواء، ودقات ساعات بعيدة، وصوت أقدام تركض ثقيلةً في المنزل.

ما دامت المرايا قد عُكِسَت لتواجه الجدران في الوقت المناسب والبطانيات تغطي النوافذ، كل هذا لا يهم.

وبعد أن تغرب الشمس، يطغى كل ما هو عنيف وحاقد على الجزيرة، فيبدأ المرء بإقناع نفسه بأن ما من فتحات في السقيفة يمكن لشيء ما أن يتلصص منها. ولكن المصباح يجب أن يشعل كل ليلة. يجب ألا ينطفئ. لا يمكن للمرء أن يجازف في أكتوبر بالشعور بالخوف- الخوف من الخوف، لا من البشر، بل مما يبدو كأنه منهم، وما هو بذلك.

الصباح لامبالٍ شفاف.

كتل جديدة من الطحالب تتراكم على الشاطئ المواجه للريح. تجف الجزيرة وتتقلص تحاول أن تطرد ما عليها. كل شيء عَفِن، منْهَك، مُسْتَفَرَغ. لن يبقى ما يجلبه البحر في أحشاء الموج المنتفخة، سيواصل مسيره بلا هوادة، فيما تعري الريح الأرض، ويصل زبد البحر حتى النوافذ يغطيها.

يرتفع الماء.

كل ما بناه المرء وجمعه يجب أن يُحمل إلى مكان أعلى وأبعد. كل يوم أعلى وأبعد، كما لو أن الجنَّة على وشك أن تُطْمَرَ في البحر، ويغمر المرء شعور غامض يدفعه للحاق بها.  كل ما حوله عرضة للموت والنجاة.

ينزل ستار من المطر على البحر في أحد الأيام، قبيل الغسق، ولبضع ساعات، تستعيد الألوان حيويتها وبريقها، وتسترد الأرض عافيتها الشهوانية. ثم تتهدل. الأرض ليست حية، بل منتفخة فحسب، كالبحر حولها. لا يمكن فتح الأبواب والنوافذ، وكل ما كان بنيًّا جميلًا، ذابلًا، ليس إلا كتلة رطبة الآن. الجزيرة ميتة، ولم تُقَم بعد جنازتها المهيبة.

يغادر في رعب آخر طيور الصيف وأهل المدينة.

رحلتُ حين توقفت الريح في الليلة التي انقطعت فيها العاصفة فجأة. نفد ما عندي من الطعام والحطب، وكانت الريح ما زالت تهب. في اليوم الأخير، استلقيت على الأرض، أتخيل صورًا في خشب السقف. الغرفة خاوية دون ستائر وحقائبي تنتظر قرب الباب منذ أسبوع. فجأة، غطى ضباب أسود النوافذ سريعًا، وطارت طيور بأجنحة مسننة حول الكوخ قريبة من الجدران- مرة تلو الأخرى، فالأخرى. وفي جنون العزلة الواضح كنت مقتنعًا بأن حيوانات رهيبة غير معروفة تحوم في دوائر حول المنزل متوعدة بالهلاك.

ليلتها، توقفت الريح وأيقظني الصمت.

نسيت الخوف من الظلمة حين حاصرت الكارثة المنزل. شرَّعت الباب وركضت خارجًا. ركضت وتعثرت- الجزيرة ليلًا، جزيرة غريبة. ألقيت بمتاعي في القارب. ما زال المصباح في الكوخ مضيئًا، وحيدًا في الجبل، أخْفَتُ من المنارات الواثقة التي ترى في الأفق. أغلقت باب الكوخ. أدرت المفتاح الذي لم تكن لي حاجة به حتى الآن مرارًا، فرفض الانصياع. تحولت شجيرات العرعر في ضوء المصباح إلى مخلوقات مريعة. هَبّت ريح جديدة من البحر.

ركضت إلى الشاطئ، وقعت، وشعرت بكره الجزيرة لي ومحاولتها التخلص مني ومن القارب المحمّل. بكيت، وشتمت، وواصلت الدفع، فانطلق القارب والمجاديف ما تزال في الماء. لم تكن الظلمة في البحر خطرة، ولكنها تملأ المرء بالخزي. أيها الصيفي البائس -قال أحدهم- تظن أنك تحب جزيرتك ولكنك لم تَقْو على شتاء واحد معها. يا طير الصيف، يا مرتاد البحر، أيها الطفيلي مدّعي الوحدة، يا من تتلهى بما هو طبيعي وجميل، أيها المتمدن الحقير.

كل شيء كان حالكًا. اشتدت الريح في البحر، سمعتها تقترب، كما لو أنها تمشي على الماء، حتى قبل أن تمسّه. جدفت دون تفكير. في مكان ما هناك أرض يابسة، آمنة، حيث بيوت نائمة، والمدينة المضاءة على مسافة أبعد من ذلك. المدينة التي أنتمي إليها، عشت وأمضيت الشتاءات فيها. فجأةً وفي منتصف الرحلة توقفت عن التجديف. ولأول مرة ذاك الشتاء، خلال هربي، اجتاحني شوق للجزيرة.


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها