"لماذا ينبغي أن تكون ليلتنا الأخيرة مختلفة في أي شيء عن أي ليلة أخرى؟ لقد أفسدتُ ما يكفي من الليالي من قبل، أليس كذلك؟"
أنا لا أُقبِّل الغرباء
شيرلي جاكسون
ترجمة: سامح سمير
كل مرة كان يذهب فيها إلى حيث كانت تجلس، كان يشرع في قول شيء ما ثم يقرر ألا يفعل. فقد كان هناك كثير من الناس إلى حد يمنعه من أن يتفوه بأي كلام عاطفي، وكانت هيئتها لا تشجع على قول أي كلمات مرحة قد يوحي بها الموقف. في إحدى المرات، جلس بجانبها وأمسك بيدها، لكنها ابتسمت ابتسامة غامضة فحسب وراحت تحدق فيما أمامها مباشرة.
كانت الحجرة مكتظة بالناس، وشديدة الصخب، وأراد هو أن يأخذها إلى مكان ما بالخارج في قلب الليل. لكن ما من شىء كان يمكن أن يقوله لها ليقنعها بذلك. في وقت ما أثناء السهرة، حكى لأحدهم عن هذا الأمر. " لا يمكنك أن تنهض من مقعدك هكذا، وتذهب إلى فتاة، في منتصف الحفل، وتقول لها، "تعالي نخرج إلى الهواء الطلق بالخارج، علينا أن نودع بعضنا بشكل ما".
بيد أن هذا الشخص لم يقل له سوى "بحق الله. خذها إلى حجرة النوم، إنها فارغة الآن؟" ثم تركه ومشى مبتعدًا.
وفي نهاية المطاف، حين وصل الحفل إلى ذروته وتعتعه السكر، واشتد صخب الغناء بما يكفي لكي يغطي على معظم الأحاديث، اتجه إليها وجلس إلى جوارها مرة أخرى.
قال لها، "اسمعي، أريد أن أتحدث إليك في أمر ما".
"بالتأكيد، أنا أسمعك".
ومن هذه اللحظة لم يكن هناك أي شىء ليقوله. فكر في أن يذكرها بأن هذه هي أمسيتهما الأخيرة معًا، لكنه نبذ الفكرة إذ بدت له خرقاء. وأراد أيضًا أن يسألها لماذا ينبغي أن يقضيا لحظاتهما الأخيرة معًا وهما ساخطان على بعضهما هكذا، لكنه كان يعرف أنه لن يستطيع أبدًا أن يحصل منها على إجابة. فقال لها: "أنا أنظر إليكِ طوال الوقت".
"لا أريد أن أنظر إليك الآن،" قالت بسرعة كبيرة، " لدي ما يكفي الآن لكي أتذكرك".
"سوف تأتين لزيارتي، أليس كذلك؟" أمسك بيدها وراح يجذبها إليه، محاولًا أن يجعلها تلتفت إليه. "سوف تأتين وتلتحقين بالخدمة في المعسكر، أليس كذلك؟"
"لا، سوف أعود إلى بلدتي. إلى أمي".
"وسوف تقضين اليوم بطوله جالسة إلى مأدبة غداء حافلة، بينما أكدح أنا كالعبيد، حاملًا بندقية تصلي نارًا حامية".
"اخرس". قالت له.
وهنا، جاءت اللحظة ليقولها، فقالها: "تعالي معي. دعينا نخرج من هنا".
"لا أريد أن ابتعد كثيرًا عن الشراب". قالت له.
"دعينا نخرج لبضع دقائق فحسب".
"لا. انتظر لحظة. تعال". التقطت كأسها وعلبة سجائر، وأشارت له لكي يتبعها. أخذته إلى الحمام وأوصدت الباب.
وقالت له: "هنا. الآن، لم نبتعد كثيرًا، ولا يوجد أي أحد هنا".
"وماذا لو أراد أحدهم أن يدخل؟" قال وهو يجلس على حافة المغطس.
"دعه ينتظر. لن نمكث هنا طويلًا".
"يا له من مكان مبهج،" قال وهو ينظر حوله. "مخصص، تمامًا مثل دور النشر لدينا، لمخلفات البشرية الأقل طلاوة".
"أوه، رائع. فليكن إذن وداعًا مهيبًا وعاطفيًا. لا بد أن روح نويل كوارد[1] قد تلبستك لكي تتفوه بمثل هذه الأشياء".
"ماذا دهاكِ، بحق السماء- هل أنتِ ثملة فحسب؟"
بدا له أن بإمكانه الآن أن يقول أي شيء كان قد بدا له منذ قليل عقيمًا وأخرق أكثر مما ينبغي. فقال: "حبيبتي، إنها آخر ليلة لنا معًا، ولا أريدها أن تفسد..".
"لماذا ينبغي أن تكون ليلتنا الأخيرة مختلفة في أي شيء عن أي ليلة أخرى؟ لقد أفسدتُ ما يكفي من الليالي من قبل، أليس كذلك؟"
"لكني لا أريد أن أظل أفكر فيكِ كـ..."
"اسمع. هذه ليست واحدة من أفضل لحظاتنا معًا- ألا تعرف هذا؟ ألا ترى أن هناك فرقًا بين أن نكون عاشقين ونستمتع بوقتنا معًا، وبين أن تكون أنت مُجندًا ونحن عاشقان؟"
سألها: "هل ثمة فرق؟"
"مؤكد، هناك فرق. حتى الليلة الماضية فحسب كان كل شىء كما هو، لكن في اللحظة التي بدأ فيها يومك الأخير معي، أصبح الأمر مختلفًا. وسوف يظل مختلفًا لا أعلم إلى متى".
"عام واحد".
"كفى هذا الهراء عن العام الواحد. حتى إن عدتَ فسوف تكون حينها جنديًا سابقًا. وسوف تحمل معك شتى الفظائع التي ستظل تتذكرها، وسوف تكون شخصًا آخر".
"من يسمع هذا الكلام سيظن أنكِ أنت التي تسلمتِ أمر الاستدعاء إلى الجيش".
"هل تعتقد أنني لم أتسلمه؟ بمقدوري أن أجلس هنا وأقول، نعم، سوف يمر وقت طويل قبل أن أراك مجددًا، ولن أستطيع أن أصارح نفسي، ولو تلميحًا، بما يعنيه "الوقت الطويل". كيف سوف أجلس هنا وأقرأ الخطابات. أو أبحث لنفسي عن شخص آخر غيرك. ليس لدي أي فكرة حتى عن كيف سيبدو هذا الشخص الجديد. ولا أعرف حتى كيف سيكون صوته. هذا هو معنى (الوقت الطويل). وكل الأشياء التي سوف يتعين علي القيام بها بدونك. لا أستطيع حتى أن أتصور عدد المرات التي سأذهب فيها إلى الفراش بمفردي. أو برفقة أحدهم –هذا الشخص الذي لا أعرفه. أو كم مرة سوف تنفد سجائري بدون أن تهرع أنت إلى الخارج وتجلبها لي".
"نعم، لكن من منا سوف يتعين عليه أن يرقد على بطنه في الوحل؟"
"من منا سوف يتعين عليه أن يعيد إرسال بريدك إلى عنوانك الجديد؟ من منا سوف يتعين عليه أن يعبئ ساعة الحائط الآن، أو يحمل أكياس القمامة إلى الخارج كل ليلة؟"
"سوف تعتادين على ذلك".
"إذن سوف أصبح أنا أيضًا شخصًا آخر. سوف أكون شخصًا يعيش بدونك، تمامًا مثلما أنت شخص عليه أن يذهب إلى معسكر الجيش غدًا".
"لكن لماذا لا نستطيع أن ننعم بالسعادة، هذه الليلة على الأقل". سألها بإلحاح. "لماذا، بحق الجحيم، ينبغي أن نتصايح؟ نحن نتشاجر لأنني سأرحل – هذه حماقة".
"لا أحد يتشاجر،" قالت له، "ولا أحد يتصايح. أنت لا تريد سوى فرصة لتربت على ظهري وتقول لي (هيا، هيا، إنه عام واحد فحسب)، لكني لن أدعك تفعل هذا. لن أشعر حتى بالاستياء – بل فقط بأن الأمر اختلف".
"لكن ما السبب؟"
"لأن هذا الوداع هو الشىء الوحيد الذي لدي الآن. لأنه سوف يتعين عليّ أن أستمر في القيام بالأشياء القديمة نفسها إلى الأبد، هذا هو السبب، وما من شيء يظل كما هو عندما تصبح أنت إنسانًا آخر".
"هذا كلام لا معنى له. هل تعنين أنني أصبحتُ شخص آخر لأني سوف أرحل؟"
"ألا تستطيع أن تفهم؟" قالت له. ثم "انظر، سوف أحاول مرة أخرى. أنت لم تعد الشخص الذي أحبه فحسب. أنت الشخص الذي أحبه والذي استُدعي إلى التجنيد. وكل ما خرجتُ به من هذا هي تلك الدقائق القليلة التي سأودعك خلالها. وحين ترحل لن يكون لدي شيء على الإطلاق سوى ما سوف تتركه لي. وأنا لا أريد أن أمضي تلك الدقائق القليلة الأخيرة مع الشخص الذي أحبه والذي استُدعي إلى التجنيد".
"عذرًا، لا أفهم ماذا تقصدين".
"لا،" قالت. "حسنًا، سوف أكتب لك خطابًا".
في هذه اللحظة، بدأ أحدهم يقرع الباب بشدة، وقال: "الحفل ينفرط عقده، على ما يبدو".
"نعم،" قالت، ونهضت واقفة. "حسنًا..." توقف عند الباب واستدار نحوها.
"لن تبكي الآن، أليس كذلك؟"
"لا".
دارت حوله وفتحت الباب، فمد ذراعيه إليها، لكنها أعرضت عنه.
"لا،" قالت له. "أنا لا أُقبل الغرباء. لا بد أنك تعرف ذلك الآن".
[1] كاتب مسرحي، وممثل وموسيقار إنجليزي، اشتهر بأسلوبه الوقور والمنمق حد التكلف.
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذنه منه