من المؤكد أنني لا أعدّ نفسي مُعلمًا روحيًا أو «جورو»، بل أشعر أنني حتى لستُ «مرشدًا»، فأنا مجرد رفيق، سمّني رفيقَ درب المسافرين معي في الرحلة.
ترجمة أحمد الزناتي
نُشرت في أخبار الأدب، مايو 2021
في سنة 1978 نشر الصحفي الفرنسي كلود هنري-روكيت كتابًا مهمًا يشتمل على مجموعة من اللقاءات التي أجراها مع مؤرخ الأديان والمفكّر والكاتب الروماني الأشهر ميرتشا إلياده ونشرها في كتاب حَمل عنوان محنة عبر المتاهة (Ordeal by Labyrinth) تناول فيها إلياده مُجمل آرائه حول الأديان والأساطير وعلاقتها بالأدب وبحياته الشخصية.
وُلد إلياده في بوخارست في التاسع من مارس سنة 1907، ودَرَس في كلية الآداب بجامعة بوخارست حتى سنة 1928، ثمّ سافر بعدها إلى كلكُتا لدراسة اللغة السنسكريتية والفلسفة، ثم سافر إلى لندن وإلى شيكاغو. إلى جانب شهرته الطاغية وإسهاماته في مجال تأريخ الأديان والفلسفات الروحية القديمة وتأليف موسوعة تاريخ الأديان وأعماله الموسّعة الأخرى حول الأساطير، مارسَ إلياده الكتابة الإبداعية وبرع فيها، إذ ألّف عددًا من الأعمال الروائية القصصية المهمة، من أهمها رواية الغابة المحرمة (The Forbidden Forest)، وشباب بلا شباب وليالٍ بنغالية، كما كتب اليوميات والمذكرات الشخصية.
على المستوى العام طالما نُظر إلى ميرتشا إلياده كشخصية مثيرة للجدل بسبب توجهاته الإيديولوجية/ السياسية، إذ اتهم بتعاطفه القوي مع الحركات اليمينية/ القومية المتشددة، وقد رُمي بتلك التهمة بسبب إخلاصه القوي للحرس الحديدي الروماني (حِراك يميني معادٍ للماركسية) وجهره بالعداء للشيوعية جهرًا صريحًا، وتأليف رواية الغابة المحرمة التي تكلّم فيها عن البطل الذي آوى ناشطًا يمينًيا من بطش الحكم الشيوعي في رومانيا، ووصلت التهم إلى حدّ الطعن في مصداقية إنتاجه العلمي، وهي التُهم نفسها التي سبق وأن طالت كارل جوستاف يونج وجوزيف كامبل بسبب توجهاتهم الإيديولوجية.
في السطور التالية نصّ حوار قصير نُشر في الكتاب المشار إليه.
كلود هنري-روكيت: بروفيسور إلياده.. طالما قارنتَ الحياة، حياتكَ تحديدًا، بمتاهة. ماذا بوسعك أن تقول اليوم حول معنى هذه المتاهة؟
إلياده: المتاهة هي خطّ دفاع، وأحيانًا شيء أشبه بحصن سحري مُشيّد لحراسة مركزٍ ما، أو كنز ما، أو معنى ما على نحو ما نرى في أسطورة ثيسيوس،[1] حيث يُمثّل دخول المتاهة طقس استهلال الحياة. وتسكن هذه الرمزية كل مخلوق قُيَّض له المرور بمحنٍ عديدة في مسار رحلته إلى مركز نفسه الحقيقي، إلى ذاته، أو إلى «أتمان» (Atman) كما يُسميه الهندوس.[2]
مرّت عليَّ أوقات عديدة تنبهتُ فيها إلى أنني على وشك الخروج من المتاهة أو على وشك بلوغ المخرج عبر الخيط، وكانت نفسي طافحة بمشاعر اليأس والقمع والضياع. بالطبع لم أقل إلى نفسي حينذاك: «أنا تائه وسط المتاهة». إلا أنني في النهاية كنتُ مملوءًا بشعور قوي بخروجي منتصرًا من قلب المتاهة. لا بدّ أن كل إنسان قد مرَّ بهذه التجربة. لكنني ينبغي أن أضيف أن الحياة ليست متاهة وحسب، بل امتحان ومحنة لا يتوقفان أبدًا.
كلود هنري-روكيت: وهل وصلتَ إلى مركز ذاتك؟
إلياده: شعرتُ مرات عدّة أنني بلغتُ مركز ذاتي وأفادني الأمر كثيرًا، لأني عرفتُ نفسي وقتها، ثم ما لبثتُ أن فقدتُ معرفتي بنفسي من جديد. وهذه أحوالنا: لسنا ملائكة ولا أبطالًا خارقين. فحالما نصل إلى مركز ذواتنا، تكتسي نفوسنا بثراءٍ روحي ويتسّع وعينا ويزداد عُمقًا، ويمسى كل شيء واضحًا وذا غاية ومعنى، لكن الحياة تمضي بنا قدمًا فتزجُّ بنا إلى قلب متاهة جديدة وإلى قلب مواجهات جديدة واختبارات جديدة. على سبيل المثال المحادثات التي أجريناها معًا قادتني إلى دخول متاهة من نوع آخر.
كلود هنري-روكيت: لقد تكلّمتَ للتوّ عن لحظات «تعرّفك على نفسك». يذكّرني هذا بكلام أهل التصوف أو رهبان الزِن، حيث ينبغي للمرء التأمل في الوجه الذي كان له قبل ميلاده أو أن يتدبّر الملاك الساكن فيه سرًا. أي وجه كنتُ تملكه في لحظة تعرفك إلى نفسك الحقيقية؟ أم هل تفضل الصمتَ إزاء هذه النقطة تحديدًا؟
إلياده: نعم أفضل الصمت.
كلود هنري-روكيت: شرحتَ في يومياتك حالة اليقظة المفاجئة أنارتْ وعيك يومًا، وإلى حالة الانتباه إلى حقيقة حياتك وإلى مسارها ومدى عُمقها.
إلياده: كانت حالة اليقظة تلك واحدة من التجارب التي مررتُ بها عدة مرات، وهي التجربة التي يتحتم على الإنسان خوضها لو أراد العثور على ذاته مجددًا ولو أراد إدراك مغزى وجوده في الدنيا. نعيش حياتنا، إجمالًا، على شكل حلقات منفصلة. ذات يوم وبينما كنتُ أسير بجوار المعهد الشرقي في شيكاغو، تنبهتُ فجأةً إلى طبيعة التسلسل الكامن طوال هذه المرحلة التي بدأت في فترة مراهقتي، ثم سفري إلى الهند وإلى لندن وإلى الأماكن التي ارتحلتُ إليها. إنها تجربة مُواسية لنفس المرء، إذ تشعر أن وقتك لم يُهدر وأن حياتك لم تضِع سُدى. وأن لحظات حياتك ما تزال موجودة، حتى اللحظات التي تخيلتَ أنها بلا أهمية أو أنك نسيتَها مثل فترة تأديتي للخدمة العسكرية.
كلود هنري-روكيت: أو لم يكن فيها ما يسوؤكَ؟
إلياده: أستطيع تبيّن عدد من الأخطاء أو مواطن القصور أو الإخفاقات في حياتي، ربما. لكن شيئًا يسوؤني؟ بمنتهى الأمانة: كلا. ربما لم أسمح لنفسي أن أراها.
كلود هنري-روكيت: كيف تنظرُ إلى مُجمل أعمالك اليوم؟
إلياده: أجامل نفسي فأقول إنني ما زلتُ غارقًا في كتبي وما زال ينتظرني عمل كثير. ولو أراد أحد الحُكم على ما ألفّته حتى هذه اللحظة فعليه أن ينظرَ إلى أعمالي في مُجملها. ولو كانت أعمالي تشتمل على قيمة أو أهمية، فذلك معزوُّ إلى أعمالي كوحدة كُلية. في النهاية فإن رجلًا مثل بلزاك ليس محصورًا في روايتي الأب جوريو أو ابن العمّ بونس وحسب، بل إن بلزاك هو الملهاة الإنسانية أيضًا. وجوته ليس فقط فاوست، بل إن أعماله في مُجملها هي ما تمنح جوته المعنى. وعلى النحو نفسه فلو جرأتُ على مقارنة نفسي بهؤلاء العمالقة فإن مُجمل أعمالي فقط هو المحدد لقيمتها ومغزاها. الحقيقة أنني أحسد من يحقّقون أنفسهم في كتابة قصيدة واحدة رائعة أو رواية واحدة عظيمة. إنني لا أحسد عبقرية رامبو أو مالارميه فقط، بل أحسد أيضًا عبقرية فلوبير، فكيانه مُجسّد بالكامل في كتابه التربية العاطفية. لكنني للأسف لم أستطع قط تأليف كتاب وحيد يمثّل ذاتي كليًا. لا شكّ أن بعض أعمالي مكتوب بطريقة أفضل من غيرها، وبعضها الآخر أكثر سبكًا وأشدّ وضوحًا، بينما يعاني غيرها بكل تأكيد من أوجه التكرار ومظاهر الإخفاق.
لكني أعود فأقول مجددًا: لا يُمكن لأحد القبض على معنى حياتي وأعمالي إلا عبر النظر إلى كُليتها وشموليتها. وهي مهمة شاقة على كل حال، لأن بعض كُتبي مُؤلف باللغة الرومانية ومن ثمّ فهو غير مُتاح للعالم الغربي، وبقيتها مؤلف بالفرنسية ومن ثمّ غير مُتاح للناطقين باللغة الرومانية.
كلود هنري-روكيت: في رأيك.. هل تعتقد أن حواراتنا ساعدتكَ على تكوين نظرة بانورامية لحياتك؟
إلياده: صادفتني عقبات عديدة على مدار حواراتنا، لا على مستوى اللغة وحدها، بل على المستوى الداخلي أيضًا. والسبب أنني استحضرتُ مجددًا لحظات مهمة من حياتي ومن فترة شبابي. وكانت أسئلتك في بعض الأوقات دافعًا إلى إعادة التفكير في بعض المسائل. أجبرتني أسئلتك، بشكل أو بآخر، على استدعاء مساحات شاسعة من حياتي. هل كانت أكبر من اللازم؟ ربما. وهنا مكمن الخطر، إذ لا يجب على المرء النفاذ إلى أعماق كل كلمة يقولها. على كل الأحوال أنا مهتم بقراءة الحوارات بعد الانتهاء من نسخها. لأنني أتعرّف إلى نفسي في كلامي بشرط التوكيد على نقطة واحدة وهي على يقين من أنني لم أجِب عن أسئلتكَ إجابات واضحة مُحددة. يجب أن تؤخذ إجاباتي على علّاتها: أي باعتبارها إجابات مؤقتة مرهونة بظروفها. ويظل كل شيء مفتوحًا، وربما تحتاج جميع الأسئلة إلى الإجابة عنها من جديد. صحيح أن إجاباتي صادقة، لكنها ليست مُكتملة. فما زال في مقدوري إضافة أشياء والتوكيد على أخرى. وهذا ديدن هذه الحوارات. أعتقدُ أن يونسكو [أوجين] قد جرّب شعورًا مشابهًا حينما أجرى سلسة مماثلة من الحوارات. نعم، كل الملفات ما تزال مفتوحة. علاوة على ذلك، ومثلها مثل أية تجربة غير متوقعة، أشعر أن رؤيتي للأمور قد تغيّرتْ قليلًا وازدادتْ عمقًا لتضم بين جناحيها أشياء جديدة لم آلفها من قبل. أفكّر في أشياء مثيرة للاهتمام لم تكن لتخطر ببالي قبل أسابيع من الآن. كنتُ أعلم حينما بدأتُ سلسلة الحوارات أنني سأقول أشياء بعينها، لكنها لم تكن قط الأشياء التي جالتْ ببالي اليوم. أرى المستقبل فاتحًا ذراعيه: هذه هي الصورة التي تطاردني الآن.
كلود هنري-روكيت: لابد أن الأمر اقتضى مقدرة عظيمة للتمكن من إنجاز كل ما أنجزته على مدار حياتك. من أين تأتي بهذه القدرة؟ وأي حافز يحثّك على إنجاز هذا الكم الهائل من الأعمال؟
إلياده: ليست عندي إجابة واضحة، لنقل إنها مشيئة القَدر.
كلود هنري-روكيت: طالما أرجأتُ سؤالي عن مسألة الألوهية، لحدسي المسبق بإعراضك عن هذا السؤال.
إلياده: صحيح، فهذا النوع من الأسئلة مهم بالنسبة إليَّ شخصيًا وكذلك بالنسبة إلى أي قارئ مهتم بهذه القضايا. والحقيقة أن مسألة الألوهية، بما لها من أهمية مركزية، جديرة بألا أمرّ عليها مرور الكرام بكلمتين عابرتيْن. لكني آمل مقاربتها ذات يوم في دراسة مكتوبة مقاربة شخصية ومترابطة.
كلود هنري-روكيت: هل هذا الإعراض الصامت عن مناقشة مسألة الألوهية هو نتيجة رفضك أن تلعب دورَ المُعلّم الروحي؟
إلياده: من المؤكد أنني لا أعدّ نفسي مُعلمًا روحيًا أو «جورو»، بل أشعر أنني حتى لستُ «مرشدًا»، فأنا مجرد رفيق، سمّني رفيقَ درب المسافرين معي في الرحلة، وهذا، مرة أخرى، سبب تردّدي في مقاربة بعض القضايا الجوهرية مقاربة ارتجالية. أعرف جيدًا ما أومن به، لكن ما أومن به عصّي على القول في كلمات.
كلود هنري-روكيت: طالما تكلّمتَ عن «الحقيقي».
إلياده: صحيح.
كلود هنري-روكيت: وما الحقيقي بالنسبة إليك؟ ما تعريف الحقيقي عندك؟
إلياده: وهل بالإمكان تعريف الحقيقي بهذه السهولة؟ أنا لا أستطيع تعريف الحقيقة. يبدو لي الحقيقي شيئًا بدهيًا غير محتاج إلى تعريف، فإن لم يكن الحقيقي بدهيًا فمن المؤكد أنه يحتاج إلى برهان دامغ.
كلود هنري-روكيت: هل وجدتَ عونًا عند القديس أوغسطين حينما قال: «لو سألني أحد ما الحقيقة فلن أعرف، وإن لم يسألني فـ..».
إلياده [مُكملًا العبارة]: «وإن لم يسألني فحينها سأعرف ما الحقيقة».. نعم.. نعم.. هذه هي الإجابة الصحيحة.
[1] ثيسيوس: شخصية من الأساطير الإغريقية وأحد ملوك أثينا الأسطوريين. تطوّع في أحد مغامراته لقتل المينوتور (نصف الإنسان/ نصف الثور) وسافر في سفينة سوداء ووعدَ أباه إذا قتل الوحش سيعود بأشرعة بيضاء وعندما وصل وقعت الأميرة أرياني في حبّه وساعدته في الخروج من متاهة المينوتور عن طريق طرف الخيط الموجود في أول المتاهة فيهرب من كريت بعد نجاحه في مهمته. (المترجم)
[2] أتمان: يراد بها في الأدبيات الهندوسية روح العالم، أو مبدأ الحياة أو الروح المطلق أو نفس الكون الفعلية التي تتخلل كل شيء، والمصطلح المستخدم للدلالة على النفس الباطنة هنا هو أتمان، وهذه كلمة تستخدم فلسفيًا لتدل على نفس الإنسان الخفية والدفينة باعتبارها متميزة عن جسده وأعضائه الحسية والعقلية؛ أي إنها تشير إلى النفس المنزهة وليس إلى النفس العملية (Jiva) التي تتطور خصائصها العقلية والنفسية داخل الجسم وتكون معلومة من خلال الخبرة الحسية. (المترجم)
الترجمة خاصة بـBoring Books.
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.