"كما نحيا الآن" من أقرب النصوص إلى قلبي في هذه السلسلة، ذلك أنها حكاية رائعة وميلودراما تجاوزت زمنها لتتناسب مع كل زمن. إنها تحفة كاتب خَبِر واختبر صنوف الكتابة؛ رواية تبدأ متهكمة وتنتهي كمهزلة اجتماعية مسلية.

كما نحيا الآن لأنتوني ترولوب (1875)

مقال روبرت مكروم

نُشِر في الجارديان، فبراير 2014

ترجمة: أسماء السكوتي


أنتوني ترولوب، عن الجارديان

يمثل أنتوني ترولوب نموذج الكاتب الإنجليزي في القرن التاسع عشر؛ لا يعرف الكلل، شعبي، شديد الاحتكاك بمجتمعه، وعلامة في الإنتاجية. نشر على مر 67 سنة أكثر من أربعين رواية، من ضمنها سلسلتان (سجلات بارشيستر والباليزر)، رسخته في الوعي الشعبي كمثال لرجل الأدب الفيكتوري.

ورغم ذلك، فإن ترولوب لم ينجح في اجتذاب معاصريه، ودليل ذلك ما جاء على لسان هنري جيمس الذي وصفه بكونه "روائيًا يطارد الثعالب".[1] أما بعد نشره الكارثي لسيرته الذاتية فقد أهدرت سمعته بسبب علاقته المجحفة بفنه (كمية مهولة من الكلمات كل يوم، شخصياته التي يُسخرها لحاجاته السردية دون أدنى مبالاة، وغيرها). هكذا، انقلبت قدرات ترولوب ضده، واعتبرت شعبيته في أوساط قراء الطبقة الوسطى حجة عليه. ولكن، إذا كانت هناك رواية وحيدة تشهد بفضل لترولوب وتنقذه من تهمة الأدب التجاري والسطحي، وتنصّبه في موقع صدارة، فلا بد أن تكون الرواية التي كتبها في حالة من الشغف المتوقد سنة 1873؛ أي "كما نحيا الآن".

مشتعلةً بنيران السخط، تبدأ الرواية متهكمةً؛ ذاك أن ترولوب الذي لبث بأستراليا 18 شهرًا يجد حين عودته إلى لندن 1872 مجتمعًا (رآه) غارقًا في الفساد. سيكتب لاحقًا أنه ارتعب من "مستوى الفساد؛ فساد عظيم في حجمه، وقد بلغ مقامات عالية.. فساد شديد الغزارة والأبهة حتى ليخاف المرء أن النساء والرجال قد يتوقفان عن مقت الفساد إذا وصل إلى هذه الدرجة من الأناقة".

كان من المفترض في البداية أن تعنون الرواية بـ "رواية كاربوري" وأن تتمحور حول شخص السيدة كاربوري الكهلة المتغنجة التي "يركبها الغلط من رأسها إلى ساسها" والواقفة على شفا فضيحة أدبية، والمستوحاة إلى حد ما من حياة الكاتبة المحنكة فرانسيس ترولوب، والدة الكاتب ومؤلفة العمل الرائج "العادات المحلية لدى الأمريكيين". ولكن، بمجرد أن يُدخل ترولوب إلى النص شخصية أوجست ميلموت، واحد من أكثر وحوش الرواية الإنجليزية التي لا تنسى، حتى تنقلب الموازين السردية بين الشخوص ويحتل الأخير الصدارة. ربما لأن ترولوب قد قرر التحرر من كل القيود التقنية والغوص بلا مسؤولية أو عقال إلى أعماق موضوعه، بعد حياة مديدة قضاها في تحبيك النصوص برزانة وتدقيق المسار الحكائي بتفانٍ. هكذا، ستتميز "كما نحيا الآن" بحيوية فجة وحادة (تذوي كلما اقتربنا من نهاية النص)، غابت في نصوص ترولوب الأخرى المشابهة لبعضها البعض.

بنى ترولوب شخصية ميلوت على مثال الرأسماليين المنحلين والفضائحيين في سبعينيات القرن التاسع عشر، ليبرز في حلة أصبحت مألوفة: متعجرف ومتحجر القلب وفاسد وغني ببذاءة، يتصور أنه قادر على شراء أي شيء، حتى التأثير السياسي. هكذا، ومن خلال رسم هذه الشخصية، تبلغ ضراوة ترولوب التهكمية منتهاها، ليصبح ميلوت بذلك «نذلًا بشعًا، ضخمًا، فاحش الغنى.. نصابًا منتفخًا.. همجيًا دنيئًا». كم مرة صادفتنا شخصيات من هذا النوع في الحياة البريطانية ا لمعاصرة، ولنذكر مثلًا روبرت ماكسويل في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي؟

إن قصة ميلوت، التي تحتل قلب "كما نحيا الآن"، هي حكاية عن الاحتيال في مجال السكك الحديدية والمضاربات المالية المجنونة، تُختتم في النهاية بانهيار قصر الرمال على يافوخ متطفل موهوم. ليس هذا مكانًا مناسبًا لكشف مصير ميلوت، ولنكتفِ بالقول إنه كمصير كل فاسد. لكن فور مغادرته المشهد يعوضه حشد من المحتالين والأنذال: السيدة كاربوري وابنها الخرِع فيليكس الذي ينتهي سقف أحلامه عند هدف خسيس هو «الزواج من امرأة ذات إرث وثروة»، وهاميلتون فيسكر شريك ميلتون النصاب، و«دوللي» لونجستاف المغفل المولع بحياة الحفلات، والسيدة هورتل الأمريكية الوصولية، بالاضافة إلى توشيحة مسلية من الأنماط الأدبية (لا بد أن ترولوب استمتع هنا) بدءًا من بروون وبوكر (ما أحلاهما!)، ويِلد، وبراهام وألف الذين لو انضموا إلى لجنة تحكيم أدبية بريطانية اليوم ما كان لينازعهم أحد.

"كما نحيا الآن" من أقرب النصوص إلى قلبي في هذه السلسلة، ذلك أنها حكاية رائعة وميلودراما تجاوزت زمنها لتتناسب مع كل زمن. إنها تحفة كاتب خَبِر واختبر صنوف الكتابة؛ رواية تبدأ متهكمة وتنتهي كمهزلة اجتماعية مسلية. إنها رواية تصعب معارضتها لكونها تعليقًا وحشيًا على أحوال إنجلترا في منتصف العصر الفيكتوري، ولأنها من صنع روائي مدهش من السهل إدمانه؛ لانغماسه في كل جزئية من مجتمعه العجيب. لا عجب إذن، أن أول قرائها ناصبوه العداء واستقبحوه.

ملحوظة على النص

كان ترولوب، المحترف حتى النخاع، عادة ما يحتفظ بجدول زمني لكتابته السردية، هكذا، وقبل أن يبدأ "كما نحيا الآن" وضع الترسيمة، الباردة شيئًا ما، الحسابية التالية: "رواية كاربوري. 20 فصلًا. 64 صفحة لكل فصل. 260 كلمة في كل صفحة. 40 صفحة في الأسبوع. المفترض إتمامها في 32 أسبوعًا".

ولكنه كان مخطئًا؛ ذلك أن رواية "كاربوري" التي بدأت في مايو من 1873 لم تأخذ أكثر من 29 أسبوعًا، وبلغت كلماتها نحو 425 ألف كلمة. ومما يدعو للدهشة، أن ترولوب كان يشتغل على تعديلات رواية أخرى "هاري هيثكوت الجانجويلي" في الوقت ذاته. وكان ترولوب قد تعاقد مع الناشرين شابمان وهول (بـ3,000 جنيه استرليني) لتأمين تسلسل وحقوق ملكية أجزاء "كما نحيا الآن". ولكن، التوقيت لم يكن في صالحه؛ خاصة أن أيام قراءة الروايات المسلسلة كانت قد انتهت، ومن ثم لم تفلح الرواية في اجتذاب جمهور في صيغتها التسلسلية بين فبراير 1874 وسبتمبر 1875، وكان علينا أن ننتظر يوليو 1875 لتنشر الرواية في جزئين استباقًا لنهاية السلسلة. أما تعليقات النقاد فقد جاءت فقيرة. من ثم يضطر ترولوب أن يكتب في سيرته مدافعًا عن النص: "أنا لا أعتبر هذا الكتاب بأي شكل من الأشكال فشلًا؛ ولا أزعم أن الجمهور فشل في استيعابه". عمومًا، فإن "كما نحيا الآن" ستأخذ الاعتراف الذي تستحقه ابتداءً من أربعينيات القرن الماضي، ولقد أصبحت تعد اليوم ذروة إبداعه.


[1]  كناية عن الجهد المهدور، فحسب قاموس أكسفورد، مطاردة الثعالب جهد لا يوصف في سبيل اصطياد شيء لا يمكن أكله (المترجمة).


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها