قلة من شخصيات إليوت تنال مرادها، وعليهم جميعًا أن يرضوا بالحلول الوسطى. يتعلم بعضهم الدرس فيظفر بسعادة مؤقتة، فيما يرفض آخرون أو يعجزون عن التعلّم

ميدلمارش لجورج إليوت

مقال: روبرت مكروم

نُشر في الجارديان، فبراير 2014

ترجمة: كريم عبد الخالق


عن نسخة من 1910 لميدل مارش، عن wiki commons

ميدلمارش هو واحد من تلك الكتب التي يمكن أن تُنزل قوة تكاد تكون منوّمة على قرائها. القليل فقط من العناوين في هذه السلسلة ستتسبب في ردة فعل بهذا القدر. مثلًا، حين كتبت الشاعرة إميلي ديكنسون في 1873 عن الرواية في رسالة قالت: «رأيي في ميدلمارش؟ مثل رأيي في المجد؛ حالات قليلة فقط استطاع فيها الفانون [تقصد جورج إليوت] أن يبلغوا الخلود».

بجانب إيصال معجبيها إلى حالة من النشوة، تعتبر ميدلمارش أيضًا عملًا أدبيًا جادًا بامتياز. ترى ڤيرجينيا وولف أنها «واحدة من الروايات الإنجليزية القليلة التي كُتبت للكبار». ولاحقًا في القرن العشرين جعل الناقد المؤثر ف. ر. ليفيز ميدلمارش عنصرًا محوريًا بين ما سماه «التراث العظيم». اليوم قد تُعتبر الرواية الأعظم بين العديد من الروايات الفيكتورية.

خرجت تحفة جورج إليوت للنور بعد موت ثاكري (1863) وديكنز (1870)، وهذه ليست مصادفة. تحت العنوان الفرعي «دراسة لحياة ريفية»، تنطلق الرواية بواقعية وعظية بعيدة كل البعد عن سوق الغرور والآمال الكبيرة. ترتفع ميدلمارش فعلًا فوق المشهد الأدبي لمنتصف العصر الفيكتوري كأنها كاتدرائية من الكلمات، وفي اتساعها الظليل يمكن لقرائها أن يجدوا كل أنواع المنغصات التي يدمنها المرء، سلسال من الحقائق العارية: الوحدة المرافقة للفشل والإخفاق عند الدكتور ليدجيت، وإحباطات زوجته الغاضبة، والإهانة التي تتلقاها المرأة الصالحة دوروثيا، والمرارة التي تأكل أحشاء كزابون، إلخ.

قلة من شخصيات إليوت تنال مرادها، وعليهم جميعًا أن يرضوا بالحلول الوسطى. يتعلم بعضهم الدرس فيظفر بسعادة مؤقتة، فيما يرفض آخرون أو يعجزون عن التعلّم، فيقضون ما تبقى من حياتهم مستائين من حالهم، يلقون اللوم على الآخرين. يدركُ آخرون غلطاتهم لكنهم عالقون بقرار خاطئ ولا يجدون مهربًا منه أبدًا. الدكتور ليدجيت بالتحديد هو الرمز المركزي في ميدلمارش: مات شابًا، وكانت حياته مريرة ومحبطة وقد أدركَ أنه تزوج المرأة الخطأ ولم يقدر أن يفعل أي شيء حيال ذلك.

تدور الأحداث قبل 40 عامًا من زمن الكتابة. وبجانب تقديم تلميحات إلى وفاة جورج الرابع، وتفشي الكوليرا عدة مرات، وصدور قانون الإصلاح لعام 1832، تناقش الشخصيات بداية ظهور السكك الحديدية وتأثير الحياة الصناعية على عالم مدينة ميدلاند المستقر. هنا تصبح الاستعارة المنظِمة لميدلمارش هي «شبكة العلاقات»، تقديم إليوت للمجتمع الإنجليزي بكل تعقيداته ومرونته الهوائية.

في منتصف تلك الشبكة نجد الشخصية التي سيناقشها كل قراء ميدلمارش ويتماهون معها، دوروثيا المُبهرة، زوجة الوحش اللامبالي ريف إدوارد كزابون. تصبح دوروثيا البطلة الحقيقية لأنها تظل تحاول أن تكون شخصًا طيبًا، وأن تفعل الصواب دائمًا، رغم كل ما تعانيه من إهانات ومرارة. يدرك ليدجيت هذا بالتحديد، ولأسفه الشديد، يعرف أي نوع من النساء كان عليه أن يتزوج، وكيف كانت حياته ستختلف وقتها. من زاوية أوسع، يعكس قدر دوروثيا (وكذلك العذابات التي أوقعتها بنفسها روزاموند فينسي) واحدة من تيمات الرواية الأخرى المهمة: مكانة المرأة في مجتمع يتغير لكن يظل بطريركيًا.

لا توجد نهايات بسيطة في رواية عظيمة. سيفزع بعض القراء حين يجدون دورثيا في الفصول الأخيرة راضية عن عملها مع ويل لادسلو بعد أن أصبح نائبًا إصلاحيًا. لكن إليوت لها الكلمة الأخيرة، ففي صفحة حساسة توديعية شهيرة تحتفي فيها «بروح دوروثيا المرهفة»، تختم إليوت الرواية بأن «تأثير وجود [دوروثيا]» كان «ينتشر بشكل لا يمكن حسابه؛ لأن انتشار الخير بين الناس يعتمد جزئيًا على أفعال غير تاريخية، وكون حالنا أنا وأنت ليس سيئًا للغاية كما هو متوقع، ففضل ذلك يعود جزئيًا لهؤلاء الذين عاشوا بإخلاص حياة مستترة، ويرتاحون الآن في قبور مهجورة».

ملاحظة على النص

في مطلع 1869، وضعت جورج إليوت قائمة بأهدافها للعام الجديد في دفتر يومياتها، وكان من ضمنها «رواية بعنوان ميدلمارش». رغم ذلك كان الإنجاز بطيئًا، يقطعه مرض ثورني لويس المميت، الابن الثاني لرفيقها جورج هنري لويس. بحلول سبتمبر، كانت ثلاث فصول فقط قد اكتملت، وحين مات ثورني أخيرًا في نوفمبر 1869، أوقفت إليوت العمل على رواية كانت في تلك المرحلة مجرد دراسة لمجتمع ميدلمارش، حيث كان الطبيب ليدجيت، وزوجته التي لا تشبهه أبدًا روزاموند فينسي، هما الشخصيتان الرئيسيتان في الرواية.

رغم ذلك، بعد مرور عام، وبالتحديد في نوفمبر 1870، بدأت إليوت العمل على قصة بعنوان «الآنسة بروك»، وبطلتها هي دوروثيا. وفي النهاية دمجت إليوت بين تلك القصة وقصة آل ليدجيت، وبدأت في تكوين ميدلمارش التي نعرفها اليوم بكل فخامتها.

مع انطلاقة الرواية اتضح أنها لا تشبه الرواية الفيكتورية التقليدية ذات الثلاثة أجزاء، لذا طلب لويس، باعتباره وكيل رفيقته إليوت، من الناشر جون بلاكوود، أن ينشر الرواية في ثمانية أجزاء، واحد كل شهرين، بداية من ديسمبر 1871. حين وافق بلاكوود، بدأت الأجزاء الثمانية تظهر خلال 1872، وانتهى نشرها مع الفصول الأخيرة في نوفمبر وديسمبر 1872، مع أن الصفحة الأولى من الطبعة الأولى تحمل التاريخ 1871. فور نشرها اعتُبرت ميدلمارش عملًا عبقريًا، وحجزت لإليوت مكانة عالية في بانثيون الأدب الإنجليزي. أول طبعة كاملة نُشرت في 1874، وحققت نجاحًا ماديًا أمام جمهور متحمس. في 2003، نالت الرواية المرتبة 27 في قائمة «قراءات ضخمة» من دراسة استقصائية أعدتها البي بي سي.


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه