أُحب "ديڤيد كوبرفيلد" لأنها بطريقة ما تُناقض ما يمثله ديكنز نفسه. تدور القصة التي تستهوي فرويد بشدة حول صبي يشقُّ طريقه في العالم، باحثًا عن ذاته رجلًا وكاتبًا.

ديڤيد كوبرفيلد لتشارلز ديكنز

مقال: روبرت مكروم

نُشر في الجارديان، ديسمبر 2013

ترجمة: فاطمة الزهراء صفوت


من فيلم عن الرواية، إنتاج 1999

أول كتابٍ أهداه سيجموند فرويد إلى خطيبته مارثا بيرنايز كان "ديڤيد كوبرفيلد"،  في حفل خطبتهما عام 1882. كانت هدية من عاشق للغة الإنجليزية لمحبوبته، إذ أنه كتاب مُشفَّر بمعانٍ مميزة لرجلٍ تأسره العلاقة المعقدة بين السيرة الذاتية وسرد القصص بشكل استثنائي.

يساعدنا اختيار فرويد، كما يساعدنا رأي ديكنز نفسه أن "ديڤيد كوبرفيلد" «من بين جميع أعمالي» كان «أحبَّ» الكتب إلى قلبه، على فهم اختياري الغريب من منتصف القرن التاسع عشر. بادئ ذي بدء، أتوقع صيحات غضبك، وسوف يستاء بعض محبيه. لِم لَم أختر "مذكرات بكويك"؟ أو الأفضل من ذلك، "آمال عظيمة"؟ أو "المنزل الكئيب"؟ أو "دوريت الصغيرة"؟ وبما إنه موسم الأعياد، فلمَ لم يقع اختياري على رائعة الكريسماس الخالدة "ترنيمة عيد الميلاد"؟ أو العبقرية الراسخة لرواية "أوقات عصيبة"؟ بطرقٍ شتى، نعم، جميعها تحفٌ أدبية. كل شخص لديه مفضلاته، وهذه روايتي المفضلة.

أُحب "ديڤيد كوبرفيلد" لأنها بطريقة ما تُناقض ما يمثله ديكنز نفسه. تدور القصة التي تستهوي فرويد بشدة حول صبي يشقُّ طريقه في العالم، باحثًا عن ذاته رجلًا وكاتبًا. في نصفها الأول، وقبل أن يبدأ ديكنز سرده غير القابل للكبت، وقبل أن يهدُر محرك الرواية بالأحداث، نجده يوشك على التأمل في بداياته الأدبية. يُعتبر ديكنز من الأوائل الذين أقروا بالروايات الإنجليزية، التي كانت تشكل مدونة معتمدة ناشئة حديثًا، مصدرًا لإلهامه، مثل "روبنسون كروزو" و"مغامرات رودريك راندم" و"توم جونز"؛ الكتب التي وجدها في مكتبة أبيه. معظم روايات ديكنز الأولى ("أوليڤر تويست" و"نيكولاس نيكلبي" وغيرهما) هي روايات بيكارسكية[1] هزلية، لكن تركيزه ينصب في هذه الرواية على حياة بطله الداخلية كما لو أنه يحتفظ بالحبكة لما بعد.

وفي النصف الثاني من "ديڤيد كوبرفيلد" نشهد ديكنز في أوج تألقه الذي يفتقر عادة للاتساق، فها هي قطع نثره المتشظية الشهيرة، وتشبيهاته واستعاراته اللامعة، وحشوده من الشخصيات التي لا تُنسى: السيد ميكاوبر والسيدة جاميدج وبتسي تروتوود وباركيس وأوريا هيب وستيرفورث والسيد سبنلو (من شركة سبنلو وجوركينز) والآنسة موشر.

بنفس الوقت أصبح غير ممكن تمييز أحدهما من الآخر؛ كوبرفيلد وديكنز، كاتب السيرة الذاتية والروائي، فلم يعد الروائي مُنفصلًا الانفصال اللازم عن مادته، إذ عندما تنتهي التأملات الجميلة الهادئة عن الصبا في الصفحات الافتتاحية وتحين ضرورات صنع الحبكة، يندمج البطل والمؤلف معًا بطرق ليست ناجحة تمامًا، رغم كونها كاشفة على الدوام. وبينما تُبنى الأحداث لتصل إلى ذروتها، فيُسجن هيب، ويجد السيد ميكاوبر الذي تحرر من ديونه الخلاص في عمله في القضاء الاستعماري في أستراليا، يرضخ ديكنز لضغوط إرضاء الجمهور الجائع بوليمةٍ قصصية مشبعة. ومن وقتها فصاعِدًا في أعماله، سيصبح ديكنز المسلي والمُعلم الأخلاقي الفيكتوري الأعظم، ومؤلف تلك الروائع الناضجة والقاتمة مثل "المنزل الكئيب" و"أوقات عصيبة" و"آمال عظيمة".

بالتالي تُصبح "ديڤيد كوبرفيلد" (كونها نصًا انتقاليًا رئيسيًا) حجرة انتظار لإبداعه اللاحق. لكن باب الماضي مُغلق للأبد؛ لن يستطيع العودة أبدًا. تبدل الفتى الحالم بالأدب الغارق بين كتب أبيه القديمة بالكاتب الأكثر مبيعًا، الكاتب «الفذ». ربما كانت هذه الحقيقة المحزنة عن الإبداع هي ما أثر في فرويد بشدة.

ملاحظة على النص

مرت الرواية التي وصفها ديكنز بأنها «طفله المُفضل» بالعديد من العناوين، من "مرة واحدة سنويًا" و"انحرافات ماج"، إلى "دراسة كوبرفيلد" و"اعترافات كوبرفيلد" و"وصايا ديڤيد كوبرفيلد الأخيرة". وأخيرًا ومع اقتراب موعد النشر التسلسلي استقر على سيرة ديڤيد كوبرفيلد الذاتية ومغامراته وتجاربه وملاحظاته، أصغر عائلة بلندرستون روكري (والتي لم ينتوِ لها أن تنشر بأي حال).

من الصعب تحديد الطبعة الأولى الحقيقية بشكل حاسم. بعد النشر المتسلسل من مايو 1849 إلى نوفمبر 1850، في نسخة شهرية بشلن واحد على مدار 19 شهرًا، احتوى كلٌ منها على 32 صفحة للنص واثنتين من الرسوم التوضيحية رسمها هابلوت نايت براون المعروف باسم «فيز»، نُشرت الرواية باسم "ديڤيد كوبرفيلد" فقط على صفحة العنوان، في مجلدٍ واحد من 624 صفحة، في 14 نوفمبر عام 1850 من قِبلِ دار نشر برادبيري وإيڤانز الواقعة بشارع بوفيري.

على أي حال، خضعت مسوَّدة ديكنز، والمعروضة حاليًا في متحف ڤيكتوريا وآلبرت، لمراجعةٍ هائلة كي تتحول من بنية المجلة إلى بنية الكتاب. أجريت تعديلات إضافية على ثلاث إصدارات أخرى (إصدارات أعوام 1858 و1859 و1867). ربما تكون أكثر النسخ المنقحة حتى الآن هي التي حررتها نينا بورجيس (نُشرت في مطبوعات كلارندون في أوكسفورد عام 1981).


[1] الروايات التشردية، وفيها يكون البطل مغامر من طبقة دنيا، يشق طريقة وسط مجتمع فاسد.


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها