قائمة مكروم | الشمال لشيموس هيني (1975)

مقال: روبرت مكروم

نُشر على موقع الجارديان، 11 أبريل 2016

ترجمة: سلمى هارلند


شيموس هيني، عن irish times

كان شيموس هيني من أفضل شعراء اللغة الإنجليزية في القرن العشرين، مثله مثل صديقه الشاعر تيد هيوز (والذي خصصنا له مقال رقم 4 من هذه القائمة). لا تكمن عظمة هيني في مساهمته الأدبية وحسب، بل والثقافية أيضًا. آمن هيني بضرورة المساهمة في خلق حالة من الوئام في محيطه المجتمعي؛ فتناولت أعماله – بطابعها الأيرلندي الأصيل – التقلبات الدموية التي شهدتها أيرلندا والمعروفة باسم «المشاكل» (باللغة الأيرلندية Na Trioblóidí)، والحرب الأهلية التي ظلت أيرلندا الشمالية أسيرتها طوال 30 عامًا امتدت منذ مظاهرات الحقوق المدنية في أكتوبر 1968 وحتى «اتفاق الجمعة العظيمة» في أبريل 1998.

إن كون المرء كاتبًا في منطقة الحرب هذه – لا سيما شاعرًا مشهورًا – يفرض عليه تحديات سياسية، وفنية، وقبلية. نشأ هيني في أسرة كاثوليكية في مدينة أولستر البروتستانتية، فكانت الصراعات المذهبية والنزاعات القومية الأيرلندية جزءًا لا يتجزأ من حياته، وفَطِن لتاريخ وإرث القمع في أيرلندا منذ سن مبكرة. وبذلك كُتِبَ على هيني أن يعيش – كما يقول – «مثل عميل مزدوج غادٍ ورائِح بين سرديات كبرى».

يعكس ديوانه المعنون «الشمال» (North)، الذي نشر في خضم واحدة من أشرس الحروب التي مرت على أيرلندا، هذه الثنائية الوجدانية، إضافة إلى كونه من أكثر مجموعات شيموس هيني الشعرية عاطفية، حيث أقر فيه بجذوره من ناحية وولاءاته من ناحية أخرى. لكن الأهم، أنه وعلى الرغم مما يدين به في قرارة نفسه وأعماق وجدانه، لا يبالغ هيني أبدًا في إضفاء النبرة الجادة على كتاباته؛ فبدلًا من ذلك، نجد أن ما يسيطر على الديوان هو نبرة تهكم أسلس، نظرًا لتأصل ثقافة السخرية والتهكم في ثقافة مدينة أولستر الأيرلندية. عندما التقيتُ مع هيني في دبلن لأجري معه مقابلة لصحيفة «ذا أوبزِرڤر» في عام 2009، حدثني عن «التهكم الفصيح» الذي لجأَتْ إليه كل الأطراف أثناء «المشاكل» الأيرلندية. فيقول: «إن السخرية هامة للغاية؛ فقد مكنت الناس في الشمال – بفضل حسهم الفكاهي الشمالي المميز – من التواصل معًا وسماع بعضهم الآخر على الرغم من كل النزاعات التي كانت تفرق بينهم».

على الرغم من الطابع السياسي لشعر هيني، إلا أنه يتميز بعذوبة تسرق الألباب، كما نرى في هذا المقطع الذي أهداه لعمته ماري:

والآن تنفض غبار الطحين

عن لوح الخبيز بمنفضة من ريش الإوز،

والآن تجلس، بأرداف مكتنزة،

وأظافر كساها البياض،

وساقين مضرجتين بالشامات:

ههنا فسحة باقية لم تزل

ينضج فيها الكعك

على دقات الساعات.

وههنا حب

كمغرفة من صفيح

مغمودة لآخرها

في غرارة غلة.

من المثير قطعًا قراءة ديوان «الشمال» الآن، في القرن الواحد والعشرين، وبعد أربعين سنة من نشره لأول مرة، ورؤية كم المشاعر الجياشة التي تركها هيني تتدفق دون مراجعة أو رقابة. كان «الشمال» من أوائل كتبه قبل أن يميل بالتدريج نحو الدبلوماسية في آرائه، كما نرى في أعماله اللاحقة، خاصة بعدما فاز بجائزة نوبل في عام 1995. في قصيدة «مهما تقل، لا تقل أي شيء»، يصف هيني بارتياع «تجشؤ الطبول البرتقالية» المرعب، و«فوهات الطين» التي خلفتها الانفجارات العشوائية في الشوارع، و«تحصينات المدافع الآلية» التي بنتها قوات الجيش البريطاني، قبل أن يصرح: «هذا هو قَدَرِنَا الصغير».

كان قدر هيني أن يقف في المنتصف. فيقول في قصيدة «مُجاهَرة»، وهي القصيدة الختامية في ديوان «الشمال»: «أنا لست بمعتقل ولا بمُخبِر»، ليظل بذلك «مهاجرًا بين البين» لبقية حياته، يرسم بتأنٍ صورة لأيرلندا تتحد فيها أجزاؤها وتتلاحم أخيرًا في تكوين أسطوري ساحر ينبض بالحياة. لم ينكر هيني أبدًا العنف والمآسي التي لحقت بجيل بأكمله من الأيرلنديين، لكنه ربط بين قسوة زمنه وما بقي من ذكريات الاحتلال الإنجليزي والإسكندنافي لأيرلندا، كما لو أنه يقول: بدلًا من الاسترسال في قول الشعر في المشاهد الرعوية الرومانسية، لننظر معًا إلى حيوات المقهورين والمهمشين، فهي خير معلم.

يجد هيني فعلًا بعض العزاء في وحشية الماضي؛ فكثيرًا ما يشير في شعره إلى ما أورده ب. ڤ. جلوب في كتاب «أناس المستنقعات» (The Bog People)، من تحرير تشارلز مونتيث والصادر عن دار نشر فيبر. يتناول الكتاب بشكل علمي مبسط قصة اكتشاف مومياء تولوند، إضافة إلى العديد من الطقوس والأعمال الوحشية نادرة الذكر والتي راح ضحيتها الكثير في عصور ما قبل التاريخ. اشتهر الكتاب بفضل الصور الفوتوغرافية الصادمة التي وردت فيه باللونين الأبيض والأسود للجثث التي تم اكتشافها في مستنقعات عديدة بالدنمارك ولم تزل تحتفظ بهيئتها الأصلية بشكل مثير للدهشة. كان كتاب جلوب هذا مصدر إلهام مباشر لأربع من قصائد هيني: «ملكة المستنقعات» و«رجل جروبَل» و«عقاب»، و«فاكهة غريبة»، كما أورد عدة إشارات إلى أشكال العنف القديمة كما في قصيدتي «شعائر جنائزية» و«الشمال». كتب هيني تلك القصائد في أعقاب قصيدة «رجل تولوند» من ديوان «شتائية» (Wintering Out) (1972)، حيث بدأت تصاويره المريعة تكتسب بُعدًا أعمق من الناحية البلاغية، بُعدٌ وصفه هيني بأنه محمل بشتى «الرموز القادرة على نقل بلوانا».

سوف يظل النقاد بلا شك يتجادلون حول مغزى وموضوع تلك «البلوى» التي يقصدها هيني. هل كان يشير إلى «الشمال» ككل، أم إلى المسيحيين الكاثوليك الذين كانوا يقطنون المقاطعة التي شب فيها؟ لم يُرِد هيني نفسه أن يتورط في هذا النقاش قط، ولكن، حتى بعد وفاته عن عمر يناهز 74 عامًا، ما تزال هذه المسألة محل نقاش في الأوساط الأكاديمية. وبذلك، يتعدى ديوان «الشمال» بمسحته الفنية المميزة حدود السياسة. لربما يُفضِّل بعضُ قرائه ديوانه الأول «موت عالِمِ طبيعة»  Death of a Naturalist، إلا أن ما يميز ديوان «الشمال» حقًا عن غيره من باقي أعمال هيني من وجهة نظري هو هذا المزج البارع بين الفن والسياسة، والذي يكسب «الشمال» طابعًا جليلًا مهيبًا ويجعله رائعته بلا منازع.

وجد هيني صوته في «موت عالم طبيعة»، ثم وضعه في خدمة الشعب في ديوان «الشمال». قال هيني لي مرة: «تدل لغتك على ثقتك بنفسك، وبإحساسك بالمكان والنفوذ»، مضيفًا أن تحدثه بلغته الأم – أي الإنجليزية الأيرلندية – زاد من ثقته في نطق الألفاظ ومعرفته بظلال معانيها، «ما يفضي إلى صحوة سياسية بطبيعة الحال».

مقطع شعري مميز

كانت أولستر بريطانية، لكن لم يكن لها أي حقوق

في خضم المجاز الإنجليزي الذي كان يحيط بنا من كل جانب

ولم نلفظ اسمه قَط: كهنوت الخوف.

– قصيدة «كهنوت الخوف»، من ديوان «الشمال»