انتقد أحد النقاد المحافظين «توم جونز» لكونها «حكاية شاذة عن أبناء السفاح والزنا والخيانة»، لكن هذا لم يكن ليمس مبيعات الرواية بأي ضرر.

توم جونز لهنري فيلدينج

مقال: روبرت مكروم

نُشر في الجارديان، أكتوبر 2013

ترجمة: إسراء أمان


من فيلم توم جونز (1963)، عن الجارديان

كم من القراء، لو كانوا صادقين مع أنفسهم، اكتشفوا بعضًا من أفضل الروايات من فيلم أو مسلسل تلفزيوني؟ جاتسبي العظيم؟ كبرياء وتحامل؟ المريض الإنجليزي؟ دكتور جيفاجو؟ بدأ اهتمامي بـ «توم جونز» عندما شاهدت الفيلم المقتبس الشهير للكاتب جون أوزبورن، بطولة الشاب ألبرت فيني في دور توم جونز. فيلم استثنائي. لا تصنع الكلاسيكيات عادةً أفلامًا جيدة، إلا ربما عبر التأويل، كالحال في أوليفر (تويست) مثلًا.

مع ذلك فإن توم جونز كأنها كُتبت للشاشة الكبيرة. فبغض النظر عن فصولها الضخمة، واحتشادها بالأوغاد وغير الأسوياء، فالشخصية الأساسية جذابة جامحة، شاب ذو مزاج حاد ونشاط جنسي حر، يطارد الحب الحقيقي عبر بريطانيا القرن الثامن عشر، ويقع في سلسلة من المغامرات الفاضحة والمضحكة. «توم جونز» المنشورة في منتصف القرن الثامن عشر رواية إنجليزية كلاسيكية تعبر عن روح العصر، أما شخصياتها المشهورة مثل سكواير ويسترن، والأب ثوكام، وبليفيل اللئيم، ومولي سيجريم التي تغوي توم، وأخيرًا معشوقته سوفيا، كلهم يعبرون عن بريطانيا في العهد الأوغسطي، بكل ما فيه من تنوع كوميدي وعاصف.

كان سر «توم جونز» في تواصلها الحميم مع جمهورها المعاصر، وبحلول أربعينيات القرن الثامن عشر، كانت الرواية البريطانية تجذب نوعًا جديدًا من القراء، وبالمقابل نوعًا جديدًا من الكتاب. لم يقتصر الأمر حينها على الطفرة في المطبوعات وانتشارها بين جماهير الطبقة المتوسطة، لكن ظهر كذلك روائيون مبدعون ضمن لهم هذا النشاط حياة كريمة. استمر الكثير من الكتاب يعانون الجوع في شارع جروب، لكن غيرهم بدأوا في كسب المال، فباع صامويل جونسون مثلًا روايته الرومانسية الجادة راسيلاس كي يدفع مصاريف جنازة والدته.

كان هنري فيلدينج نموذجًا مثاليًا لهذا الجيل الجديد. ولد في عام 1707، فكان رجلًا من القرن الثامن عشر بحق، بتعليم كلاسيكي في جامعة إيتون، وعلاقات عائلية ووظيفة جيدة في مجال المحاماة، حيث يُنسب إليه أحيانًا وضع أسس الشرطة المدنية في لندن. توجه فيلدينج إلى كتابة الرواية، جزئيًا كي يؤمن أسلوب حياة مرفه، وجزئيًا كي يتواصل، نوعًا ما، مع جمهور معاصر محفز وملهم.

بدأ فيلدينج التأليف في فترة تغيرات اجتماعية وسياسية حادة، فحمل قلمه مستجيبًا للأزمات الآنية، وتمتع بسمعة الكاتب الهزلي الساخر حتى صدور قانون المسرح التعسفي[1] لعام 1737، وعندما هدد تمرد اليعاقبة في 1745 قانون التسوية، وثب للدفاع عن جورج الثاني، وحرر صحيفة «الوطني الأصيل».

بالنظر من اللحظة الحالية، كانت الرواية البريطانية آنئذ ساحة جديدة وغريبة عليه، لكن المنافسة هي ما دفعته في منتصف العمر إلى مجال الخيال. في عام 1740، كانت رواية «باميلا، أو مكافأة الفضيلة» لصامويل ريتشاردسون، وهي قصة خيالية عن شابة صارت امرأة عظيمة بعد أن وجدت في الدفاع عن عفتها السعادة الحقيقية، هي حديث الساعة في لندن ومن بواكير الأكثر مبيعًا. كان رد فعل فيندينج نحو باميلا معقدًا، فقد أعجب بنجاحها، لكن سخر من طابعها الأخلاقي المفرط وهاجمها في باروديا (محاكاة ساخرة) باسم مستعار هي «شاميلا» (1741). اشتعلت المنافسة بين فيلدينج وريتشاردسون، فأنهى فيلدينج روايته الأولى، «جوزيف أندروز» (1742)، والتي بدأت كباروديا جديدة لـ «باميلا» قبل أن يجد فيلدينج صوته الخاص. بعد هذا الافتتاح لمشروعه، وبعد دراما تمرد 45، بدأ فيلدينج في كتابة أفضل مؤلفاته: «تاريخ توم جونز اللقيط».

بالنسبة إلى كولريدج، فهذه الرواية الطويلة لها حبكة من أفضل «ثلاث حبكات على الإطلاق»، بجانب مسرحيتي أوديب ملكًا والخيميائي، فقد كانت أصيلة تمامًا وكوميدية بعمق. ابتعد فيلدينج عن سرد ريتشاردسون الرسائلي المتمثل في «كتابة اللحظة» وانتقل إلى السرد بصيغة الغائب. هذه الحكاية التشردية (picaresque) الممتعة عن مغامرات توم، وهو ابن حرام مقبل على الحياة يلف ويدور في أرجاء إنجلترا، نجحت نجاحًا فوريًا، فباعت نحو 10,000 نسخة في حين كان تعداد لندن يقترب فقط من 700,000 نسمة.

انتقد أحد النقاد المحافظين «توم جونز» لكونها «حكاية شاذة عن أبناء السفاح والزنا والخيانة»، لكن هذا لم يكن ليمس مبيعات الرواية بأي ضرر. أما صامويل جونسون الأكثر اتزانًا فقد اعتقد أن تلك النوعية من الروايات تسبب تشويشًا خطيرًا «لصغار السن والجهلاء والكسالى»، فلا تمنح إلا «التسلية للعقول الفارغة». مع ذلك، شكل هذا الجمهور الواسع مستقبل النوع الأدبي، سواء كان هذا جيدًا أم سيئًا، وألهم فيلدينج عقيدته الاستهلالية التي تمثلت في منح «الترفيه» للاستهلاك العام. وهكذا كتب في فصله الأول أن الروائي عليه أن يمنح «تسلية عقلية» حيث «الجميع مرحب به ما داموا قد دفعوا نقودًا». أتفق معه.

ملحوظة على النص

قرأ فيلدينج أجزاء من «توم جونز» على أصدقائه ونشر بينهم أجزاء مطبوعة بجهود ذاتية في خريف 1748، بينما كان موعد النشر الرسمي في 10 فبراير 1749. وزع بائع الكتب أندرو ميلر نسخة من الكتاب قبل هذا التاريخ بأسبوع، فلعب بذلك دور الناشر في زمن لم تكن هذه الوظيفة قد ظهرت بعد. نفدت الطبعة الأولى فورًا، فتبعتها الثانية والثالثة في 28 فبراير و 12 أبريل، ثم ظهرت الطبعة الرابعة في نهاية العام، وما تزال هذه الأخيرة هي أساس الطبعات الحديثة.


[1] قانون رقابي كان غرضه حصار الانتقادات الموجهة للحكومة الصادرة عن الأعمال المسرحية، أدى ذلك إلى لجوء المسرحيين للقصص التاريخية أكثر من القصص المعاصرة.


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها