كتب هيمنجواي: «لم أكن أعلم حجم عدم التوفيق الذي وقف لفيتزجيرالد بالمرصاد، اكتشفنا ذلك بعدها».
اختار الصحفي والناقد الإنجليزي روبرت مَكروم قائمتين لأفضل مائة عمل سردي وأفضل مائة عمل غير سردي باللغة الإنجليزية، وكتب مقالًا يخص كل عمل منهم. نترجم في هذه السلسلة بعض هذه المقالات.
جاتسبي العظيم (1925)
مقال لروبرت مكروم
نُشر بموقع الجارديان، سبتمبر 2014
ترجمة: أحمد طارق أبو دنيا
في الخمس سنوات الفاصلة بين صدور روايته الأولى «هذه الضفة من الفردوس» وصدور تحفته «جاتسبي العظيم» نال سكوت فيتزجيرالد نصيبًا من الشهرة في الأوساط الأدبية لا يمكن أن يتحقق إلا في الولايات المتحدة الأمريكية. لم يبتكر فيتزجيرالد فقط تعبير «جيل الجاز» بل عاشه وكتب عنه في هذيانٍ لذيذ عبّر عنه في روايته الثانية «الجميلة والملعون»: «لقد رأيت غير المحتمل وغير القابل للتصديق وحتى المستحيل يصبح حقيقة»، هكذا كتب لاحقًا. وكالمتحدث ذائع الصيت لجيل ما بين الحربين جلب عليه ذلك المال والشهرة وحب النساء. تذكر فيتزجرالد ذات مرة قائلًا: «بدت مهنةً رومانسيةً حينئذٍ أن تصير أديبًا مشهورًا».
جاتسبي العظيم هي الرواية الأمريكية الموجودة على هذه القائمة التي تظل بعد قراءاتٍ متعددة إحدى مفضلاتي على مر العصور. تحفةٌ لا تضاهى ولا تعجز عظمتها عن فرض نفسها. هذا في الغالب بسبب أن كاتبها كان يستكشف جغرافية الندم (كما ذكر فيتزجيرالد نفسه).
في خطابٍ إلى صديق كتب فيتزجيرالد: «إن هذا هو كل هم الرواية: خسارة تلك الأوهام التي تضفي لونًا على عالمٍ لا يهم فيه إذا ما كانت الأشياء حقيقيةً أم مزيفةً، طالما تشكل جزءًا من مجدٍ خيالي». إن جانب الجاز في جاتسبي والذي عبر عنه بإسهاب فيلم باز لورمان يظل مغويًا. الحبكة القادمة من صحف التابلويد والتي تلتقي برواية رومانسية تحمل فاعلية الموسيقى الرخيصة. جاذبية جاتسبي تأتي من النص نفسه. إنها مثل جوهرةٍ لامعةٍ من الإيجاز في أقل من ستين ألف كلمة، ربما لو كانت مجرد حكاية متوهجة لانطفأت جاذبيتها منذ أمدٍ بعيد. ولكن بجانب أنها قصة رومانسية تراجيدية فهي أيضًا قصيدة نثرية ومرثية عن حب كاتبها المفقود وترنيمة على أشجان الحلم الأمريكي، ولحن جاز يعبر عن صدمة ما بعد الحرب، ولم يكن من قبيل الصدفة أن اختار فيتزجيرالد عام 1922 لتجري فيه أحداث الرواية، وهو العام نفسه الذي صدرت فيه قصيدة الأرض اليباب[1]. اخلط كل هذه العناصر معًا ثم أضف تجريم بيع الكحول وتهريبه بصورة غير قانونية وبدايات ثقافة الشهرة، أضف كذلك في الخلفية معزوفة لجيرشوين[2] والطموح الإبداعي لكاتب تعذّبه الشهرة، وسيصبح لديك انفجار نجمي عظيم في سماء الأدب. عندما توفي فيتزجيرالد في منزله بلوس أنجلوس إثر أزمة قلبية في الرابعة والأربعين فقط من عمره، كان مستودع ناشره لا يزال يحوي نسخًا من طبعة الرواية الأولى. قال فيتزجيرالد مرة إنه لا يوجد فصلٌ ثانٍ في الحياة على الطريقة الأمريكية، فقط هناك الخلود. وأصبحت جاتسبي باختصار مجازًا محيرًا للغموض الخالد للفن.
ملاحظة على النص
بدأ فيتزجيرالد في التخطيط للرواية في العام 1922، آملا أن يكتب كما أشار: «شيئًا جديد، شيئًا غير نمطي، وجميلًا وبسيطًا ومصاغًا بشكلٍ معقد»، كان تقدمه بطيئًا، وفي شتاء 1922 كان يكتب قصصًا للمجلات كي يسدد ما عليه من ديون، واحدةٌ من تلك القصص كانت «أحلام الشتاء» التي قال عنها فيما بعد إنها كانت «شيئًا يشبه المسودة الأولية لفكرة جاتسبي ».
العائق الآخر لتقدمه الإبداعي كان إدمانه للخمر، دائمًا ما كان مخمورًا أو مخمورًا حزينًا أو مخمورًا غاضبًا. كما قالت سارا شيرشويل في كتابها «أناس مُهمِلون.. جريمة وفوضى واختراع رواية جاتسبي العظيم». وبالفعل في موسم حفلات 1922-1923 قدّر فيتجيرالد أنه لم يكتب بالكاد سوى مائة كلمة في اليوم وكان يعلم أن عليه الرحيل. في 1924 انتقل هو وزيلدا (زوجته) إلى الريفييرا حيث غمر نفسه في الرواية تمامًا. «خارج الغابة أخيرًا، هكذا كنت، وشرعت في كتابة رواية».
بقدوم العام 1925 انتهى الكتاب. «مثل جاتسبي لا أملك أيضًا سوى الآمال»، هكذا أخبر فيتزجيرالد جرترود شتاين بينما ينتظر حكم العالم على عمله. هناك كذلك خيطان آخران ضمن الأسطورة المبهرجة لهذه الرواية: (الغلاف والعنوان)، يعد تصميم غلاف الطبعة الأصلية لهذه الرواية، والذي يظهر وجهاً مشوهًا على خلفية زرقاء داكنة لناطحات سحاب مانهاتن (صممه فرانسيس كوجات)، من أشهر تصميمات أغلفة الكتب في تاريخ الأدب ألأمريكي. نسخ هذه الطبعة يمكن أن يصل سعرها اليوم إلى عشرات الآلاف من الدولارات.
بعد ذلك يأتي العنوان. توجب على ماكسويل بيركنز (المحرر) وزيلدا أن يناقشا فيتزجيرالد الذي كان العنوان بالنسبة له: «يكاد يكون عنوانًا متوسطًا وأقرب للسوء منه إلى الجودة»، وقد غازلته عدة بدائل بينما يكتب من ضمنها: «عبر أكوام الرماد وأصحاب الملايين»، «تحت العلم الأمريكي»، «الحبيبة الكاذبة». «تريمالتشيو ف ويست إيج»[3] كان عنوانه البديل المفضل وقد نشرت بالفعل مسودة مبدئية من الرواية في أوساط أكاديمية تحت عنوان «تريمالتشيو».
في النهاية وبعد النشر في 10 أبريل 1925 ذاب قدر الرواية وقدر صاحبها الإبداعي مع أسطورة جاتسبي نفسها. كتب هيمنجواي: «لم أكن أعلم حجم عدم التوفيق الذي وقف لفيتزجيرالد بالمرصاد، اكتشفنا ذلك بعدها».
لم تكن المراجعات سيئة كما تصورها الناس، وبيعت بالفعل عشرون ألفًا من نسخة، ما كان فوق المتوسط تلك الأيام. مدح إليوت الرواية، ولكن الرواية لم تكن على مستوى شهرة فيتزجيرالد الأدبية وقتها. بعد ذلك بدأت خيوط حياتيّ سكوت وزيلدا في الانحلال فأصيبت زيلدا بانهيار عصبي لينتهي بها الحال في مصحة نفسية، بينما ذهب هو إلى هوليود ليحاول إصلاح مصيره، أنهى «لطيف هو الليل» وباع بعض النصوص الاعترافية للمجلة «سكوير» والتي نشرت فيما بعد تحت عنوان «المتصدع». «يا إلهي، كم أنا منسي». هكذا كتب فيتزجيرالد إلى زيلدا.
[1] الأرض اليباب: قصيدة للشاعر تي إس إليوت والتي تعد ركيزة أساسية في الشعر الحديث.
[2] جورج جيرشوين: ملحن أمريكي ذاع صيته في الموسيقى الكلاسيكية والشعبية على السواء ارتبط اسمه بموسيقى الجاز في عشرينيات القرن العشرين.
[3] تريمالتشيو في ويست إيج:
Trimalchio in West Egg
تريمالتشيو هو شخصية تظهر في كتاب ساتيريكون للروماني بيترونيوس وهو ملكٌ روماني كان من قبل عبدًا وأصبح بالحيلة والدهاء ملكاً، بينما ويست إيج تقع في منهاتن وهي الضفة الغربية التي أنشأ فوقها جاتسبي قصره في الرواية، ومن فوقها يرقب عبر النهر قصر معشوقته دايزي وزوجها على الضفة الشرقية. إنه يظل بعيداً عن عالم الأغنياء ويظل عاجزًا عن تحقيق حلمه بالانضمام لتلك الطبقة مهما جمع من المال وحقق من شهرة.