القصة المَحكية في «أحلام من أبي» مميزةٌ من كل النواحي، تمامًا مثل حكاية صعود أوباما للسلطة، وتُبدي حساسيةً ثاقبة تجاه «العِرق»، هذا الجرح الغائر في التسوية السياسية الأمريكية.
أحلامُ من أبي لباراك أوباما (1995)
مقال روبرت مكروم
نُشر بموقع الجارديان، فبراير 2016
ترجمة: مريم ناجي
في سباق الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2008، أيام موسم الانتخابات التمهيدية المتقلِّب كالأفعى والذي كان متوقعًا أن تلعب فيه هيلاري كلينتون دور البطولة -بل ربما دور المنتصر- كَلفتني صحيفة الأوبزرڤر بكتابة مراجعاتٍ للمذكرات التي كتبها المتنافسون الأساسيون من الحزبين الديمقراطي والجمهوري. شملت لائحة المرشحين كل جوانب اللامعقولية، ابتداءً من جون ماكين، ومِيتْ رومني، وجون كيري، وجون إدواردز وصولًا لجو بايدن. كانت المذكرات باهتةً وكئيبةً تمامًا كما كان ظهور هؤلاء السياسين خلال رحلات حملاتهم الانتخابية، وشكَّلت أعمالهم قائمةً تزيد الغمَّ على الغَم. كانت كل الكتب المطلوب مراجعتها إما مكتوبةٌ بواسطة كتَّابٍ مجهولين تابعين للحزب، أو مَحكيةٌ على لسانٍ شخصٍ ثانٍ. كان كل عملٍ منهم توليفةً من التَقلقل والنفاق والكليشيهات وأنصاف الحقائق ونثراتٍ من خطاباتٍ سياسيةٍ قديمة وتصريحاتٍ إعلاميةٍ وسياسيةٍ عفا عليها الزمان وأُعيد إحياؤها للاستهلاك العام في نصوصٍ من أسخفِ ما كُتب في النثر الأمريكي. أمِن الممكن أن أحدًا من المرشحين لم يقرأ هذه الكُتب حتى، ناهيك عن كونه كتبها من الأساس؟
لكنِّي وجدتُ استثناءً وسط كل تلك العتمة؛ بصيصٌ من الصراحة والبراعة. واحدٌ من الدخلاء الديمقراطين، سيناتور شاب بولاية إلينوي، شخصٌ ما اسمه باراك أوباما لم يكتفِ بكتابة كتابه بنفسه قبل سنواتٍ فحسب، بل إنه أنجزَ به مذكراتٍ شخصية مؤثرةً ذات رونقٍ وفصاحة، ساردًا بها قصةً ساحرة بصدقٍ وجمالٍ وكياسةٍ، إضافةً لموهبة حكَّاءٍ فطرية.
بدايةً من أول جملةٍ يسطُرها، «بعد شهورٍ قلائل عُقبَ عيد مولدي الحادي والعشرين، هاتفني غريبٌ ليُبلغني بالخبر...»، كان واضحًا أن مذكرات «أحلام من أبي» عملٌ مميز لما تحمله من صوتٍ وتأثيرٍ لا يخفى على أحد. وبالطبع في الوقت الذي قرأتها به كانت مذكرات أوباما قد مضى على نشرها اثني عشر عامًا وغدت -لاحقًا- من الأعلى مبيعًا في الولايات المتحدة مع الدعم المتزايد لحملة المرشح «نعم نستطيع» التي اتسمتْ بطابع الانتصار والتفاؤل.
في عام 2007، كنت من بين ملايين كُثر لم يسمعوا عن باراك أوباما من قبل، لكن كانت لديَّ فكرةٌ ضبابيةٌ عن أنه ألقى خطابًا حماسيًا عام 2004 في مؤتمر الحزب الديمقراطي. وقتئذٍ، لم أكتفِ بمتابعة سير حملته، بل أشرتُ فيما كتبتُ في الأوبزرڤر أن مرشحًا رئاسيًا يتمتع بمواهب أدبيةٍ وبلاغيةٍ كهذه يستحقُ أن يكون في البيت الأبيض، وتكهَّنتُ -مخالفًا كل الاحتمالات- بأن فوزه محتمل. على أيةِ حال، وبعد مرور عام، تحقق فوزهُ. تجاوز المُصوتون له نسبة المصوتين لهيلاري كلينتون (ما أشبه يومها بعام 2016) وتحولت «نعم نستطيع» إلى «نعم استطعنا».
القصة المَحكية في «أحلام من أبي» مميزةٌ من كل النواحي، تمامًا مثل حكاية صعود أوباما للسلطة، وتُبدي حساسيةً ثاقبة تجاه «العِرق»، هذا الجرح الغائر في التسوية السياسية الأمريكية. كانت تلك هي المسألة التي أثقلت كاهل توماس جِفرسون، ووصفها بأنها «مثل جرس حريقٍ يُطرق ليلًا»، وغدت هذه هي نقطة انطلاق أوباما. ولكونه أفريقيًا أمريكيًا، أفصح أوباما عن تَطلعٍ «للحديث بطريقةٍ ما عن الفجوات العرقية التي اِتسمت بها التجربة الأمريكية». تُعدُّ قضية العِرق لدى الكثيرين إحدى أكثر القضايا الممتدة في أمريكا المعاصرة؛ حتى فترة أوباما الرئاسية كانت مشحونةً بعلاقاتٍ عِرقية؛ واستجابته الإشكالية لها توضحُ مدى صعوبتها حتى الآن.
بعيدًا عن كل هذا، هذه المذكرات هي صورةٌ شخصيةٌ صارخةٌ في صدقها لشابٍ في مواجهة الأسئلة الكبرى عن الهوية والانتماء. كونه ابنًا لأبٍ أفريقي أسود من كينيا وأمٍ أمريكيةٍ بيضاء من ويشيتا في كنساس، كان على أوباما الشاب اِبتداع أوديسةٍ محوريةٍ نفسية تَعجُ بالكثير من العواطف المتضاربة. بدايةً كان عليه تتبع حركة عائلة والدته من كنساس إلى هاواي، ومن ثم إلى إندونيسيا. إحدى سِمات الكتاب المميزة هي طريقة أوباما الطبيعية والجَسورة في استخدام الحوار؛ نَفخَ الحياة في مشاهد لا تحصى دارت بين ثلاث: نسخته الأصغر من نفسه ووالدته وجداه، مع شذراتٍ من محادثاتٍ محفوظةً في الذاكرة، أو متخيلةً بالأحرى، تمنحُ السردية ألفةٌ مبهجة.
بينما يتقدم الكتاب بثقة، يتمكن أخيرًا «باري» الشاب من السفر إلى كينيا ليواجه حقيقة «العجوز» الأليمة؛ حياة أبيه، ويتصالح مع إرثه باعتبارهِ أمريكيًا من أصلٍ أفريقي. أُلقيتْ مسؤوليته على عاتقه من لحظة انفصال أبويه. كَتبَ قائلًا: «بدا أن أبي -خلال فترة شديدة القِصر لم تكن في الحُسبان- قد وقع تحت سطوة التعويذة ذاتها التي وقعت أمي وأبويها في براثنها؛ وخلال أول ست سنواتٍ من حياتي، حتى لمَّا كُسرت هذه التعويذة واستعاد العالمان، اللذان ظنا أنهما انقضيا بلا رجعة، قبضته على كليهما، شَغلتُ مكانَ تصب فيه أحلامها». هنا بالتحديد يَستثير على نحوٍ مؤثر «قلبه المضطرب، دماءه المختلطة، روحه المتنازعة، الصورة الشبحية للخلاسي المأساوي العالق بين عالمين».
يسترسل مكررًا بأنها محاولةٌ لتدوين «قصةٍ صادقة لجزءٍ بعينه من حياتي». ولكونها «رحلة فتى يبحث عن أبيه»، كان هناك اهتمامٌ أقل ولا مفر منه بوالدة أوباما، آن دُنهام. محتملٌ أن غيابها كان من أقوى سمات ذكريات أوباما وأكثرها تأثيرًا؛ أثار من التساؤلات الكثير عن علاقته بالمُكوِّن الأمريكي في معادلة هويته.
كتبَ معلقون كُثر بحماسةٍ مفرطة عن السيرة الذاتية «أحلام من أبي»؛ كانت توني موريسون إحدى أوائل من لاحظوا «قدرته على التَفكُّر مترويًا في هذا التداخل المذهل من التجارب التي مرَ بها، المألوف منها والغريب، وأن يتأملَها فعلًا بالطريقة التي فعلها، وأن يخلق مشاهد في بناءٍ سردي، وحوارتٌ ومحادثات- كل الأشياء التي لا تصادفها في السير الذاتية السياسية الرتيبة». تختم حديثها بقوةٍ قائلة: «إنها [مذكراتٌ] فريدةٌ من نوعها. وهو من كتبها بنفسه؛ لا تُوجد سِيَرٌ على شاكلتها».
ومن وجهة نظرٍ أكثر واقعية، فوفقًا لمجلة التايم، «أحلامُ من أبي» هي «أفضل مذكراتٍ كُتبتْ على يد سياسيٍ أمريكي على الإطلاق». وفي صحيفة النيويورك تايمز، تصفُ الناقدة الأدبية «ميتشيكو كاكوتاني» المذكرات بأنها «أكثر السِير الذاتية صِدقًا وشاعريةً وإثارةً للمشاعر كتبها رئيسٌ قادم». ولأن أيامه في البيت الأبيض على وشك الانتهاء، ترتفع آمالً كثيرة اشتياقًا لمذكرات باراك أوباما المتقاعد الرئاسية؛ تظل «المذكرات الشخصية ليوليسيس إس. جرانت» صنيعًا شاقًا للسير على نهجه.
جملة مميزة
«إننا نظن أن تلك الحقائق بديهية. إنني، وسط هذه الكلمات، أسمع صوت روح دوجلاس ودلاني، وجفرسون ولينكلون، وما عاناه مارتن ومالكلوم، وأرواح المتظاهرين المجهولين من أجل إحياء هذه الكلمات»
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها
.