المصورون والصحفيون، مع البعثات الطبية، من إيطاليا وخارجها، تقاطروا لرؤية الفتاة. استمتعت إيزابيلا بهذا الاهتمام وشعرت بأنها مهمة. أجابت على أسئلتهم بجدية ووقار، مع أن الاستفسارات أحيانًا كانت غبية ولم تكن متنوعة. 

قصة بريمو ليفي

عن ترجمة آن ميلانو آبيل الإنجليزية

من مجموعة: Stories and Essays, 1981

ترجمتها عن الإنجليزية: عائشة أحمد


بريمو ليفي، عن chemistry world

منذ بضعة أيام، غلب على إيزابيلا الاضطراب: كانت بالكاد تأكل، وتعاني من ارتفاع حرارة طفيف، واشتكت من حكة في ظهرها. كان على والديها العمل في المتجر، ولم يكن لديهما الكثير من الوقت للعناية بها. قالت والدتها: «لا بد أنها تمر بمرحلة البلوغ» . أخضعتها لنظام غذائي ودهنت ظهرها بمرهم، لكن الحكة ازدادت سوءًا؛ لم تتمكن الفتاة من النوم. لاحظت أمها وهي تفرك ظهرها بالمرهم أن البشرة غدت خشنة: كانت مغطاة بطبقة كثيفة من شعرات قصيرة يابسة ضاربة إلى البياض. بعدها أصابها الخوف وناقشت الأمر مع والد إيزابيلا، فأرسلا في طلب الطبيب.

فحص الطبيب الصبية. كان شابًا وجذابًا، وفوجئت إيزابيلا بملاحظة أنه في بداية الزيارة بدا قلقًا ومُتعجبًا، ثم أصبح أكثر انتباهًا واهتمامًا. في النهاية غدا مبتهجًا وكأنه فاز باليانصيب. أعلن أنه أمرٌ بسيط، لكن يتوجب عليه أن يراجع كتبًا معينة وسيعود في اليوم التالي.

رجع في الغد، مع عدسة مكبرة، وبيّن للأم والأب أن تلك الشعرات كانت تتشعب وكانت مفلطحة؛ في الواقع ما كان ينمو ليس شعرًا ولكنه ريش. وبدا مبتهجًا حينها أكثر من يوم أمس.

قال لها: «سترين يا إيزابيلا،  لا شيء يستدعي القلق: خلال أربعة شهور ستطيرين». ثم وجه شرحًا مُحيراً لوالديها: هل من المعقول أنهم لم يسمعا عنه؟ ألم يقرآ الجرائد؟ ألم يشاهدا التلفاز؟ «إنها حالة من حالات الطفرة العظيمة، الأولى في إيطاليا، وأين؟ في هذه الناحية النائية والمعزولة!» ستنمو الأجنحة شيئًا فشيئًا، دون الإضرار بالأعضاء الداخلية. بعدها، قد تكون هناك حالات أخرى في المنطقة، لربما بين أتراب الصبية في المدرسة، لأن الأمر مُعدٍ.

قال الأب: «لكن إن كان مُعدياً، فلا بد أنهُ مرض!»

«إنهُ مُعدٍ، ويبدو وكأنه جرثومة، لكنه ليس مرضًا. لماذا على كل الإصابات الجرثومية أن تكون مؤذية؟ الطيران أمرٌ جيد! أرغب أن أكون قادرًا عليه بنفسي، على الأقل لتفقّد المرضى المقيمين في المقاطعات البعيدة. هذه هي الحالة الأولى في إيطاليا كما قلت لكما، ولا بد من الإبلاغ عنها لمسؤول المكتب الصحي للمنطقة، لكن الظاهرة قد تم التعرف عليها، وفي مراكز العدوى المختلفة، تم ملاحظتها في كندا مثلًا والسويد واليابان. تأملا كيف حالفنا الحظ!»

لم تكن إيزابيلا متأكدة أنه الحظ فعلًا. كان الريش يزداد كثافة؛ ويضايقها عندما تكون في السرير ويمكن رؤيته من خلال بلوزتها. وخلال شهر مارس صار البِناء العظمي للجناحين بارزًا، وفي نهاية مايو بزغا تمامًا من ظهرها.

المصورون والصحفيون، مع البعثات الطبية، من إيطاليا وخارجها، تقاطروا لرؤية الفتاة. استمتعت إيزابيلا بهذا الاهتمام وشعرت بأنها مهمة. أجابت على أسئلتهم بجدية ووقار، مع أن الاستفسارات أحيانًا كانت غبية ولم تكن متنوعة. لم تجرؤ على الحديث مع أهلها عن الأمر، لأنها لم ترغب بإخافتهم، لكنها كانت قلقة: نعم، سيكون لديها جناحان، لكن أين ستتعلم الطيران؟  في مدرسة القيادة في عاصمة المحافظة؟ في المطار في بوجو ميرلي؟ كانت تتمنى لو تتعلم ذلك من الطبيب الشاب في المركز الصحي؛ أو ربما هو أيضًا سينمو له جناحان، ألم يقل بأنهُ مُعدٍ؟ وبهذه الطريقة يستطيعان زيارة المرضى في المقاطعات البعيدة. ولربما سيقطعان الجبال ويحلقان فوق البحر معًا، جنبًا إلى جنب، يخفقان بأجنحتهم على إيقاع واحد.

***

في يونيو، وعلى نهاية السنة الدراسية، اكتمل نمو جناحي إيزابيلا وكانا جميلين، يسران الناظرين. كانت إيزابيلا شقراء، وكان لون جناحيها بنفس درجة لون شعرها- كانا يطغى عليهما البني المذهب في المنبت وقريبًا من الكتف، لكن بقية الريش كان أبيض لامعًا ومتينًا. وصلت بعثة من المجلس الوطني للأبحاث، كما حصلوا على منحة من اليونيسف، وجاءت كذلك مُعالجة طبيعية من السويد. أخذوها إلى النُزل الوحيد في البلدة، لم تكن تفهم الإيطالية جيدًا، ولم يناسبها شيء، وطلبت من إيزابيلا القيام بسلسلة من التمارين المملة للغاية.

مملة ومن غير جدوى: أحست إيزابيلا أن عضلاتها الجديدة ترتعش وتتمدد؛ درست تحليق السنونوات الواثقة في سماء الصيف ولم تعد لديها شكوك. تملكها إحساس واضح بأنها ستتعلم الطيران بمفردها، أو بالأصح بأنها تعرف كيف تفعل ذلك منذ الآن؛ كان ذلك كل ما تحلم به في ليالي هذه الأيام. كانت المُعالجة السويدية صارمة، مؤكدةً بأنه لا بد من التأجيل لبعض الوقت، وألا تُعرض نفسها للمخاطر، لكن إيزابيلا كانت تنتظر الفرصة السانحة فقط. عندما كان يتسنى لها الذهاب إلى المروج المنحدرة وحدها، أو حتى في أوقات أخرى داخل غرفتها، حاولت أن تصفق بجناحيها. كانت قادرة على سماع حفيفهما الخشن في الهواء، وأحست بقوة خفية في كتفيها الناحلتين المراهقتين. أصبحت تكره ثقل جسدها؛ وحين تُحرك جناحيها، كانت تشعر بثقل بدنها يتلاشى، وكأنه على وشك الاختفاء، تقريبًا. لكن جاذبية الأرض ما زالت قوية جدًا، كرسنٍ أو قيد.

سنحت لها الفرصة في أغسطس، قُبيل عيد انتقال العذراء. عادت السويدية إلى موطنها أثناء الإجازة، ووالدا إيزابيلا كانا في المحل، يشغلهما المصطافون. تبعت إيزابيلا مسار كوستالونجا للبغال، قطعت التلال، ووجدت نفسها في المروج شديدة الانحدار في الجهة الأخرى؛ المكان خاوٍ ولا أحد في الجوار. وكشخص يستعد للقفز في الماء، فردت جناحيها، وبدأت بالركض نازلة المرتفعات. ومع كل خطوة، صارت ضربة قدميها على الأرض أخف وطأة، حتى تهاوت الأرض تحتهما. أحست بشعور عارم بالسلام، وسمعت صوت الرياح تصفر في أذنيها. مدت ساقيها للخلف: ندمت أنها لم ترتد سروالها الجينز؛ أعاقتها قليلًا تنورتها التي ينفخها الهواء.

أعاقها أيضًا ذراعاها وكفّاها؛ جربت أن تصالبهما على صدرها، ثم مدتهما على جانبيها. من قال إن الطيران صعب؟ كان أسهل شيء في العالم، اعترتها رغبة بالضحك والغناء. إذا زادت من ميلان جناحيها، صار تحليقها أبطأ ومتجهًا إلى أعلى، لكن لمدة قصيرة؛ بعدها تناقصت السرعة كثيرًا وأحست إيزابيلا أنها في خطر. حاولت أن تخفق بجناحيها وأحست بالهواء يحملها؛ مع كل خفقة، زاد ارتفاعها، بسلاسة وروية.

حتى تغيير الاتجاهات كان سهلًا كشربة ماء، وسهل التعلم: كل ما عليك فعله أن تلف الجناح الأيمن قليلًا، ومباشرة تتجه إلى اليمين. لم يكن عليك التفكير بالأمر حتى: الجناحان يتدبران الأمر وحدهما، كما تقودك القدمان يمينًا وشمالًا أثناء المشي. فجأة أحست بالغثيان، بمغص في المعدة؛ كان هناك بلل، لمست نفسها ووجدت دمًا. لكنها كانت تعرف سبب هذا، وبأنه في يوم ما سيصيبها، ولم تكن خائفة.

***

ظلت في تحليقها لمدة ساعة على الأقل وأدركت أن تيارًا من الهواء الدافئ يتصاعد من صخور الجرافيو، مما سمح لها بالارتفاع عاليًا دون أي جهد يذكر. تابعت الدرب الريفي طائرة فوق البلدة، ومن علو مئتي متر تقريبًا. انتبهت لأحد المارة وقد توقف، وهو يشير إلى السماء مُنبهًا شخصًا آخر. نظر الرجل الآخر إلى الأعلى، وانطلق راكضًا باتجاه المحل؛ أسرعت أمها وكذلك أبوها بالخروج مع ثلاثة أو أربعة من الزبائن. وقبل أن ينقضي وقت طويل عجت الشوارع بالناس. ودت لو تهبط في الساحة الرئيسية. لكن كان هناك الكثير من الأشخاص، وخافت أن يكون نزولها دون رشاقة فيضحكون عليها.

تركت الرياح تحملها إلى ما وراء النبع، وإلى المروج وراء الطاحونة. بدأت الهبوط ببطء حتى صارت قادرة على رؤية زهور البرسيم ذات اللون الوردي الباهت. وأيضًا وهي تهم بالهبوط، بدا أن جناحيها يعرفان أكثر مما هي تعرف: بدا من الطبيعي أن يكونا في وضع عمودي، وأن يدوما بحيوية، وكأنها ستطير إلى الخلف. أنزلت قدميها ووجدت نفسها واقفة على العشب، وهي تلهث مقطوعة النفس قليلًا. طوت جناحيها وانطلقت عائدة إلى المنزل.

في الخريف، بزغت أجنحة لأربعة من أتراب إيزابيلا في المدرسة، ثلاثة أولاد وفتاة؛ وفي صباحات يوم الأحد كان من المُسلي رؤيتهم يطاردون بعضهم البعض حول برج جرس الكنيسة مُعلقين في الهواء. في ديسمبر، نما لابن ساعي البريد جناحان، وتسلم رأسًا مهام والده، مما ناسب الجميع. أما الطبيب فبعد سنة ظهر له الجناحان، ولكنه لم يلحظ إيزابيلا أبدًا وتزوج فتاة عادية، دون جناحين، قدمت من المدينة.

لم يظهر جناحا والد إيزابيلا له إلا بعد عيد ميلاده الخمسين. لم يستفد منهما كثيرًا. متخوفًا ومترددًا، أخذ درسًا أو اثنين من ابنته، وخلع كاحله أثناء الهبوط. منعاه أيضًا من النوم؛ وقد ملآ السرير بالزغب والريش، وصار ارتداء قميصه وسترته ومعطفه أمرًا صعبًا. كانا عائقًا عند وقوفه وراء منضدة البيع أيضًا، لذا قام باستئصالهما.