هل أراد إلياس كانيتي تأديبَ ذاته في بداية مشواره الأدبي بالسخرية اللاذعة منها، ومِن مثالية المثقّف الذي فقد اتصاله مع العالم، ومع الحقيقة، مُنعزلًا في فقاعةٍ هلامية من المثالية؟

مقال أحمد الزناتي

نُشر المقال في كتاب طبول في الليل


Elias Canetti
إلياس كانيتي

في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي أرسل شابٌ حاصل على درجة الدكتوراه في الكيمياء من جامعة فيينا مخطوطَ روايته الأولى إلى أديب نوبل توماس مانّ، مُستطلعًا رأيه. اعتذر مانّ اعتذارًا مهذبًّا عن النظر في الرواية لضيق وقته ولكثرة مشاغله. بعد أقل من نصف قرن، سافر الرجل نفسه إلى ستوكهولم لاستلام جائزة نوبل في الأدب سنة 1981. نتحدّث هنا عن الكاتب الألماني اللسان، الإسباني الأصل، والحائز على نوبل في الأدب إلياس كانيتي (1905 – 1994). توزّعت اهتمامات كانيتي بين الأدب وعلم الاجتماع والفلسفة والعلوم وكتبَ عددًا من الروايات وكتب السيرة الذاتية وأدب الشذرات، وإن كان أغلب النقاد يرى أن إنجازه الرئيس هو كتابه الضخم «الحشد والسلطة» الذي ظلَّ خمسة عشر عامًا لا يفعل شيئًا سوى شحذ أقلامه الرصاص لكتابته بحسب كلامه.

رواية «Die Blendung»، بترجمة حرفية «الإِعماء»، أو بترجمتي «خطف البصر»، هي أولى روايات كانيتي. صدرتْ طبعة الرواية الأولى في فيينا عن دار نشر هيربرت رايشنر النمساوية سنة 1935. كانت فكرة الرواية قد لمعت في ذهن كانيتي حينما كان طالبًا يدرس لدرجة الدكتوراه في جامعة فيينا، حيث أراد كتابة متتالية روائية في ثمانية أجزاءٍ، مُعارضًا رواية بلزاك «الكوميديا الإنسانية»، فخطّط لتأليف متتالية روائية تدور أحداثها حول ثمانية نماذج بشرية خرقاء ومثيرة للسخرية. بمواصلة عملية الكتابة والحذف، تبخّرت شخوص الفكرة الأصلية ما عدا شخصية واحدة، هو بطل روايتنا مُدمن الكتب المجنون د. بيتر كِين. أول ما يلفت انتباه القارئ للرواية عنوانُها؛ العنوان حمّال أوجه، فالمفردة يُمكن ترجمتها بالعمى المفاجئ الذي يصيب العين فور التقائها بالنور الساطع، وهو أيضًا عقوبة قديمة بإعماء المحكوم عليه بالإعدام، بينما آثر مترجمو الرواية إلى الإنجليزية ترجمةَ العنوان ترجمةً تأويلية خالصة، فتُرجِمَ العنوان إلى «تكفير الخطيئة» (Auto-da-fé)، وهو مصطلح قروسطي يشير إلى إجراء طقسيّ كان يخضع له المُدانون بالهرطقة في أثناء سطوة محاكم التفتيش الإسبانية، وكان ينتهي، غالبًا، بالإعدام حرقًا؛ وكلها إشارات رمزية ترسم حياة البطل من البداية إلى النهاية. 

في حوارٍ صحفي قال كانيتي إنّه أخضعَ الرواية لمراحل مختلفة من الكتابة والتنقيح. ففي المسوّدة الأولى أطلق كانيتي على البطل اسم «B»، وهو اختصار ل«Büchermensch» أو «رجل الكتب»، ثمّ عدّله إلى «Brand» في محاولة لصنع جناس صوتي مع اسم «كانط» الفيلسوف الألماني الأشهر (في توريةٍ تسخر من نمط حياة إيمانويل كانط الصعب المخيف)، لكنّه عدّل الاسم إلى كِين بناءً على توصية من صديقه الروائي هيرمان بروخ. كما أشار كانيتي إلى تأثّره بعددٍ من الكُتّاب في أثناء كتابة الرواية، من بينهم فرانتس كافكا في روايته القصيرة «التحوّل»، و«الأنفس الميّتة» لجوجول، و«الأحمر والأسود» لستندال.

تنتمي الرواية إلى الأدب «الجروتسكي»، أي الأدب الغرائبي المُشوِّه للواقع، والمُطعَّم بقطرات مركزّة من السخرية الحادة والسوريالية السوداء. والجروتسك مصطلح ارتبط عند ظهوره بالفنون الجميلة، إذ أُطلق في الأصل على الرسوم المُكتشَفة في مناطق كانت مغمورة بالتراب في إيطاليا وتَحتوي على رسومات عجائبيّة. فيما بعد تَوسّع المعنى واستُخدمتِ الكلمة في علم الجمال كصفة أو طابَع لكل ما هو غير مُنتظم، ومتَّصف بالغرائبية، ولكلّ ما هو مضحك من خِلال المُبالَغة والتشويه والتناقض مع كل ما هو سامٍ ورفيع. يرى النقّاد أنّ كانيتي انطلق من وجهة نظر الروائي الفرنسي الكبير فيكتور هوجو حينما وصفَ الجروتيسك بأنّه «بالنِّسبة لنا معشر الروائيين هو أغنى اليَنابيع التي تستطيع أن تَدلّنا على الفنّ الحقيقيّ».


استطاع كانيتي في روايته أنّ يرسم رواية جروتيسكية محبوكة ببراعة من خلال الربط المتواصل بين حالة الحُلم والعِلم، وبين ما يجري على أرض الواقع والهلاوس التي تجري في رأس البطل. يدور محور الرواية حول عاشق مولع بالكتب يرفض التواصل مع الناس، مُعتزلاً العالم في مكتبته الضخمة. بطل الرواية هو بروفيسور بيتر كِين، أستاذ فقة اللغة الصينية الأشهر في زمانه، وهو رجل غريب الأطوار في الأربعين يعيش منعزلًا في شقّة بالعاصمة النمساوية فيينا (حيث كان يعيش كانيتي). وهي ليست شقّة، بل بالأحرى مكتبة ضخمة تضم ما يزيد عن خمسة وعشرين ألف مجلد، لا يزورها النورُ إلا من خلال طاقةٍ صغيرة تتوسّط سقف حجرة المكتب، لأن جدران الشقّة مغطاة كلها بالكتب. يعيش بروفيسور كِين حياةً رهبانية متقشّفة، والتقشّف هنا موصول من أول الكلام مع البشر وصولًا إلى رفض الزواج واحتقار المرأة. فالرجل غير مهتمّ بالتواصل مع أي مخلوق. لا تشغل باله النساء ولا يؤرّقه الجنس، وربما ولا الجنس البشري برمّته. يرفض بطل الرواية رفضًا قاطعًا التضحية بعمله الأساسي (وهو جمع الكتب القديمة والنادرة) لكسب المال، فيعيش على ميراث والده لمدة عشر سنوات، وينشر مقالةً أو مقالتين دسمتيْن كل بضع سنوات، لإرضاء غرور  الدوائر الأكاديمية داخل أوروبا. لكن ولعه المَرَضيّ بالكتب وبجمعها وبالحفاظ عليها يدفعه للتفكير في الزواج من مدبًّرة منزله غير المتعلمة تيريزا كرومبهولتس (ستة وخمسين عامًا)، اعتقادًا منه أنّها الشخص الوحيد الذي يمكنه المساعدة في صون مكتبته والحفاظ عليها. تتظاهر تيريزا بعشقها للكتب وبرعايتها لمكتبة د. كِين، مُحاولةً اجتذابه للوقوع في حبّها والزواج منها، وتنجح بالفعل في اصطياده. في ليلة الزفاف يحدث موقف صغير عابر يغيّر كل شيء. تزيح تيريزا بحركة غير متعمّدة أحد الكتب المرصوصة فوق الأريكة التي كان ينام فوقها، فتنتابُ الرجل سورة غضبٍ عارمة. بالتدريج تسقط الأقنعة، وتنكشف حقيقة تيريزا. حيث يتبيّن لكِين أنّ تيريزا عجوز ماكرة، أوقعته في شباكها لا بحثًا عن ظل رجلٍ، بل عن ظلّ حائطِ منزل تستحوذ عليه في نهاية المطاف، لتشتعل بعدها معركة وجودٍ حامية بين الزوجين؛ تشرع تيريزا يومًا وراء يوم في تقليص نفوذ الكتب داخل الشقّة، فتبدأ في إزاحة الكتب جانبًا، وتواصل مهمّتها بدأب، بإقصاء كِين وكتبه من غرفة أكبر إلى واحدةٍ أصغر، وهكذا حتى ينزوي كِين في غرفه مكتبه لينام ويأكل ويقرأ داخلها، بينما تنفرد هي بباقي الغُرف. 

يقرر كِين استعادة نفوذه السابق داخل منزله، وإعادة الكلمة العليا إلى «قلعة الكتب» على حد تعبيره. تتسّع الهوة بين الزوجيْن، فيلزم كِين حجرة مكتبه ولا يتبادل مع تيريزا كلمةً واحدة، فتنخرط تيريزا في علاقة غرامية مع تاجر موبيليا كانت تتردّد عليه يُدعى «السيد جروب»، أو السيد «بودّا». يحتدّ الصراع، لكن تيريزا الماكرة تنتصر، وتنجح في طرد زوجها المجنون من الشقة بلا رجعة. ويكون الطرد من المنزل هو بداية مواجهة كِين الحقيقية للعالم الخارجي. يلتقي كِين في إحدى الحانات برجل يُدعى زيجفريد فيشر أو «فيشرلِه»، الذي يقنعه بأنه بطل شطرنج لا يُبارى، ويخبر كِين برغبته في السفر إلى الولايات المتحدة ليشارك في بطولات الشطرنج العالمية، لكن يعوزه المال، فيبدأ في استدراج كِين الساذج واستلاب أمواله بطرق خادعة، موهمًا إياه بمحاولة استرداد كتبه من تيريزا. في كل يوم جديد يصطدم كِين بخدعة جديدة، وبمخادعين جُدد، حتى ينهار ويسقط في دائرة جنون محقّق، فيعترف بجرائم لم يرتكبها (كأن يتوّهم أنه قتل زوجته تيريزا). يظهر شقيق بيتر كِين، الطبيب النفسي د. جيورج كِين، وهو الشخص الوحيد السويّ في الرواية، وهو الشخص الوحيد أيضًا المهموم بإعادة شقيقه إلى منزله وإلى مكتبته وإلى فردوسه المفقود. لكن بيتر كِين، الذي كان قد سقط بالفعل في دوامة جنون حقيقيّ، حيث يُنكر جهود شقيقه، متهمًا إياه  بالتواطؤ مع العالم الخارجيّ المجنون. في النهاية يعود بيتر كِين إلى مكتبته وإلى شقته. وبمجرد وصوله إلى منزله يشعل النار في الكتب فتحترق، ويحترق معها وبها، ومن هنا نفهم سبب ترجمة الرواية في نسختها الإنجليزية إلى «الموت حرقًا».


يشير عنوان الرواية إلى حالة «العمى» التي أصابت جميع أبطالها. والعمى هنا على نوعيْن: النوع الذي أعمته شهوة المال وحبّ التملّك مثل (تيريزا وبودّا وفيشرلِه المخادِع وغيرهم)، ونوعٌ يتعامى عن الحقيقة، وعن الاعتراف بها، وأولهم بيتر كِين، الذي قاده تعاميه المتعمّد عن الواقع وتجاهله لحقيقة أنّ العالم ليس محصورًا بين دفتي كتاب، ولا في الأفكار والتنظير إلى عمى البصيرة، وإلى التخبّط، وإلى السقوط المتكرّر في أيدي النصّابين والأفاقين. تناول العديد من كبار الأدباء رواية كانيتي بالنقد والتحليل. ربط بعضهم شخصية د. كِين بشخصية الفارس النبيل دون كيخوته دي لا مانشا، الذي كان غارقًا في قراءة كتب الفروسية، ولم تبدأ حياته الحقيقية إلا حين خرج إلى العالم، فتعامل معه بمنطق التعامي نفسه الذي تعامل به خليفته د. بيتر كِين، فنال من قسوة البشر ما نال. ألا نلمح ملامح مشتركة –واضحة أو باهتة– بين كِين وكانيتي وكيخوته، والجميع تبدأ أسماؤهم –صوتيًا– بحرف «ك»؟

قارئ الرواية، والمُحيطُ بسيرة كانيتي، سيلاحظ أنّ شخصية بيتر كِين واهتماماته هي انعكاس لشخصية إلياس كانيتي وميوله. فطالما أعرب كانيتي عن رغبته في تكريس نفسه للكتب وللتأليف والانعزال عن العالم، وتزوّج كانيتي من صديقته فيتزا في فيينا قبل عامٍ واحدٍ من ظهور روايته. كما أنّ لكانيتي شقيقًا اشتغل طبيبًا في باريس، اسمه جيورج كانيتي، الذي هو –بشكل أو بآخر– معادل موضوعي لشخصية جيورج كِين داخل الرواية. سؤال مهم: هل أراد إلياس كانيتي تأديبَ ذاته في بداية مشواره الأدبي بالسخرية اللاذعة منها، ومِن مثالية المثقّف الذي فقد اتصاله مع العالم، ومع الحقيقة، مُنعزلًا في فقاعةٍ هلامية من المثالية، أو في عالمٍ موازٍ، يظنّ معه أنّه في حضرة الحق وأن الحقّ في حضرته، وأن الآخرين ليسوا سوى جهلاءَ أو مُغيّبين أو عميانًا، بينما هو في الحقيقة يقود طابورَ عميان طويلًا؟


يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه