لا تتخلى الحكمة السماوية عن الروح وتتركها كلية تحت رحمة القدر ونزوات البشر. يؤجج الأذى الذي لحق بالإنسان جراء جرح خارجي عطشه للخير وبالتالي تظهر إمكانية الشفاء تلقائيًا. وإذا كان الجرح عميقًا كان العطش للخير في أنقى صوره.
الشخصية الإنسانية
ترجمة: أحمد إسماعيل
منشور في «مقالات مختارة، 1934–1943» لسيمون فاي، والتي اختارها وترجمها ريتشارد ريس، ونشرتها جامعة أوكسفورد في 1962. نُشر النص الأصلي بعنوان «La Personne et le sacré» في «Écrits de Londres et dernières lettres»، عن دار نشر جاليمار في 1957.
1
«أنت لا تثير اهتمامي». لا يستطيع أي أحد قول هذه الكلمات دون أن يصبح ممارسًا للقسوة ومتعديًا للعدالة.
«شخصك لا يثير اهتمامي». يمكن لهذه الكلمات أن تستخدم في محادثة صادقة بين صديقين مقربين دون أن تثير في صداقتهما أدنى عكر.
على نفس المنوال، يستطيع المرء أن يقول: «شخصي ليس مهمًا»، دون أن يضع من قدر نفسه، ولكنه لا يستطيع أن يقول: «أنا لست مهمًا».
يثبت هذا أن هناك خللًا ما في مفردات التيار الفكري الحديث المعروف باسم «الشخصانية».[1] وحيثما يوجد خطأ جسيم في المفردات فيشير ذلك حتمًا إلى خطأ مماثل في الفكر.
يوجد في كل إنسان شيء مقدس، لكن هذا المقدس ليس شخصه/ فردانيته، وليس شخصيته، ولكنه الإنسان نفسه لا أكثر ولا أقل.
أرى عابرًا في الطريق، لديه ذراعان طويلان وعينان زرقاوان وعقل لا أدري ما الأفكار التي تجول فيه، أشياء عادية في الأغلب.
لا شخصه ولا الشخصية التي يمتلكها يمثلان ما أقدسه فيه. إنما هو، مجمله/ بأكمله. الذراعان والعينان والأفكار وكل شيء. سيمنع الورع يدي عن أي من ذلك.
إذا كانت شخصيته هي المقدسة بالنسبة إلي فلا بأس إذن أن أفقأ عينيه. فشخصيته لن يغيرها العمى عما كانت نهائيًا. ولن أكون بذلك قد تعديت على فردانيته إطلاقًا. فحينها لن أدمر سوى عينيه.
يستحيل تحديد ماذا يُقصد باحترام الشخصية الإنسانية. ليس فقط فيما يخص اللغة، حيث يشترك في ذلك كثير من الأفكار الجلية الأخرى، ولكن يستحيل استيعابها فكريًا كذلك؛ لا يمكن تحديدها ولا عزلها في مدارك العقل الصامتة.
أن تؤسس أصولًا أخلاقية معممة على أرضية لا يمكن إدراكها، فضلًا عن تعريفها، هو أن تفتح الأبواب على مصاريعها لكل أشكال الطغيان.
أثبت مفهوم الحقوق الذي بزغ إلى الوجود في عام 1789، ونظرًا لنقصه الجوهري، أنه غير قادر على إتمام المهمة المنوط بها.
ولن يفيد الأمر شيئًا إذا ما أضفنا مفهومين ناقصين أحدهما بجانب الآخر وتحدثنا عن حقوق الشخصية الإنسانية.
ما تحديدًا يمكن أن يمنعني عن اقتلاع عيني ذلك العابر إذا ما سمح لي ذلك وألحت علي رغبتي؟
بالرغم أن مجمله هو المقدس عندي، إلا أن قدسيته ليست من كل النواحي ولا من كل الاعتبارات. هو ليس مقدسًا لكونه طويل اليدين أو أزرق العينين أو لأن لديه، ربما، أفكارًا عادية في رأسه. وهو ليس مقدسًا لأنه من النبلاء، إن كان كذلك، ولا لأنه عامل نظافة، إن كان هذا ما يفعله. لا شيء من هذا هو ما سيكف يدي عنه.
ما سيكفها فعلًا هو معرفتي بأنه لو نزع أحدهم عينيه فإن روحه ستتمزق من فكرة أن الأذى قد نزل به عن عمد.
في قرار روح كل إنسان منذ ساعاته الأولى وحتى اللحد، يقبع أمل لا يقهر، في وجه كل خبرات الجرائر التي ارتكبها أو راح ضحيتها أو شهدها، بأن الخير فقط وليس الشر هو ما سيلاقيه. وهذا أولًا وأخيرًا هو المقدس في كل البشر.
الخير هو المصدر الوحيد للمقدس. ليس هناك ما هو مقدس سوى الخير وما يتصل به.
ذلك الأمل العميق، الطفولي والذي لا يتغير في أرواحنا، ليس هو المعني حين نناضل من أجل حقوقنا. ينبع الدافع الذي يبعث بطفل صغير على متابعة أخيه بغيرة وهو يأخد قطعة كعك أكبر قليلًا منه، من مستوى روحي أكثر سطحية بكثير.
قد تعني كلمة العدالة شيئين مختلفين تمامًا وفقًا للمستوى الذي تحيل إليه من المستويين السابقين. المستوى الأول فقط هو ما يهم.
وفي كل مرة تصدر الصرخة الطفولية عميقًا من روح الإنسان، الصرخة التي لا يستطيع الله نفسه كبح جماحها: «لماذا حل بي الأذى؟»، فإن ظلمًا ولا بد قد اقترف. وحتى إن حدث ذلك نتيجة لإساءة الفهم، وغالبًا ما يحدث، فإن الظلم هنا يتمثل في قصور التفسير.
تحرك هؤلاء الذين وجهوا الصفعات التي استدعت مثل تلك الصرخات بواعث تختلف باختلاف الأمزجة والمناسبات. فهناك من يتلذذ بصرخات الألم، وهناك من لا يسمعها من الأساس. لأنها صرخة صامتة لا تستحيل صوتًا إلا في مكنون القلب.
وتقترب الحالتان الذهنيتان تلكما من بعضيهما على نحو أكبر مما يبدو. فما الثانية إلا نوع ضعيف من الأولى؛ يستقبل صممها بالقبول لما تتجنبه من إشكال ولما تقدمه لنفسها من إشباع مرضي. لا يحد من إرادتنا شيء سوى ما تفرضه علينا الضرورة المادية وما يفرضه علينا وجود الآخرين من حولنا. يغرينا أي امتداد متخيل لمثل هذه الحدود، ويفتننا كل ما يساعدنا أن ننسى حقيقة هذه العقبات. ولهذا تثملنا القلاقل كالمعارك والحروب الأهلية، فهي تفرغ الحياة الإنسانية من حقيقتها وتبدو كما لو أنها تحول الناس إلى دمى. ولهذا أيضا تسعد العبودية الأسياد.
وهؤلاء الذين عانوا من الصفعات المتتالية، كالعبيد مثلًا، فإن الموضع الذي استثاره فعل الشر في أرواحهم حتى يصرخوا صرخة الفزع تلك قد يبدو للوهلة الأولى ميتًا. إلا أنه لا يموت أبدًا في الحقيقة؛ ولكن يفقد قدرته على الصراخ. يغوص في حالة من الخرس والنحيب العاجز.
حتى هؤلاء الذين لا تزال لديهم قوة كي يصرخوا، فإن صرختهم نادرًا ما تقدر على التعبير عن حقيقتها، سواء لأنفسهم أو لمن سواهم، بلغة مفهومة.
ويغلب على الكلمات التي تعبر بها صرخاتهم أن تكون في واد آخر تمامًا.
ويصبح هذا أكثر حتمية لأن أغلب الذين يشعرون بالشر يمارس عليهم هم أنفسهم أقل الناس تمكنًا من فنون الكلام.
على سبيل المثال، لا شيء أكثر ترويعًا من مشاهدة بائس معدم يتلعثم أمام مدعٍ عام تسيل من فمه العبارات المتذاكية.
وبجانب العقل، فإن الملكة الإنسانية الوحيدة الحريصة على حرية التعبير هي تلك البقعة من الروح التي تصرخ في وجه الشر.
ولأنها لا تستطيع التعبير عن نفسها فإن الحرية ليست ذات نفع لها. نحتاج أولًا إلى نظام تعليم عام قادر على إمدادها، على قدر الإمكان، بوسائل التعبير؛ وثانيًا، إلى نظام حكم لا تتميز حرية التعبير فيه بالحرية بقدر ما تتميز بالصمت المنتبه حيث يمكن لهذه الصرخة الواهنة الخرقاء أن تجعل نفسها مسموعة؛ وأخيرًا، إلى نوع من المؤسسات يعمل على وضع السلطة، بقدر الإمكان، في يد رجال قادرين على وراغبين في تفهم تلك الصرخات.
ليس مستغربًا أن حزبًا سياسيًا مشغولًا بالسعي نحو السلطة أو الحفاظ علي ما لديه منها لن يرى في تلك الصرخات إلا ضوضاء. وسيختلف في استجابته نحوها على قدر ما تتعارض هذه الضوضاء أو تتماشى مع دعاياته الخاصة. ولكنه أبدًا لن يكون قادرًا على الانتباه المرهف والضروري لفهم معناها.
وبالنسبة إلى المنظمات الملوثة بالنفوذ الحزبي فالأمر سيان وإن كان لدرجة أقل؛ بتعبير آخر، عندما تسيطر الأحزاب على الحياة العامة. وهذا ينطبق على كل المنظمات ومن ضمنها الاتحادات العمالية وحتى المؤسسات الدينية.
ومن الطبيعي كذلك أن تكون الأحزاب ومثل تلك المنظمات متساوية في تبلدها أمام الحيرة الأخلاقية.
وعندما لا تعني حرية التعبير في الحقيقة سوى حرية بث الدعاية للمنظمات من هذا النوع، فحينها أيضًا تنعدم حرية التعبير للجزء الوحيد من روح الإنسان الذي يستحقها. وحتى لو تبقى منها شيء فسيكون متناهيًا في صغره؛ يكاد يتساوى مع ذلك الذي تسمح به النظم الشمولية.
وهكذا هو الحال في النظم الديمقراطية، أو ما ندعوها ديمقراطية في فرنسا لأننا لم نعرف حتى الآن غيرها، حيث تتحكم الأحزاب في توزيع السلطة، ولهذا علينا أن نبتكر شيئا مختلفًا.
وبتطبيق نفس المعايير بنفس الطريقة على أي من المؤسسات العامة سنصل إلى استنتاجات على نفس القدر من الوضوح.
ليست فردانية الإنسان وشخصيته هي من تحدد هذه المعايير، ولا هي المعنية حين يتسبب فعل الشر في إطلاق صرخة الفزع والأسى من أعماق الروح. تأذي الشخصية الإنسانية ورغباتها ليس كافيًا لاستثارة مثل تلك الاستجابة، ولكن الإحساس بضغط الظلم عبر الشعور بالألم هو وحده القادر على ذلك. وهو دائمًا، عند كل البشر وحتى عند الله نفسه، احتجاج لا شخصي.
هناك أيضًا صرخات كثيرة لاحتجاجات شخصية ولكنها غير مهمة؛ يمكنك استثارة ما تشاء منها دون انتهاك أي مقدس.
2
في منأى عن فردانيته فإن المقدس في الإنسان هو اللاشخصي فيه.
وحده ما هو لا شخصي في الإنسان مقدس دونًا عما سواه.
في عصرنا الحالي، وبعدما اغتصب الكتاب والعلماء، على نحو عجيب، مكانة رجال الدين، يقر عامة الناس بانقياد غير مبرر بأن هذه الملكات الفنية والعلمية مقدسة. ويُنظر إلى ذلك وكأنه أمر بديهي رغم كونه بعيدًا تمامًا عن البداهة. وإذا سُئل عن السبب فسيحاجج الناس بأن التعبير الحر عن مثل تلك الملكات هو من أعظم تجليات الشخصية الإنسانية.
وغالبًا ما يكون كذلك تحديدًا وليس أكثر. وهو ما يجعله يسيرًا أن نقيمه ونحدد توقعاتنا منه.
من نتائج وجهة النظر تلك هو ذلك الاتجاه الذي لخصته مقوله بلايك الشنيعة: «لأن تقتل طفلًا في مهده خير من أن تحبس رغبات بلا إشباع». أو ذلك الاتجاه الذي يغذي فكرة «إشباع النزوات».
ومن نتائجه الأخرى هي علوم تأخذ في اعتبارها كل الشروط والمعايير والقيم الممكنة باستثناء الحقيقة.
الترانيم الجريجورية والمعمار الرومانسكي والإلياذة واختراع الهندسة، كل ذلك لم يكن حالات للتجلي الشخصي بالنسبة لمن أتوا به إلى الوجود ليصبح بين أيدينا.
عندما يختزل العلم والأدب والفلسفة إلى مجرد تجليات للشخصية الإنسانية فإنها تصير على ذلك المستوى حيث يمكن للإنجازات العظيمة والمدهشة أن تحدث وأن تخلد أسماء الرجال إلى آلاف السنين. ولكن فوق هذا المستوى، فوقه بكثير، بهوة فارقة، يقع مستوى آخر تحدث فيه الأمور الأجل. وهذه الأمور هي بالضرورة مجهولة لا تعزى إلى اسم.
والصدفة وحدها تحدد مصير أسماء هؤلاء الذين وصلوا لتلك المرحلة إن كانت ستحفظ أم تنسى؛ وحتى إذا بقيت أسماؤهم فإنها تفقد هويتها وتتلاشى شخوصها.
في هذا المستوى اللاشخصي واللاهوياتي توجد الحقيقة والجمال. وهذا هو صرح المقدس؛ أما على المستوى الآخر فلا شيء مقدس اللهم إلا كما تكون مقدسة ضربة فرشاة في لوحة تصور العشاء الإلهي.
المقدس في العلوم هو الحقيقة والمقدس في الفنون هو الجمال. الحقيقة والجمال كلاهما لا شخصي. وهذا لا لبس فيه.
إذا أجرى طفل عملية حسابية وأخطأ ستزر شخصيته وزر الخطأ. وإذا أصاب فلا دخل لشخصيته في الأمر على الإطلاق.
الكمال لاشخصي. شخصيتنا هي الجزء منا الذي ينتمي للخطأ والخطيئة. تنصب جل محاولات التصوف إلى الوصول لتلك الحالة حيث لا يتبقى في الروح جزء يقول «أنا».
ورغم ذلك، فإن الجزء في الروح الذي يقول «نحن» ما يزال أخطر بصورة مطلقة.
3
لا يمكن الوصول إلى اللاشخصي إلا عبر ممارسة نوع نادر من الانتباه يستحيل وجوده إلا في العزلة؛ ليس فقط العزلة الجسدية ولكن العقلية أيضًا. لا يمكن لذلك أن يتحقق لمن يعتبر نفسه فردًا من جماعة وجزءًا من كل يعبر عن نفسه بـ«نحن». الأفراد كجزء من مجموع مجردون من أدنى أشكال اللاشخصي. لا يستطيع مجموعة من البشر حتى جمع اثنين إلى اثنين. يحتاج حساب مسألة كتلك عقلًا يغفل لوهلة عن وجود عقول أخرى.
رغم تقابل الشخصي مع اللاشخصي، إلا أن هناك سبيل من أحدهما للآخر. لكن لا يوجد سبيل بين الجمعي واللاشخصي. على الجمعي أن ينحل إلى أفراد منفصلين أولًا قبل أن يصل إلى اللاشخصي.
ولأجل هذا المنظور فقط يستأهل الفرد قداسة أعلى من الجماعة. لا ينأى الجمعي عن اللاشخصي فحسب، بل يخدعنا بتقليد زائف له.
«الوثنية» هو اسم الضلالة الذي تنسب صفة مقدسة إلى الجمعي؛ وهي أكثر الجرائم حدوثًا في كافة الأزمنة والأماكن. ومن ناحية أخرى، من لا يعطي اعتبارًا سوى للشخصية وما يطورها فقد فقد نهائيًا كل إحساس بالمقدس، ومن الصعب تحديد أي هاتين الضلالتين أسوأ. غالبًا ما نجدهما مجتمعتين، بنسب مختلفة، في العقل نفسه. لكن الضلالة الثانية هي أقل في فعاليتها ورسوخها بكثير من الأولى.
روحانيًا، لم يكن الصراع بين ألمانيا وفرنسا في أربعينيات القرن العشرين في أساسه صراعًا بين البربرية والتحضر ولا كان بين الشر والخير، ولكنه صراع بين أولى هاتين الضلالتين وثانيتهما. وانتصار الأولى لا مفاجأة فيه؛ فهي بطبيعتها الأقوى.
ليس هناك ما يشين في خضوع الفرد للمجموع؛ فهي حقيقة ميكانيكية مثل تصاغر الجرام مقابل الكيلوجرام في الموازين. والفرد في الحقيقة خاضع للمجموع دائمًا، حتى في ظرف ما يسمى بحرية التعبير.
على سبيل المثال، الفنانون والكتاب الأكثر نزوعًا إلى اعتبار فنهم تعبيرًا عن شخصياتهم هم بالتحديد أكثرهم ارتباطًا بالذائقة العامة. لم يواجه هيوجو أي مشكلة في التوفيق بين اعتقاده الشخصي وقاعدته (إرجاع الصدى)؛ ووايلد وجيد والسورياليون أمثلة أخرى ربما أكثر فجاجة على ذلك. وبالمثل فإن العلماء من نفس الشاكلة مغللون بالموضة، والتي تهيمن على المجال العلمي باستبداد يفوق استبدادها لصيحات القبعات وأشكالها. ولهؤلاء فإن الرأي الجمعي للمتخصصين هو فعليًا حكم قاطع.
الفرد، كونه خاضعًا للجمعي سواء كحقيقة مطلقة أو لأنه هكذا تسير الأمور، لا يمتلك أي حقوق طبيعية يمكن أن يستند إليها لتنوب عنه.
يقال إنه في العصور القديمة لم يكن هناك أدنى اعتبار للفرد. فقد كانت أذهان القدماء أكثر صفاء بكثير من أن تعطي اعتبارًا لمثل تلك الفكرة المهزوزة.
لا يستطيع الإنسان الهرب من الجمعي إلا بأن يرفع نفسه فوق ما هو شخصي ويدخل إلى اللاشخصي. وحينها سيكون بداخله جزء صغير من روحه لا يستطيع الجمعي أن ينال منه أبدًا. إذا استطاع أن يغرس جذوره في الخير اللاشخصي وأن يستمد منه الطاقة فإنه سيكون في الحالة التي يستطيع فيها أن يحمل نفسه على الصمود حين يشعر بالواجب تجاه فعل شيء ما بدون أي مساعدة خارجية وضد أي جمعي. وتلك رغم ضآلتها، قوة حقيقية.
توجد حالات حين يكون لأصغر القوى تأثير حاسم. رغم كون الجمعي أقوى بكثير من الفرد إلا أنه يعتمد في وجوده على عمليات يعتبر الجمع البسيط نموذجها الأولي وهذه لا يمكن أن يقوم بها إلا عقل منفرد في حالة من الانعزال.
ويوحي هذا الاعتماد بوجود وسيلة يمكن أن يسيطر بها اللاشخصي على الجمعي لو أننا عرفنا فقط كيف نستخدمه.
على كل من بلغ ذلك المستوى اللاشخصي مسؤولية تجاه كل البشر؛ أن يحمي، ليس شخوصهم، ولكن ما يختبئ فيهم من إمكانية وإن كانت ضعيفة، للولوج إلى اللاشخصي.
فهؤلاء هم من يجب أن توجه لهم دعوات احترام القدسية الإنسانية أولًا. لأنه لا يمكن أن تستحيل تلك الدعوات إلى حقيقة إلا بأن توجه إلى من يستطيع أن يفهمها.
لا يجدي أن تشرح للجمعي أنه يوجد بداخل كل وحدة من الوحدات التي تكونه شيء ما لا ينبغي التعدي عليه. فأولًا، الجمعي ليس شخصًا إلا على سبيل التخيل، هو فقط وجود تجريدي ولا يمكن الحديث إليه إلا في المخيلة. ثانيًا، إذا كان الجمعي شخصًا فعلًا فحينها لن يكون على استعداد لأن يعتبر أي شيء إلا نفسه.
إضافة إلى ذلك، فإن الخطر الأساسي لا يقع في نزوع الجمعي إلى تقييد الفرد ولكن في ميل الفرد إلى إذابة نفسه في الجمعي. أو ربما أن الخطر الأول ما هو إلا جانب سطحي ومخادع من الثاني.
وكما أنه غير مُجدٍ أن تخبر الجمعي أن الفرد مقدس فإنه أيضًا غير مُجدٍ إن أخبرت الفرد نفسه بذلك لأنه لا يشعر بأنه مقدس. وما يمنع الفرد من أن يشعر بأنه مقدس هو أنه فعلا ليس كذلك. وإذا كان من بين الأفراد من يشعرون على نحو مختلف بأن شيئًا ما مقدسًا في شخصيتهم ويعتقدون أنه يمكن تعميم هذا وعزوه إلى الجميع فإنهم حينها يكون تحت توهم مزدوج.
أولًا، ما يشعرون به هو ليس إحساسًا أصيلًا بالقدسية ولكن محاكاة زائفة له ولَّدها الجمعي. ثانيًا، إنهم يشعرون بهذا تجاه شخصياتهم فقط لأنها شاركت في المكانة التي اكتسبها الجمعي من خلال القيام بالدور الاجتماعي الذي وكل إليها.
وهم بذلك مخطئون في اعتقادهم بإمكانية تعميم حالتهم الخاصة. ورغم كرم دافعهم ذلك إلا أنه لا يستطيع حيازة ما يكفي من القوة ليريهم في جموع الناس شيئًا يتعدى كونهم كتلة بشرية لا مسمى لها. ويصعب عليهم إدراك ذلك لغياب صلتهم بجموع الناس.
فردانية الإنسان هو عنصر متأزم؛ فهو يشعر بالبرودة ويبحث دائما عن مأوى دافئ.
وهؤلاء الذين تكون فردانيتهم محاطة بدفء العلائق الاجتماعية، سواء كواقع أو كتوقع، لا يكونون على دراية بهذه السببية.
وهذا يفسر نشوء وتطور فلسفة الفردانية تلك ليس في الدوائر الشعبية ولكن وسط كتاب يسعون أو يأملون كجزء من مهنتهم أن ينالوا اسمًا وسمعة.
يجب أن تتمحور العلاقات بين الفردي والجمعي حول هدف وحيد وهو إزالة كل ما يعيق الإنبات الغامض للعنصر اللاشخصي في الروح ونموه.
يعني هذا من ناحية أنه يجب أن يمتلك كل فرد ما يكفي من المساحة والحرية ليحدد كيف يستخدم وقته وأن تسنح له فرصة الوصول إلى مستويات أعلى من التركيز وإلى شيء من العزلة وشيء من الصمت. ويحتاج الفرد على الناحية الأخرى إلى الدفء بحيث لا يدفعه الضيق إلى إغراق نفسه في الجمعي.
4
وإذا كان ذلك هو الخير فإن المجتمعات الحديثة، حتى الديمقراطية منها، تبدو وكأنها تسير بأقصى ما يمكنها في اتجاه الشر. ويصل الكيان الصناعي الحديث على وجه الخصوص إلى حواف الجحيم. حيث يتعرض كل من فيه بصورة مستمرة إلى المضايقة والاستنفار بسبب تدخل إرادات خارجية تاركة الروح في بؤس بارد وموحش.
يحتاج الإنسان إلى الصمت والدفء، بينما لا يحصل إلا على ضوضاء باردة كالثلج.
ربما يكون العمل الجسدي شاق إلا أن هذه لا يجعله مهينًا. هو ليس فنًا وليس علمًا ولكن شيء آخر يمتلك قيمة متساوية تمامًا مع قيمة الفن والعلم لأنه يوفر إمكانية مماثلة للوصول إلى مرحلة الانتباه اللاشخصية.
أن تستعمل شابًا يمتلك القدرة على مثل ذلك العمل كسير لنقل الأحمال أو كأجير بالقطعة لهي جريمة مثلما أنها جريمة أن تفقأ عيني الرسام «واتو» في شبابه وتجبره على العمل بمجلخة. وفي حين أن مسألة واتو يمكن الانتباه إليها فإنه لا يمكن الانتباه لمسألة ذلك الشاب.
العمل الجسدي، تمامًا مثل الفن والعلم ولكن بصورة مختلفة، هو تواصل أكيد مع واقع العالم والحقيقة وجمال الكون وحكمته اللامتناهية والتي تتمثل في ما به من نظام.
ولهذا السبب فإنه دنسٌ أن تحط من قدر العمل تمامًا مثلما أنه دنسٌ أن تطأ بقدميك القربان المقدس. وإذا شعر العمال بهذا، إذا شعروا أنهم بكونهم الضحايا فهم بطريقة ما يحققون هذا التدنيس فإن مقاومتهم ستختلف في قوتها تمامًا عنها إذا كانت بدوافع الحقوق الشخصية. حينها لن تكون مجرد مطلب اقتصادي ولكن اندفاعًا من أعماق وجودهم، شرسًا ومستميتًا كفتاة صغيرة تجبر على البغاء؛ وفي نفس الوقت ستكون صرخة أمل تنبع من أعماق قلوبهم.
ورغم أن هذا الشعور موجود بداخلهم على نحو مؤكد إلا أنهم لا يقدرون على استنطاقه لدرجة يستحيل معها خفيًا حتى بالنسبة لهم أنفسهم، وهو كذلك مما لا يمكن لخبراء الكلام التعبير عنه بالنيابة عنهم.
حين يناقش هؤلاء العمال في ظروفهم فغالبًا ما يتمحور الحديث حول الأجور، وبالنسبة لمن هم مثقلون بالإرهاق الذي يجعل من كل محاولة للانتباه تجربة موجعة فإن مجاراة الصفاء البسيط للأرقام والمبالغ يمثل خلاصًا حقيقيًا.
وهكذا ينسون أن ما يساومون عليه ويشتكون أنهم يجبرون على بيعه رخيصًا بسعر دني هو في الحقيقة أرواحهم. تخيل أن أحدهم وبدافع الشفقة يقول للشيطان بينما يساوم هذا الأخير لشراء روح معدوم بائس «عار عليك أن تعرض مثل هذا المبلغ الزهيد، فما تريد شراءه يستأهل ضعف ذلك على الأقل».
وهكذا هي المهزلة المشؤومة التي ظلت فيها حركات الطبقة العمالية بنقاباتها وأحزابها السياسية ومثقفيها اليساريين.
نزعة المساومة تلك كانت متضمنة منذ البداية في مفهوم الحقوق الذي وضعه رجال 1789 كحجر أساس في تحديهم المعلن للعالم. وبفعلهم هذا فقد ضمنوا مقدمًا عدم جدواه.
5
يرتبط مفهوم الحقوق بمفاهيم التوزيع والتبادل والكميات القابلة للقياس. ولها نكهة تجارية تذكرنا بالدعاوى والجدالات القضائية. ودائمًا ما تستخدم لهجة النزاع في الدفاع عنها ويجب، حين تستخدم تلك اللهجة، أن تعتمد على أرضية من القوة وإلا ستكون مدعاة للاستهزاء.
ويوجد عدد من المفاهيم الأخرى من نفس الصنف، والتي رغم ابتعادها تمامًا عما هو سماوي، إلا أنها أعلى قليلًا من مستوى القوة الوحشية. فكلها ترتبط، وباستخدام لغة أفلاطون، بالسلوكيات الحيوانية الجمعية ولكن في نفس الوقت لا تزال تحمل بقايا قليلة من آثار الفعل السماوي للنعمة (grace).
وإذا لم تتلق تلك المفاهيم إرواءً مستمرًا من هذه الفعل السماوي واستمرت هكذا فقط فإنها ولا بد ستقع فريسة للنزوة الحيوانية.
تنتمي مفاهيم الحقوق والشخصية والديمقراطية إلى هذا الصنف من المفاهيم. وكما وضح بيرنانوس بشجاعة ذات مرة فإن الديمقراطية لا تقدم أى دفاع ضد الديكتاتورية. وبطبيعة الأشياء فإن الفرد يخضع للجموع كما تعتمد الحقوق على القوة. ولهذا فإن الأكاذيب والتضليلات التي تعيق هذه الحقيقة هي في غاية الخطورة لأنها تمنعنا من تبني الشيء الوحيد المنيع ضد القوة والذي يستطيع حمايتنا منها: أى القوة الأخرى، تلك النابعة من الروح. ففي عالم النبات تستطيع المواد الخاملة أن تجد طريقها لأعلى ضد قوانين الجاذبية فقط بفضل طاقة الشمس التي تلتقطها الأوراق الخضراء في عصاراتها. وحين يحرم النبات من الضوء فإنه تدريجيًا لكن دون مفر يخضع للجاذبية والموت.
ومفهوم الحقوق الطبيعية المادي البازغ في القرن الثامن عشر هو من ضمن الأكاذيب التي نسائلها. ونحن لا ننسب ذلك إلى روسو والتي كانت روحه الصافية والقوية مدفوعة بإلهام مسيحي أصيل ولكن إلى ديدرو والموسوعيين الفرنسيين. من روما ورثنا مفهوم الحقوق، وكأي شيء آخر أتى من روما القديمة، وهي المرأة التي عليها جميع أسماء التجديف في الرؤيا، فإنه مفهوم وثني وغير قابل للتطهير. فهم الرومان، ومنهم هتلر، أن القوة لن تكون في غاية كفاءتها ما لم تستتر وراء بعض الأفكار. ولهذا الغرض استخدموا فكرة الحقوق والتي ناسبت الغرض بطريقة مبهرة. اتهمت ألمانيا الحديثة بالاستهزاء بهذه الفكرة ولكنها في الحقيقة احتجت بها حد الملل في دورها كأمة بروليتارية محرومة. ومن المعلوم طبعًا أنها سمحت بحق واحد فقط لضحاياها : حق الطاعة. وبالمثل فعلت روما القديمة.
من الوحشية المطلقة أن تستقبل روما القديمة الثناء على توريثنا مفهوم الحقوق. إذا تفحصنا القانون الروماني في مهده لنعلم إلى أى فصيل ينتمي سنكتشف أنه تم تعريف الملكية بما يعرف بحق التصرف والتخلي (jus utendi et abutendi). وفي الحقيقة فإن غالبية الأشياء التي كان للمالك الحق في استخدامها أو التخلي عنها هم البشر.
لم يكن لليونانيين أي مفهوم عن الحقوق ولم تكن لديهم لغة للتعبير عنها، ولكن كانوا يكتفون بكلمة العدالة.
من المذهل كيف رأى البعض شبهًا بين قانون أنتيجون غير المكتوب وبين فكرة الحقوق الطبيعية. في نظر كريون، لم يكن هناك أى شىء طبيعي في تصرف أنتيجون. فقد ظن أنها مجنونة.
ونحن أبعد الناس عن مخالفته في رأيه: نحن الذين نفكر ونتكلم ونتصرف تمامًا مثلما يفعل هو. علينا فقط أن نستشير نص المسرحية.
ترد أنتيجون على كريون قائلة: «لم يكن زيوس هو من أصدر ذلك الأمر ولا كانت العدالة كذلك، رفيقة الآلهة في العالم الآخر الذين يشرعون للناس قوانينهم». يحاول كريون إقناعها أن أوامره كانت عادلة؛ يتهمها بأنها أسخطت أحد إخوانها عندما كرمت الآخر، بحيث يتلقى الوضيع منهما والمخلص نفس الشرف، الذي مات وهو يحاول تدمير بلده والذي مات وهو يدافع عنها.
ترد قائلة: «سواء علىَّ ذلك، فإن قوانين العالم الآخر تتطلب مساواتهما»، فيرد عليها كريون بمعقولية: «لا يمكن أن يتساوى الشجاع مع الخائن»، فلا تجد إلا ردًا غريبًا تقول فيه: «من يدري إذا كان ذلك يسري في العالم الآخر أم لا».
يأتي رد كريون وجيهًا تمامًا: «لا يمكن أن يتساوى العدو مع الصديق أبدًا، ليس حتى في الموت». ترد الساذجة الصغيرة فتقول: «ولدت لأشارك الحب فقط دونا عن الكراهية»، فيرد عليها كريون بوجاهة أكبر: «إذن فلتذهبي إلى العالم الآخر ولتحبي، إذا كان عليكِ ذلك، الماكثين هناك».
وفعلًا فإن العالم الآخر هو المكان المناسب لها. لأنه لم يكن للقانون غير المكتوب الذي اتبعته هذه الفتاة الصغيرة أي شيء مشترك مع الحقوق ولا مع الطبيعي ولكن كان حبًا متطرفًا وغريبًا كالحب الذي أدى بالمسيح إلى الصليب.
فقد كانت العدالة، رفيقة الآلهة في العالم الآخر، دونًا عن أى حق هي من وجهت هذا الحب البالغ. فليس للحقوق أي صلة مباشرة بالحب.
وكما أن مفهوم الحقوق غريب على العقل اليوناني فإنه غريب على الروح المسيحية أيضًا طالما بقيت نقية وغير ملوثة بالتراث الروماني أو العبراني أو الأرسطي. لا يمكننا مثلًا أن نتخيل القديس فرانسيس الأسيزي يتحدث عن الحقوق.
إذا خاطبت أحدًا ممن يملكون آذانًا يسمعون بها وقلت «ما تفعله بي ليس عادلًا» فلربما لامست منبع العناية والحب بداخله وأيقظته. وشتان بين ذلك وبين أن تقول «أنا لدي الحق أن..» أو «ليس لديك الحق أن..»، فالأخير يؤجج حربًا خامدة ويوقظ روح النزاع. وأن تضع مفهوم الحقوق في مركز الصراعات الاجتماعية يعني أن تثبط أى وازع للإحسان عند الطرفين.
يؤدي الاعتماد الكلي على هذا المفهوم إلى استحالة رؤية المشكلة الحقيقية. إذا أراد أحدهم أن يجبر مزارعًا على بيع البيض بسعر معتدل فإن المزارع يمكن أن يقول «لدي الحق في الاحتفاظ بالبيض إذا لم أجد سعرًا مناسبًا». ولكن حين تُجبر فتاة صغيرة على العمل في مبغى فلن تتحدث عن الحقوق. لأنه سيبدو العالم في حينها مجحفا بطريقة عبثية.
وهكذا تنتسب المآسي الاجتماعية زورًا، والتي تنتمي إلى نوعية المثال الأخير، إلى نوعية المثال الأول بمجرد استخدام كلمة «حقوق».
و بفضل هذه الكلمة تحول ما كان ينبغي أن يكون صرخة احتجاج من أعماق القلب إلى تذمر محتد غير نقي وغير عملي من الادعاءات والادعاءات المعاكسة.
6
ينتهي مفهوم الحقوق بطبيعته وبما يتميز به من ضحالة إلى مفهوم الشخص، لأن الحقوق ترتبط بالأمور الشخصية. فهما على نفس المستوى.
ومع هذا يظل إضافة كلمة «الشخصية» إلى كلمة «حقوق» أسوأ بكثير، فتلك الإضافة تنطوي على أخذ حقوق الشخصية إلى تجليها الأقصى. وفي هذه الحالة تصبح صرخة المقهورين في نبرتها أكثر وضاعة من مجرد المساومة. ستكون نبرة حسد.
يعتمد التجلي الأقصى للشخصية على تضخمها بالوجاهة الاجتماعية؛ وبالتالي فهو امتياز اجتماعي. لا يذكر ذلك أحد لجموع الناس حين يحاضرونهم حول الحقوق الشخصية. وهم في الحقيقية يخبرونهم بالعكس ولا تمتلك عقول هذه الجموع قدرات تحليلية كافية ليدركوا هذه الحقيقة جليًا من تلقاء أنفسهم. لكنهم مع هذا يشعرون بها؛ تجعلهم خبرات حياتهم اليومية متيقنين منها.
رغم ذلك، لا يكفي هذا الشعور ليجعلهم يرفضون هذا الشعار. فلا يبدو مستغربًا لعقول زماننا الحالي المعتمة أن نطالب بحصة متساوية من الامتيازات للجميع – الحصص المتساوية هي أشياء تعتمد في جوهرها على الامتيازات. وهذه المطالبة سخيفة ومنحطة في نفس الوقت، سخيفة لأن الامتيازات تعني في حد نفسها عدم المساواة، ومنحطة لأنها لا تستأهل أن نطالب بها.
وصنف الناس الذين يصوغون الدعاوى وباقي الأمور الأخرى والذين يحتكرون اللغة هو نفس الصنف صاحب الامتيازات. ولا ينبغي لهم، دون غيرهم، أن يدعوا إلى الزهد في مثل تلك الامتيازات كشيء لا يستحق التطلع إليه. فهم لا يؤمنون بهذا أصلًا، وسيكون من الوضاعة في كل الأحوال أن يدعوا ذلك.
تذهب كثير من الحقائق الضرورية، والتي من شأنها أن تنقذ البشر، طي الكتمان لأسباب من هذا النوع؛ القادرون على التحدث عنها لا يستطيعون صياغتها والقادرون على صياغتها لا يستطيعون التحدث عنها. ولو أخذت علوم السياسة على محمل الجد فسيكون البحث عن حل لتلك المعضلة من أولى أولوياتها.
في مجتمع غير مستقر يمتلك أصحاب الامتيازات ضميرًا فاسدًا، يخفيه بعضهم وراء ساتر من التحدي فيقول للجموع: «من الطبيعي تمامًا أن أمتلك الامتيازات التي حرمتم منها»، بينما يعترف آخرون بوداعة: «أطالب لكم جميعا بنصيب متساوي لما أتمتع به من امتيازات». أول هذين المسلكين بغيض وثانيهما سخيف ومجاني.
كلاهما يشجعان الناس وبنفس القدر على الانحدار في طريق الشر بعيدًا عن خيريتهم الحقيقية والفريدة والتي وإن كانوا لا يحوزونها، إلا أنهم وبمعنى ما يكونون على مقربة شديدة منها. هؤلاء الناس أقرب بكثير، من أولئك الذين يشفقون عليهم، إلى الخير الأصيل الذي يمكن أن يكون مصدرًا للجمال والحقيقة والإشباع. لكن بما أنهم لم يصلوا إليه بعد ولا يعرفون كيف، فإن هذا الخير قد يظل بعيدًا بعدًا لا متناه. لا يستطيع الذين يتحدثون باسم الجموع أن يفهموا اضطراب الناس ولا الخير المتدفق الذي يكاد يكون في متناول أيديهم. ومن أجل الناس، لا يمكن الاستغناء عن هذا الفهم.
المصائب بطبيعتها لا يمكن التعبير عنها. يتوسل المبتلون بها في صمتهم أن يُمنحوا الكلمات للتعبير عن أنفسهم. وهناك أوقات لا يعطون فيها أي كلمات، وفي أوقات أخرى يتلقون كلمات سقيمة لأن الذين يختارونها لا يعرفون شيئًا عن المصائب التي يترجمونها.
فغالبًا ما تدفعهم ظروف حياتهم بعيدًا عن المصائب وحتى إذا كانوا على مقربة منها أو خبروها بأنفسهم سيظلون بعيدًا عنها لأنهم يبعدونها عن أنفسهم متى سنحت لهم الفرصة.
ينفر الفكر عن تأمل المصائب مثلما ينكمش اللحم الحي بعيدًا عن الميت. احتمال أن تتقدم ظبية بملء إرادتها خطوة بعد خطوة نحو أنياب قطيع من كلاب الصيد هو تقريبًا نفس احتمال أن يوجه أحدهم، تجاه محنة حقيقية وقريبة منه، انتباه جزء من عقله يمتلك رفاهية أن يتجاهلها.
ولكن هذا الذي لا غنى عنه من أجل الخير، وما هو مستحيل بالنسبة للعالم الطبيعي، دائمًا ما يكون ممكنًا بالنسبة للعالم السماوي.
7
ليس الخير السماوي نوعًا مكملًا للخير الأرضي بغرض توفير الراحة لنا كما قيل لنا وكما أكد أرسطو. كان ذلك ليكون لطيفًا لو كان حقيقيًا، ولكنه ليس حقيقيًا. في كل اللحظات الحاسمة في تاريخ الإنسان كان الخير السماوي في كفة والشر في الكفة الأخرى.
وأن تضع على ألسنة المنكوبين كلمات من مفردات المبادئ العالقة في الوسط مثل الديمقراطية والحقوق والشخصية هو أن تعطيهم ما لن ينفعهم بل ما سيضرهم أكبر الضرر لا محالة.
فهذه المفاهيم لا تسكن السماء بل تبقى معلقة في الهواء ولذلك أيضًا لا تستطيع أن تضرب بجذورها في الأرض.
الضوء الساقط باستمرار من السماء هو ما يمنح الشجرة الطاقة لتضرب بجذورها عميقًا في الأرض. وجذورها الحقيقية حينها تكون في السماء. وحده ما يأتي من السماء هو ما يستطيع ترك أثر حقيقي على الأرض.
ومن أجل توفير درع حماية لأولئك المنكوبين يجب أن نضع على ألسنتهم الكلمات التي يكون مأواها الحقيقي في السماء وفيما وراءها، أي في العالم الآخر، فلا خوف من كونها مستحيلة. تجعل المصائب الروح مرحبة بكل ما يأتي من هناك متشربة له بنهم. ولمثل تلك المنتجات فإن المنتجين وليس المستهلكين هم من تنقصهم البضاعة.
ويسهل التعرف على مثل تلك الكلمات المناسبة واستعمالها. يحتاج الشر المنكوبين ومن ثم فهم متعطشون للخير. والكلمات التي تعبر عن الخير في صورته الخالصة هي وحدها المناسبة لهم. ومن السهل تمييزها. فالكلمات التي يمكنها أن تقترن بأي ما يمثل الشر تكون غريبة عن الخير الخالص. فنحن ننتقد أحدهم حين نقول إنه يبرز نفسه – شخصيته – أمام الناس؛ ولذلك فإن الشخصية غريبة عن الخير. يمكن أن نتحدث عن مساوئ الديمقراطية؛ وبالتالي فإن الديمقراطية غريبة عن الخير. وتملك حق ما يعني إمكانية استخدامه في الإحسان أو الإساءة ولهذا فإن الحقوق غريبة عن الخير. وعلى الناحية الأخرى فإن تأدية المسؤولية هو خير دائمًا وفي أي مكان. وكذلك الحقيقة والجمال والعدل والرحمة.
ولنلاقي تطلعات هؤلاء المنكوبين فإن ما علينا فعله إذا أردنا أن نستخدم الكلمات الصحيحة هو أن نقتصر على تلك الكلمات والعبارات التي تعبر عن الخير وحده في كل وقت ومكان وتحت أية ظروف.
وهذه هي إحدى الخدمتين التي يمكننا أن نقدمهما للمنكوبين من خلال الكلمات. والخدمة الأخرى هي أن نجد كلمات تعبر عن حقيقة نكبتهم، والتي من شأنها أن تحدث صدى يتعدى القشرة الخارجية لظرفهم إلى الصرخة التي تصم عنها الآذان دائمًا: «لماذا حل بي الأذى؟»
وهم لا يستطيعون الاعتماد على أصحاب الموهبة أو الشخصية أو الشهرة في ذلك، ولا حتى على أصحاب العبقرية بالتعريف الشائع للكلمة والذي يحيل إلى الموهبة بدوره. لا يمكنهم أن يعتمدوا سوى على أصحاب أعلى صور العبقرية: على شعر الإلياذة وإسخيلوس وسوفوكليس وشكسبير في الملك لير وراسين في فايدرا. وهم قليلون.
لكن هناك بشر كثيرون من ذوي المواهب الفقيرة أو المتوسطة والذين يبدون أدنى بكثير، ليس فقط مقارنة بهوميروس وإسخيلوس وسوفوكليس وشكسبير وراسين ولكن أيضًا بفرجيل وكورنيل وهيوجو، ومع ذلك فهم يسكنون في عوالم الخير اللاشخصي والتي لم يضع أي واحد من مجموعة الشعراء المتأخر ذكرهم مجرد قدم فيها.
لو أن مجنون القرية، بالمعنى الحرفي، محب حقيقي للحقيقة فهو أسمى بما لا يقارن من أرسطو وفكره رغم أنه لم ينبس في حياته كلها بأي شيء سوى همهمات متلعثمة. وهو أقرب بما لا يقارن إلى أفلاطون من أي قرب حققه أرسطو. فهو بهذا يمتلك عبقرية بينما لا تنطبق على أرسطو سوى كلمة موهبة. لو أن جنيًا عرض عليه مبادلة قدره ذلك بقدر شخص آخر كأرسطو فسيكون حكيمًا لو أنه رفض المبادلة دون أدنى تردد. ولكنه لا يدري بهذا ولا يخبره به أحد. يخبره الجميع بالعكس. ويجب عليه أن يعرف. يتحتم علينا تشجيع الحمقى، ومن تنعدم فيهم الموهبة أو تتوسط أو تزيد قليلًا عن ذلك إذا امتلكوا تلك العبقرية. لا يجب أن نخشى إذا صاروا فخورين لأن التواضع دائمًا ما يصحب حب الحقيقة. وما العبقرية الحقيقية إلا فضيلة التواضع السماوية في ميدان الفكر.
نحتاج أن نرعى نمو العبقرية باحترام دافئ ومحتفي وليس وكما اقترح رجال 1789 أن نشجع ازدهار المواهب. فالأبطال الأنقياء والقديسون والعباقرة هم وحدهم القادرون على مساعدة المنكوبين. ويمنع امتداد تلك المساعدة بينهم ستار من صنع أصحاب المواهب والذكاء والعنفوان والوجاهة والشخصية القوية. ولا يجب الإضرار بهذا الستار ولكن تنحيته جانبًا بأكبر قدر ممكن من اللطف والخفية. أما الستار الجمعي وهو الأكثر خطورة بما لا يقاس فيجب تحطيمه من خلال إبطال كل موضع في مؤسساتنا وعاداتنا يؤوي روح الجمعي في أي صورة كانت. فلا في الشخصية الفردية ولا الجمعي ما يستجيب أبدًا للحقيقة ولا المعاناة.
8
هناك تحالف طبيعي بين الحقيقة والمعاناة لأن كليهما مورد أبكم محكوم عليه بالوجود الصامت في حضورنا.
تمامًا مثلما يَمْثُل متشرد متهم بسرقة جزرة من حقل أمام قاضٍ يتربع على كرسيه بارتياح وتسيل من فمه الاستفسارات والتعليقات والتلميحات المتذاكية بينما لا يقدر المتهم على تأتأة كلمة واحدة، هكذا تمثل الحقيقة أمام ذكاء لا يهتم سوى بالتلاعب الأنيق بالآراء.
دائمًا ما تضطلع اللغة بتكوين الآراء حتى في غياب كلمات منطوقة. وتعني الملكة الطبيعية التي تسمى الذكاء بالآراء واللغة. تعبر اللغة عن الارتباطات، ولكنها تعبر عن بعضها فقط، لأن تشغيلها يحتاج إلى وقت. عندما تكون متحيرة وغامضة وبدون دقة أو نظام، وعندما يكون المتكلم أو المستمع مفتقرًا إلى القدرة على الإمساك بفكرة في رأسه، فإن اللغة حينها تكون فارغة أو تكاد من أي مضمون ترابطي. وعندما تكون جد واضحة ودقيقة وقوية ومنظمة، وعندما توجه إلى عقل قادر على الإبقاء على حضور فكرة بينما يضيف إليها أخرى وقادر كذلك على الإبقاء عليهما معا حاضرتين بينما يضيف ثالثة وهكذا دواليك، فعندها فقط يمكن للغة أن تحمل مضمونًا ثريًا بالترابط. لكن ككل أنواع الثراء فإن هذا الثراء النسبي هو في الحقيقة فقر مدقع إذا ما قورن بالكمال المنشود دون غيره.
الذهن المنغلق على اللغة هو في أفضل حالاته سجن. فهو محدود بعدد الارتباطات التي يمكن أن تقدمها إليه اللغة في آن واحد، بينما يبقى جاهلًا بالأفكار التي تتطلب مزجًا لعدد أكبر منها. تقبع هذه الأفكار خارج اللغة ولا يمكن صياغتها رغم كونها في غاية القوة والوضوح ورغم كون كل ارتباط متضمن فيها يمكن التعبير عنه بدقة من خلال الكلمات. وهكذا يسير الذهن في فراغ منغلق من أنصاف الحقائق كبرت أو صغرت بدون أن يكون حتى قادرًا على لمح ما يقبع خارجه.
إذا ظل الذهن السجين جاهلًا بحقيقة سجنه فهو يعيش في الضلال. وإذا عرف هذه الحقيقة ولو لعشر ثانية ثم نسيها سريعًا ليتجنب المعاناة فهو يعيش في الباطل. يمكن للرجال الأكثر ذكاءً أن يولدوا ويعيشوا ويموتوا في الضلال والباطل. والذكاء بالنسبة لهم لا هو خير ولا ميزة. والفرق بين الرجال الأكثر والأقل ذكاء كالفرق بين مجرمين محكوم عليهم مدى الحياة في زنزانات صغيرة أو كبيرة. والذكي الفخور بذكائه كالمدان الفخور بزنزانته الكبيرة.
سيفضل من شعر أن ذهنه أسير أن يعمي نفسه عن هذه الحقيقة. أما إذا كان يكره الباطل فإنه لن يفعل ذلك؛ وفي هذه الحالة سيكون عليه أن يعاني كثيرًا. سيضرب رأسه إلى الجدار حتى يغمى عليه. سيقوم ثانية وينظر إلى الجدار برعب، وفي أحد الأيام سيعاود الكرة ويضرب رأسه إلي الجدار من جديد؛ وسيغمى عليه مرة أخرى. وهكذا بدون نهاية ولا أمل. حتى يستيقظ في يوم ما ويجد نفسه على الناحية الأخرى من الجدار.
ربما يكون ما يزال في سجن، ولكن أكبر. لا يهم. فقد وجد الحل؛ يُعرف السر الذي سيهدم به أي جدار. فقد تجاوز ما يسميه الناس بالذكاء إلى بدايات الحكمة.
لا يقدر الذهن المنغلق على اللغة أن يمتلك شيئًا سوى الآراء. أما الذهن الذي تعلم كيف يستوعب الأفكار التي لا يمكن التعبير عنها بسبب عدد ما تتضمنه من ارتباطات، رغم كونها أكثر قوة ووضوحًا من أي شيء يمكن التعبير عنه بأدق الكلمات، فمثل هذا الذهن قد وصل إلى نقطة تتجذر بالفعل في الحقيقة. يمتلك يقينًا وإيمانًا غير مشوب. ولا يهم مطلقًا إذا كان ذكاؤه الأصلي كبيرًا أم صغيرًا، ولا إن كانت زنزانته ضيقة أو واسعة. كل ما يهم هو أنه وقف على محدودية ذكائه كما كانت دائمًا وتجاوزها إلى ما وراءها. يقترب أحمق القرية من الحقيقة مثلما يقترب منها طفل عبقري. كلاهما لا ينفصل عنها إلا بقدر جدار. ولكن الطريق الوحيد للحقيقة لا يكون إلا من خلال إفناء الشخص لذاته؛ من خلال العيش لفترة طويلة في حالة من الهوان الشديد والكامل.
هو نفس الحاجز الذي يمنعنا من فهم المعاناة. وكما تختلف الحقيقة عن الرأي فإن المعاناة تختلف عن التألم. المعاناة وسيلة لتهشيم الروح؛ ويشبه من يسقط تحت وطأتها عاملًا سقط بين تروس آلة. لم يعد بشريًا وإنما خرقة ممزقة ومدممة على أسنان المتاريس.
تختلف درجة ونوعية التألم التي تكون المعاناة بمعناها الضيق من شخص لآخر على نحو كبير. تعتمد بالأساس على مقدار الحيوية التي يمتلكونها في البداية وعلى موقفهم تجاه التألم.
لا يستطيع الفكر البشري التسليم بحقيقة المعاناة. لأن التسليم بحقيقة المعاناة يعني أن يقول المرء لنفسه: «من الممكن أن أفقد في أي لحظة، من خلال تلاعب الظروف التي لا أملك أدنى تحكم فيها، أي شيء أمتلكه ومن ضمنها الأشياء التي أعتبرها، من مبلغ حميميتها، جزءًا من ذاتي. لا يوجد ما لا يمكن فقده. يمكن أن يحدث ذلك في أي لحظة فينمحي ما أكون عليه ويستبدل بأي شئ آخر بلغ ما بلغ من القذارة والحقارة».
وأن يختبر أحدهم هذا العمق من روحه هو أن يختبر عدم الوجود. فهي حالة من الهوان الشديد والكامل ولكنها شرطية للعبور إلى الحقيقة. إنها موت الروح. ولهذا فإن منظر المعاناة العاري يجعل الروح ترتعد مثلما يرتعد الجسد في حضور الموت. نحن نفكر في أمواتنا كثيرًا عندما نستدعيهم في ذاكرتنا أو حين نسير بين القبور أو عندما نراهم وقد وضعوا في نعوشهم كما يليق. لكن منظر جثث مبعثرة في ساحة حرب يمكن أن يبعث على الشؤم والتقزز. يثير الرعب. تنكمش الأجساد حين ترى الموت مجردًا.
حينما تُناظر المعاناة عن بعد سواء كان بعدًا فيزيقيًا أو ذهنيًا بحيث يمكن الالتباس بينها وبين التألم البسيط، فإنها تبعث في الأرواح الكريمة على إحساس صادق بالشفقة. ولكن إذا حدث وأظهرت لهم فجأة عريها وقوتها المفترسة، مثل تشوه في الروح أو مثل الجذام فحينها يرتعد الناس ويفرون. يشعر الذين يعانون أنفسهم بنفس الصدمة والرعب تجاه معاناتهم.
أن تستمع إلى أحدهم هو أن تضع نفسك مكانه بينما يتحدث. وأن تضع نفسك مكان شخص آخر تأكل المعاناة في روحه أو تكاد هو أن تفني نفسك. وهو أصعب من إقدام طفل سعيد على الانتحار. ولهذا لا يسمع الذين يعانون أحد. فهم يشبهون مقطوع اللسان الذي ينسى أحيانًا حقيقته تلك. لا تلتقط أي أذن أدنى صوت حين يحركون شفاههم. ومن ثم يغمرهم عجزهم على استعمال اللغة بسبب تيقنهم من أنهم غير مسموعين.
ولهذا ينعدم أمل الصعلوك حين يمثل أمام القاضي. فحتى لو استطاع من خلال تمتماته أن يطلق صرخة تنفذ إلى الروح فلا القاضي ولا الجمهور سيسمعونها. صرخته بكماء. والذين يعانون غالبًا ما يكونون صُمًّا بعضهم عن بعض؛ وكل منهم، مكبلًا بلا مبالاته الدائمة، يسعى من خلال إيهام نفسه أو من خلال النسيان إلى أن يكون أصمًا عن نفسه.
فقط من خلال الفعل السماوي للنعمة (grace) يمكن للروح أن تعبر إفناءها لنفسها إلى المكان الذي تستطيع بمفردها أن تكتسب ذلك النوع من الانتباه القادر على التيقظ للحقيقة والمعاناة. وهو نفس الانتباه الذي يستمع لكليهما. وهذا الانتباه الشديد، النقي، غير المغرض، المُهدَى، الكريم، اسمه الحب.
ولأن المعاناة والحقيقة كليهما يحتاج إلى نفس النوع من الانتباه قبل أن يمكن سماعه، فإن روح العدالة وروح الحقيقة واحدة. وما روح العدالة والحقيقة إلا نوع معين من الانتباه، هو الحب الخالص.
وبفضل القانون الأبدي المبارك فإن كل ما صنع بيد إنسان تحكمه روح العدالة والحقيقة، في شتى الأصقاع، يوهَب إشعاعًا من الجمال.
الجمال هو اللغز الأسمى في هذا العالم. هو بريق يجذب الانتباه دون أن يبذل جهدًا لإبقائه. دومًا ما يمنح الجمال وعودًا دون أن يعطي أي شيء أبدًا؛ هو يثير الجوع دون أن يشبع جزء الروح الذي يبحث عن قُوْته في العالم. هو يغذي فقط ذلك الجزء من الروح الذي يشخص ببصره. يؤكد بوضوح، بينما يثير الرغبة، على أن ليس فيه ما يُرغب، لأن الشيء الوحيد الذي نريده هو ألا يتغير. إذا لم يلتمس المرء وسيلة تجنبه العذاب المرير الذي يسببه الجمال، فإن الرغبة تستحيل حبًا بالتدريج. ويبدأ المرء في اكتساب ملكة الانتباه الخالص غير المغرض.
تتناسب بشاعة المعاناة مع الجمال الأسمى لتمثلاتها الحقيقية. يمكن للمرء حتى في الأزمنة الحديثة أن يشير إلى فايدرا، مدرسة الزوجات، الملك لير، أشعار فيلون؛ ويعلو على ذلك أمثلة أخرى مثل مسرحيات إسخيلوس وسوفوكليس ويعلو عليها أيضا الإلياذة وسفر أيوب وبعض أشعار الآباء؛ ويعلو عليهم جميعًا بكثير الكتابات التي تناولت الآلام في الأناجيل. ينير إشعاع الجمال المعاناة بنور من روح العدالة والحب، وهو النور الوحيد الذي يمكّن الفكر الإنساني من مواجهة المعاناة والتعبير عن حقيقتها.
يحدث أحيانًا أن جزءًا من حقيقة غير قابلة للتعبير عنها ينعكس في كلمات. كلمات تكون، رغم عجزها عن حمل الحقيقة التي ألهمتها، متوافقة مع هذه الحقيقة بدرجة من الكمال يجد فيها كل ذهن باحث عن هذه الحقيقة دعما وتأكيدًا. وكلما حدث ذلك، ينير العالم وميض من الجمال.
ينار كل ما يتأصل من الحب الخالص بإشعاع من الجمال.
يمكن للجمال أن تُدرك (تعبر المؤلفة عن الجمال بالمؤنث)، وإن كانت معتمة ومختلطة ببدائل كثيرة مزيفة، من داخل الزنزانة التي يسجن فيها كل الفكر الإنساني في البداية. وتعتمد كل آمال الحقيقة والعدالة عليها، وهي مقطوعة اللسان. فهي الأخرى بدون لغة، لا تتكلم، لا تقول شيئًا. لكن لها صوتًا تصرخ به. تصرخ وتشير إلى الحقيقة والعدالة البكماوتان، كمثل كلب ينبح ليجلب الناس إلى سيده الصريع في الثلج.
العدالة والحقيقة والجمال أخوات ورفيقات. وليس هناك من داعٍ، في وجود مثل هذه الكلمات الثلاث الجميلة، إلى البحث عن أي كلمات أخرى.
9
تحرص العدالة على ألا يصيب الأذى أي إنسان. عندما يصرخ إنسان في داخله قائلًا «لماذا حل بي الأذى؟» فإن الأذى قد حل به فعلًا. غالبًا ما يخطئ حين يحاول تحديد الأذى ولماذا حل به ومن المسؤول عنه. لكن الصرخة نفسها لا تخطئ.
أما الصرخة الأخرى والتي نسمعها دائمًا: «لماذا يمتلك شخص آخر أكثر مما أمتلك؟» فهي تتعلق بالحقوق. علينا أن نتعلم أن نفرق بين الصرختين وأن نفعل ما بوسعنا وبأقصى لطف ممكن لكي نهدئ من الصرخة الثانية، بمساعدة قوانين العدل والتحكيمات الدورية والشرطة. ويمكن تشكيل العقول القادرة على حل مثل تلك المعضلات في كليات القانون.
أما صرخة «لماذا حل بي الأذى؟» فهي تثير نوعًا مختلفًا تمامًا من المعضلات، التي لا يمكن الاستغناء في حلها عن روح الحقيقة والعدالة والحب.
في كل روح، لا تنقطع الصرخة التي تدعو بالنجاة من الشر. توجهها الصلوات إلى الله. لكن الله قادر أن ينجي من الشر فقط ذلك الجزء الأبدي من روح الذين وصلوه وصلًا حقيقيًا ومباشرًا. أما بقية الروح أو كلها لمن لم يتلق نعمة الوصل الإلهي الحقيقي والمباشر، فتكون تحت رحمة نزوات البشر ومخاطر الظروف.
ولذلك يقع على عاتق الناس أن يحموا بعضهم من الأذى.
عندما يلحق الأذى بإنسان، ينفذ الشر الحقيقي بداخله؛ ليس مجرد الألم ولا السقم ولكن الرعب الفعلي للشر. وكما يقدر الناس على نقل الخير فيما بينهم، يقدرون كذلك على نقل الشر. قد ينقل أحدهم الشر إلى الآخر عن طريق مدحه أو منحه وسائل الراحة واللذات؛ ولكن غالبًا ما ينقله واحد للآخر عن طريق إيذائه.
على كل حال، لا تتخلى الحكمة السماوية عن الروح وتتركها كلية تحت رحمة القدر ونزوات البشر. يؤجج الأذى الذي لحق بالإنسان جراء جرح خارجي عطشه للخير وبالتالي تظهر إمكانية الشفاء تلقائيًا. وإذا كان الجرح عميقًا كان العطش للخير في أنقى صوره. فجزء الروح الذي يصرخ قائلًا «لماذا حل بي الأذى؟» يكمن في أعمق مستوى ويظل منذ الطفولة الأولى، حتى عند أكثر الناس فسادًا، سليمًا تمامًا وبريئًا بالكامل.
الحفاظ على العدالة وحماية الناس من الأذى كله يعني في المقام الأول منع الأذى من أن يلحق بهم. ولمن لحق بهم الأذى بالفعل فهو يعني أن نمحو عواقبه المادية عن طريق وضعهم في ظروف يمكن فيها للجرح، إن لم يكن شديد العمق، أن يندمل على مهله بمفعول التعافي. أما من كان جرحهم هاتكًا للروح فهو يعني أولًا وقبل كل شيء أن نمنحهم الخير في صورته الخالصة لكي نسكن من عطشهم. يكون من الضروري أحيانًا أن نسبب الأذى لنثير العطش قبل تسكينه، وهذا هو منطق المعاقبة. فمن الناس من انفصل عن الخير لدرجة يسعون فيها إلى نشر الشر في كل مكان، ولا يمكن إعادة وصل هؤلاء بالخير إلا بإلحاق الأذى بهم. ويجب أن يستمر هذا الأذى حتى يستيقظ الجزء كامل البراءة في روحهم بالصرخة المفجوعة «لماذا يحل بي الأذى؟»، ويجب حينها تغذية الجزء البريء في الروح المجرمة حتى تتمكن من الحكم على الماضي المجرم وإدانته، وأخيرًا وبمساعدة النعمة (grace) أن تغفر له. وبهذا ينتهي العقاب؛ وُصِل المجرم بالخير من جديد، ويجب إعادة وصله علانية ورسميًا بالمجتمع.
وهذا هو مفهوم المعاقبة. فحتى حكم الإعدام، رغم أنه يستبعد الوصل بالمجتمع من جديد بالمعنى الحرفي، يجب أن يكون نفس الشيء. ما المعاقبة إلا وسيلة لجلب الخير الخالص لأولئك الذين لا يريدونه. وفن المعاقبة هو فن إيقاظ رغبة الخير الخالص داخل المجرم سواء بالألم أو حتى الموت.
10
لكننا فقدنا بالكامل المعنى الذي ترمي إليه المعاقبة. نحن لا نعي أن وظيفتها أن تجلب الخير للناس. وهي تنتهي بالنسبة لنا عند التسبب في الأذى. ولهذا لا يوجد ما هو أشنع من الجريمة في مجتمعاتنا الحديثة سوى شيء واحد وواحد فقط، ألا وهو العدالة القمعية.
وأن نجعل من العدالة القمعية دافعًا أساسيًا للحروب أو الثورات هو أمر خطير فوق التصور. من الضروري أن نستعمل التخويف كرادع ضد الجبناء ونشاطهم الإجرامي، ولكن فكرة أن تكون العدالة القمعية، بمفهومنا الجاهل عنها، دافعًا للبطولة لهو أمر مروع.
دائما ما يكمن وراء كل النداءات بالجزاء والعقوبة والقصاص والعدالة القسرية أمر واحد فقط ألا وهو أحط رغبات الانتقام.
مصير المعاناة والموت العنيف الذي اختاره المسيح لنفسه والذي عرضه مرارًا على من يحبهم، لا يعني لنا الشيء الكثير لدرجة تجعلنا نلقيه لمن لا نحفل بهم ونحن مدركون أنهم لن يفعلوا به شيئًا، ودون حتى أن نعزم على مساعدتهم ليكتشفوا قيمته.
قيمته للمجرمين هو المعاقبة الحقيقية، قيمته للذين غرست المعاناة أنيابها عميقًا في أرواحهم هي المساعدة التي يمكن أن تروي عطشهم من الينابيع السماوية، قيمته لباقي الناس هو إحساس بالعافية وقدر كبير من الجمال وحماية من هؤلاء الذين يقدرون على أذيتهم. قيمته في كل ميدان هو كبحٌ حازم للغو الأكاذيب والبروباجندا والآراء، وتشجيع على الصمت الذي تقدر فيه الحقيقة أن تنمو؛ وهذا هو الذي يستحقه الإنسان.
ولا يمكننا، لو أردنا أن نتأكد من حصوله عليه، أن نعتمد إلا على أولئك الذين تعدوا حاجزًا معينًا، قد يُعترض على ذلك بأنهم قليلون. قد يكونون قلة فعلًا ولكن على أي حال لا يمكن رصدهم بالإحصاء لأن أغلبهم غير ظاهر. يصل الخير الخالص من السماء إلى الأرض بكميات غير محسوسة، سواء في الروح الفردية أو في المجتمع بأكمله. فحبة الخردل هي «أصغر جميع البذور» (مت 13: 32). وبيرسيفون قد أكلت حبة واحدة من حبات الرمان. ولؤلؤة مدفونة عميقًا في الأرض تختفي عن النظر مثلما تختفي الخميرة في الخبيز.
ومثلما تعمل المحفزات والبكتيريا في الخميرة محدثة التفاعلات الكيميائية بمجرد وجودها، فكذلك أيضًا في عوالم البشر، تمارس بذور الخير الخالص غير المرئية دورًا حاسمًا حين توضع في المكان الصحيح.
وكيف توضع هناك؟
يمكن أن يحدثوا فارقًا كبيرًا أولئك الذين تتمحور وظيفتهم حول إرشاد العامة إلى ماذا يتوجب عليهم تقديره والإعجاب به، ماذا يأملون وماذا يكافحون من أجله ويسعون إليه. وسيكون تقدمًا عظيمًا لو أن حفنة من صانعي الرأي هؤلاء عزموا في أنفسهم على نبذ كل ما هو ليس خيرًا خالصًا وكمالًا وحقيقة وعدلًا وحبًا، نبذه قطعيًا وبلا استثناء.
وسيكون تقدمًا أكبر بكثير لو وعي الذين يمتلكون اليوم أي شذرات من سلطة روحية بواجبهم ألا يشجعوا في تطلعات البشر شيئًا إلا الخير الحقيقي في نقائه الأقصى.
11
حين نتكلم عن قوة الكلمات فغالبًا ما نعني قدرتها على الإيهام والتضليل. وتوجد رغم ذلك، وبفضل ترتيبات إلهية، كلمات بعينها تحوز بداخلها، إذا استخدمت كما ينبغي، فضيلة تنير الطريق تجاه الخير وتدفع إليه. وتلك هي الكلمات التي تحيل إلى الكمال المطلق والذي لا نستطيع استيعابه. وبما أن الاستخدام السليم لهذه الكلمات لا يهدف إلى ملاءمتها داخل أى مفهوم، فإنه في تلك الكلمات ذاتها وبصفتها تلك تقبع القوة التي تنير وتدفع. أما ما تحاول تلك الكلمات التعبير عنه فهو متجاوز لإدراكنا. الله والحقيقة هي من تلك الكلمات وكذلك العدالة والحب والخير.
استخدام تلك الكلمات أمر خطير. فهي كالمعضلة. فلكي يوفّى حقها يجب أن تستخدم بحيث يُتجنب الاشارة إلى أي شيء يمكن أن يدركه البشر وفي نفس الوقت يجب أن ترتبط بها الأفكار والأفعال التي تنبثق حصرًا ومباشرة من النور الذي تظهره. وإلا سرعان ما سيرى الجميع في هذه الكلمات مجرد أكاذيب.
تلك الكلمات لا يرتاح أحد في رفقتها. أما كلمات مثل الحقوق والديمقراطية والشخص فإنها أكثر رحابة ومن الطبيعي أن يفضلها حتى ذوو النوايا الحسنة من الذين يمارسون أدوارًا جماهيرية. ليس هناك أي معنى للأدوار الجماهيرية إلا إمكانية تحقيق الخير للناس، ومن يمارسون تلك الأدوار بنوايا حسنة يريدون تحصيل الخير لأقرانهم بالفعل، إلا أنهم غالبًا ما يقعون في خطأ توهم إمكانية تحقيق ذلك من خلال المساومات وسننها.
الكلمات التي تقع في الوسط (بين السماء والأرض)، مثل الحقوق والديمقراطية والشخص، تصلح في منطقتها تلك حيث توجد المؤسسات الاعتيادية. ولكن لإبقاء الإلهام الذي كانت المؤسسات كلها، و ستكون، إسقاطًا له، فإن ذلك يستلزم لغة مختلفة.
اندراج الفرد تحت الجمعي هو في طبيعة الأشياء مثل تصاغر الجرام مقابل الكيلوجرام في الموازين. ولكن قد يوجد من الموازين ما ترجح فيه كفة الجرام على كفة الكيلوجرام. يستلزم فقط أن يكون ذراع الكفة الأولى أطول بألف مرة من ذراع الثانية. تتغلب قوانين التوازن بسهولة على اختلال الأوزان. ولكن كفة الوزن الأصغر لن ترجح أبدًا على الوزن الأكبر ما لم تنظم قوانين التوازن العلاقة بينهما.
وعلى نفس المنوال، لا يوجد ما يضمن حماية الديمقراطية ولا الأفراد ضد الجمعي من دون توجه الحياة العامة لما يربطها بالخير الأسمى اللاشخصي وغير المرتبط بأي شكل سياسي.
صحيح أن كلمة شخص غالبًا ما تنطبق على الله. ولكن في النص الذي يقدم فيه المسيحُ اللهَ للناس كمثال للكمال الذي أمروا باتباعه، لم يستخدم صورة الشخص فقط ولكن، وفوق كل شيء، صورة المقام اللاشخصي: «لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات. فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين».
العدالة والحقيقة والجمال هي تمثلات عالمنا عن المقام اللاشخصي والإلهي في الكون. وكل ما هو أدنى من ذلك لا يستحق، لأولئك الذين يتقبلون حقيقة الموت، أن يتطلعوا إليه.
يجب أن تُخلق، فوق المؤسسات التي تعنى بحماية الحقوق والأفراد والحريات الديمقراطية، مؤسسات أخرى تهدف إلى كشف وإزالة كل ما يدفن الروح تحت الظلم والأكاذيب والقبح في حياتنا المعاصرة.
ولأنها غير معروفة، يجب أن تُخلق تلك المؤسسات خلقًا، ولا يسعنا أن نتشكك في مدى ضرورتها.
[1] مجموعة من المذاهب الفلسفية تشترك في اعتبار الشخصية الإنسانية مصدرًا للقيمة.
الترجمة خاصة بـ Boring Books
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا ما تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.