من جهة صلة الحب بالسلعة، لا يوجد فرق بين تجديد المرء لنذر زواجه، وقضاء شهر عسل جديد، وتركه لزوجه من أجل شخص جديد. ففي كل واحدة من هذه الحالات، يختبر المرء الاستياء المصاحب لتملك السلعة، ومن ثمّ يسعى إلى الحصول على شكل آخر من السلعة لكي يخفف من هذا الشعور بالاستياء وعدم الاشباع.

الرومانسية والحب الرأسمالي

تود مِجاوين

فصل من كتاب:

Capitalism and desire: the psychic cost of free markets (New York: Columbia University Press, 2016), pp. 176-196.

ترجمة: طارق عثمان

تود مِجاوين: أستاذ الفلسفة والتحليل النفسي والسينما، يدرّس حاليا نظرية الفيلم بجامعة فيرمونت بالولايات المتحدة.

كل ما بين قوسين حواشٍ للمؤلف نقلتها إلى المتن تسهيلًا على القارئ، أما حواشي المترجم فموجودة في نهاية المقال (المترجم).


عن scmp

حُبّ للبيع

حتى إذا كانت فكرة الزواج لم تعد رائجة على الإطلاق، إلا أن فكرة حب شخص آخر «إلى الأبد» ستظل رائجة على الأرجح.

يبدو الحب كما لو كان مكيدة رأسمالية. فإمكانية الوقوع في الحب والعملية المرتبطة بها بمثابة شريان الحياة للعديد من الشركات—تلك التي تبيع خواتم الألماس، والورود، وحلوى الشوكولاتة، والرحلات إلى باريس، وهلمّ جرًّا. لكن لا تتجلى الطرق التي يعود بها الحب بالربح على الرأسمالية في الرابع عشر من فبراير من كل عام (عيد الحب) فحسب. إذ من العسير أن ينظر المرء إلى السلع المعروضة في عالم اليوم من دون أن يبصر في كل واحدة منها تقريبًا بعض آثار استيهام (fantasy) الوقوع في الحب. فاشتراكات الجيم، والصودا الخالية من السكر، ومسكرة الرموش، والجواكت الجلدية، تشتمل جميعها على إمكان جعلنا جديرين بالحب. ربما لا يذهب أحد إلى الجيم بنيّة السعي إلى بناء جسد جدير بأن يُحَبّ، لكن حفاظ المرء على قوام جسدي لائق له علاقة باتخاذ الأخدان والحفاظ عليهم. ففرص أولئك الذين يتمتعون بقوام لائق أكبر من فرص غيرهم في هذا المضمار. (وجود المرايا في أنحاء صالة الجيم لا يشهد على الوضعية النرجسية لتمارين اللياقة البدنية وحسب، وإنما على تحويل الشخص نفسه إلى سلعة. فالمرء ينظر في المرآة أثناء التمرن وبعده من منظور الآخر المُعجَب وبعيونه، ينظر إلى نفسه باعتباره سلعة مرغوبة، محبوب محتمل).

وحتى إذا ما كنا غير لائقين بدنيًا وفرصتنا ضعيفة للغاية في الفوز بمحبوب حقيقي، فالرأسمالية توفر فرصًا لا حصر لها تقريبًا لاستيهام الوقوع في الحب. فكتّاب الروايات الرومانسية يبيعون الحب من خلال سياق استيهامي مستحيل. وحتى صُنّاع ألعاب الفيديو يعِدون المنبوذ اجتماعيًا بإمكانية بطولة من شأنها أن تجعله هو الآخر جديرًا بالحب. وكذلك تعدنا إعلانات البيرة بالدخول في علاقات حب إذا ما اخترنا البيرة الملائمة، وتطمئننا إعلانات المجوهرات بأن عرض الزواج الذي سنقدمة سيُقبل إذا ما اشترينا الخاتم المناسب (وحتى مطاعم الوجبات السريعة مثل ماكدونالدز لا تتورع عن استخدام إمكانية الحب في الدعاية لمنتج عديم الرومانسية كـ«التشيكن ناجيتس». فلا يوجد سلعة لا يمكن لها أن تتقاطع مع استيهام الحب). لا يبدو إذن أن هناك منطقة خالية من استيهام الحب في العالم الرأسمالي. وعلى الرغم من أن الحب قد ظهر في التاريخ البشري قبل ظهور الرأسمالية، إلا أن الأمر يبدو كما لو أن الرأسمالية قد اخترعت الحب ex nihilo، من العدم، وذلك بالنظر إلى الدرجة التي أضحى بها مفيدًا في تعزيز انغماس الذوات في علاقات الإنتاج الرأسمالية.  

ويتجلى تسلّع الحب بأوضح ما يكون في حالة خدمات المواعدة الغرامية. فخدمة المواعدة ليست مجرد ملاذ لأولئك الذين أخفقوا في الوقوع في الحب بمفردهم، وبالتالي هم بحاجة إلى من يمد لهم يد العون. وإنما هي تمثل نموذج (باراديم) الحب في النظام الرأسمالي. فبنيتها مهمة لدرجة أنه يكاد يكون من المستحيل أن نفهم طريقة عمل الحب ضمن الرأسمالية من دون فحص هذه البنية. فالمرء يتوجه إلى خدمة المواعدة بسبب يأسه، وهذا اليأس هو تحديدًا ما يعطي لخدمة المواعدة قدرتها على الكشف والتبيين.

يدفع المرء لخدمة المواعدة في مقابل إمكانية الوقوع في الحب. وعلى خلاف الجيم أو مِحل المجوهرات، تفتح خدمة المواعدة للمرء سبيلًا مباشرًا إلى الحب. فأنا أسجل في الخدمة على أمل أن أجد شخصًا يمكنني أن أقع معه في الحب، من دون أن أتكبد عناء الذهاب إلى الجيم لنحت جسدي، أو شراء العِقد المثالي الذي سيجعلني جديرًا بالحب. وهذه الطبيعة المباشرة لخدمة المواعدة، هي مصدر الخزي والحرج المرتبطين بها. لكن هذا السبيل المباشر الذي تفتحه خدمة المواعدة يكشف عن تسلّع الحب في ظل الرأسمالية على نحو أوضح مما تفعل الإعلانات الدعائية المحيطة بعيد الحب. وينبع هذا الوضوح من الطريقة التي تعرض بها خدمة المواعدة عملائها.

تطلب الخدمة من عملائها أن يحصوا صفاتهم المستحسنة. وعندما أكتب هذه القائمة، أصور نفسي كسلعة جذابة وجديرة بالحب. أنا أعرض نفسي على خدمة المواعدة أمام الآخرين لكي يفحصوني ويجربوني وربما يشتروني. ولكي أفعل ذلك، يتعين عليّ أن أحوّل نفسي إلى سلسلة من الصفات والتفضيلات، التي تلعب دور الإعلان عن نفسي والدعاية لها. والصفات التي تجعلني أكثر جاذبية كسلعة هي بالضرورة التي أشدد عليها وأبرزها، بينما أضرب صفحًا عن ذكر الصفات التي من شأنها أن تقلل من قيمتي التبادلية. فأشدد على خفة ظلي وعلى درجة الدكتوراه التي أحملها في الاقتصاد، بينما أتجاهل تمامًا ذكر صلعي ورائحة أنفاسي الكريهة. حتى تفضيلاتي تغدو جزءًا من تسلّعي. فحبي للخروج أو لمشاهدة الأفلام الكلاسيكية يساعد على جعلى أكثر جاذبية. إن تفضيلاتي تعلن عني تمامًا كما تفعل صفاتي. ويكشف هذا النحو من عرض النفس عن أن المرء يتعين عليه أن يحوّل نفسه إلى سلعة عندما يشرع في طلب الحب.

لكن خدمة المواعدة لا تطلب من المحبين المحتملين أن يكتبوا قائمة بصفاتهم وتفضيلاتهم الشخصية وحسب، وإنما تطلب منهم أيضًا أن يختاروا الأشياء التي يرغبون في أن تكون متوفرة في موضوعات حبهم. فبعدما أشترى حسابًا على خدمة المواعدة، يجب عليّ أن أكتب توصيفًا لرغباتي، وستسعى الخدمة إلى إيجاد الشخص المناسب. على سبيل المثال، أخبر الخدمة بأنني أفضل رجلًا أربعينيًا، بني العينين، يحب قراءة قصص الجريمة، ويلعب الشطرنج. وتمامًا كما أذهب إلى محل البقالة ومعي قائمة بالمشتريات التي أعتقد أنها ستلبي رغباتي، أمد خدمة المواعدة بقائمة الصفات التي أرغب في وجودها في خليلي. لكن على خلاف محل البقالة، أنا أذهب إلى خدمة المواعدة بحثًا عن الحب، وليس عن علبة آيس كريم من شأنها أن تمنحني إشباعًا خاطفًا سريع الزوال لرغبتي.

فالسلعة التي تبيعها خدمة المواعدة أكثر قيمة بكثير من السلع التي تبيعها محلات البقالة، وذلك لأنها سلعة تحمل معها وهم الإشباع الكامل. فلا أحد يعتقد أن أكل نوع بعينه من الآيس كريم سيمنحه إشباعًا دائمًا بحيث أنه لن يرغب قط في أكل الآيس كريم مرة أخرى، لكن الكثير من الناس في المجتمع الرأسمالي يعتقدون أن عثور المرء على توأم روحه سيحل مشكلة الرغبة في حبيب إلى الأبد. ويشهد هذا الاختلاف على الدور المحوري الذي يلعبه الحب ضمن الرأسمالية. فهو ليس مجرد سلعة بين سلع أخرى وإنما هو السلعة المركزية. وبوسع المرء أن يقول إن موضوع الحب، المحبوب، هو نموذج السلعة الذي نُسجت جميع السلع الأخرى على منواله وليس العكس. المحبوب ليس مجرد سلعة وإنما السلعة النموذجية، السلعة  par excellence.

(من الممكن بالطبع تصور الرأسمالية من دون وجود الحب الرومانسي في شكله الحالي، لكن لا يمكن تصورها من دون وجود أي شكل من أشكاله. فالحب الرومانسي هو الشرط الذي لا غنى عنه للعالم الرأسمالي، لأنه يمدنا بنسخة مؤمثلة من السلعة، نتعلم من خلالها كيف نقيّم كل السلع الأخرى؛ بما أن كل سلعة هي وعد بالإشباع والمحبوب الرومانسي وعد بإشباع مطلق).

لكن بالإضافة إلى فضح بنية الحب السلعيّة في العالم الرأسمالي، تمكّن خدمة المواعدة الأشخاص من تجنب الطبيعة الصادمة (traumatic)، أصالة، لملاقاة الحب. وقائمة الصفات الجذابة التي أمد بها خدمة المواعدة هي المفتاح لوظيفة الخدمة الأيديولوجية (وظيفة كل أيديولوجيا هي تمكين الأفراد من تجنب صدمة واقعية ما). فهذه القائمة تسعى إلى إزالة صدمة الحب (trauma of love) عن طريقة محو قوته غير المتوقعة، قدرته على مهاجمة المرء في أقل الأوقات مؤاتاة وفي أقل الأشكال توقعًا. فبالرغم من أنه قد يكون لكل منا صنف معين من الشخصيات نجده جذابًا، إلا أنه ليس من الضروري أن يكون الشخص الذي نقع في حبه منتمٍ لهذا الصنف بالذات. بل واقع الأمر، أن المرء قد يقع في حب شخص لا لأنه من الصنف الذي يجده جذابًا عادة وإنما لأنه ليس من هذا الصنف تحديدًا. وما تفعله خدمة المواعدة هو أنها تسعى إلى حجب الطبيعة غير المتوقعة للحب، عن طريق جعله متوقعًا تمامًا بواسطة قائمة الصفات المرغوبة التي نحددها بعناية. إن خدمة المواعدة تحول الحب من كونه مصدر إرباك لحياة الشخص إلى مصدر تثبيت لها.

(لا ينبغي للمرء أن يشعر بأنه معفي بطريقة ما من أيديولوجيا الحب الرأسمالية إذا ما كان متجنبًا لاستخدام خدمات المواعدة. فخدمة المواعدة تكشف فحسب عن المنطق الذي تتأسس عليه العلاقات الرومانسية بحد ذاتها في العالم الرأسمالي. وتتمثل قيمتها السياسية في الكشف التام عن هذا المنطق الذي كان سيظل، لولاها، محجوبًا بقدر ما. فمستخدمي خدمات المواعدة  ليسوا هم من يتعين عليه أن يشعر بالذنب، وإنما نحن الذين نتجنب استخدامها بغرض الحفاظ على وهم النقاء في الرومانسية. فأيادينا نحن هي الأيادي الملطخة حقًا بالدماء).

من المطالب الأساسية للدور الذي يلعبه الحب ضمن الرأسمالية، ديمومة المحبوب. فعلى الرغم من أن العديد من الناس يستخدمون خدمات المواعدة بحثًا عن شركاء جنسيين مؤقتين فحسب، إلا أن فكرة العثور على علاقة دائمة تلوح في أفق مستخدمي هذه الخدمات. فحتى إذا كانت فكرة الزواج لم تعد رائجة على الإطلاق، إلا أن فكرة حب شخص آخر «إلى الأبد» ستظل رائجة على الأرجح. والحال أن هذه الفكرة ليست فكرة أيديولوجيّة بشكل محض. فهي تعبّر عن قدرة الحب على إرباك مسار الحياة اليومية، وعلى إدخال الأبدي على المؤقت الزائل. لكنها تعبّر كذلك عن الوعد المتأصل في كل سلعة بالإشباع الدائم لرغبة المرء، وهو الوعد الذي لن توفي به قط.[i]

ومثل السلعة المعتادة، يدفع الحب المرء إلى العودة دائمًا من أجل الحصول على المزيد. فإما أن يسعى إلى إيقاظ جمرة الحب النائمة بينه وبينه خليله أو إلى العثور على خليل جديد بالكلية. فمن جهة صلة الحب بالسلعة، لا يوجد فرق بين تجديد المرء لنذر زواجه، وقضاء شهر عسل جديد، وتركه لزوجه من أجل شخص جديد. ففي كل واحدة من هذه الحالات، يختبر المرء الاستياء المصاحب لتملك السلعة، ومن ثمّ يسعى إلى الحصول على شكل آخر من السلعة لكي يخفف من هذا الشعور بالاستياء وعدم الإشباع. فالتجديد أمر لازم للإبقاء على الحب حيًا في العالم الرأسمالي، حتى لو تضمن هذا التجديد مجرد تنويع العلاقات مع نفس الشخص دون استبداله. إن منطق السلعة هو الذي يحكم نطاق الحب. فما يشتريه المرء لا يكفيه أبدًا، مهما كانت مزاعم مندوب المبيعات في خدمة المواعدة أو القس [المأذون] في يوم الزفاف.

والحال، أن وجود شكل أو آخر من خدمات المواعدة ليس بظاهرة حديثة العهد. فعلى الرغم من أنه لم يصبح للشادفن shadchan—سمسار الزواج (الخاطبة) اليهودي—موقع على الإنترنت إلا مؤخرًا، إلا أن نشاطه كسمسار زواج قد ظهر مبكرًا جدًا في التاريخ اليهودي المسجل. لكن خدمة المواعدة قد غيرت طبيعة الوظيفة التي يؤديها سمسار الزواج، تمامًا كما غيرت الرأسمالية المعاصرة طبيعة الحب. إن خدمة المواعدة بمثابة مجاز مرسل عن المجتمع الرأسمالي بحد ذاته [وعلاقته هي الجزئية، فخدمة المواعدة جزء من المجتمع الرأسمالي لكنها تعبر عنه ككل]. فعندما أتوجه إلى خدمة المواعدة، أنا أبتغي الحصول على الحب كسلعة معروضة للبيع، وهذا هو الشكل الذي يظهر فيه الحب في شتى أرجاء العالم الرأسمالي.

لكن حبًا يُشترى ليس بحب. وإنما رومانسية (romance). فبالرغم من أن الرأسمالية تعتمد، على ما يبدو، بشدة على الحب، إلا أنها تقتضي تحويله إلى رومانسية. وهذه هي العملية الأيديولوجية التي تنجزها الرأسمالية في نطاق الحب. فبتحويل الحب إلى رومانسية، وبالتالي إلى سلعة، توفر الرأسمالية ملاذًا من صدمة الحب. إن المجتمع الرأسمالي يحب أن يتكلم عن الحب، لكن في أثناء ذلك، يحوّل هذا الحب (الذي لا يمكن لنا أن نمتلك موضوعه) إلى رومانسية (التي يمكن لنا أن نمتلك موضوعها).

والتمييز بين الحب والرومانسية أمر مهم للغاية، إذا ما أردنا تحليل الجاذبية النفسية التي تتمتع بها الرأسمالية. إن الرومانسية تروض صدمة الحب لكن لا تمحيها بالكلية. فالرأسمالية تخص الحب بهذه المكانة المركزية، وتحض الأشخاص على تكريس الكثير من أوقاتهم له، لأن صدمة ملاقاة الحب تبث فيهم الحياة وتدفعهم على مواصلة المسير. فمن دون الإشباع الصادم الذي يمدنا به الحب، غالبًا ما تبدو الحياة لا تستحق أن تُعاش.[ii] لكن على الرغم من أن الرأسمالية تعتمد على الحب، إلا أنه لا بد لها من أن تحتوي تخريبيته وتخفف من صدمته، حتى يتسنى للنظام الرأسمالي الاستمرار في العمل. وهذا هو ما يرمي إليه تحويل الحب إلى رومانسية. وعليه، فمكيدة الرأسمالية ليست هي الحب وإنما الرومانسية. فالرومانسية تمكننا من مس تخريبية الحب لكنها تمكننا في نفس الوقت من تجنب جميع تبعاته الصادمة.[iii]

أن تحصل على ما لا تريده

لا يمكن للمرء أبدًا أن يمتلك حب الآخر، لأن المرء يحب في الآخر ما لا يمتلكه هذا الآخر أصلًا

كل من الحب والرومانسية يبدأ بالرغبة. إذ يرى المرء شخصًا آخر يستثير رغبته فيأمل أن يبادله هذا الآخر هذه الرغبة. والفرق بين الرومانسية والحب في هذا الصدد، هو أن الرومانسية لا تغادر قط نطاق الرغبة. فالشخص الذي يبتغي الرومانسية يرى في الآخر إمكانية تحقيق رغبته وبالتالي يختزل موضوع الحب، المحبوب، إلى مجرد موضوع للرغبة. وهذا هو السبب الذي يجعل الرومانسية تولد الاستياء وعدم الإشباع لا محالة.[iv]

الحب يربك الشخص لكن لا يصيبه بالاستياء والخيبة. ففي الحب، يمكن للمرء أن يجد الإشباع مع محبوبه. لكن الحب يُخرج الذات من نطاق الرغبة. فعلى الرغم من أن الحب يبدأ ضرورة بالرغبة إلا أنه لا ينتهي عندها. فعندما يقع المرء في الحب، ينجذب إلى طريقة متعة الآخر المحبوب نفسها، إلى إشباعه وشكل الفشل الذي يتخذه هذا الإشباع، أي تحققه رغم غياب الموضوع الذي من شأنه أن يحقق الرغبة. إن الحب يستهدف النقطة التي تتجاوز فيها الذات نفسها وتفقد هويتها. تقول جون كوبجيك «عندما يحب المرء شيئًا ما، فإنه يحب فيه شيئًا أكثر منه، يحب عدم تطابقه مع ذاته».[1] نحن نبتغي الحب لكي نفلت من قيود هويتنا الرمزية (الاجتماعية) ولكي نستمتع بانعدام هويتنا، بعدم تطابقنا مع أنفسنا. ففي الحب يهجر المرء نفسه.[v]

فعندما يقع المرء في الحب، يفقد كل إحساس بنفسه وبإحداثياته الرمزية (الاجتماعية). إن الحب ليس باستثمار جيد أبدًا للذات، الأمر الذي يفصله عن الرومانسية على نحو حاسم. وهذا هو السبب الذي يجعل الرأسمالية تحوّل الحب إلى رومانسية بالضرورة. وهذا التحول هو ما يمكننا من أن نحب بالرخيص، بثمن بخس. لقد أشار العديد من منظريّ الحب المُحدَثين، كجاك لاكان وآلان باديو، إلى تخريبية الحب المتأصلة فيه. لكن هذه التخريبية جلية منذ القدم، منذ تناول أفلاطون لمسألة الحب.

أول تنظير عظيم للحب موجود في محاورة الـ Symposium لأفلاطون. ففيها يطرح أفلاطون سبعة تأويلات مختلفة للحب، تعرضها شتى شخصيات المحاورة في خُطَبهم. وقد جرت وقائع المحاورة في وليمة معقودة على شرف أجاثون (الشاعر)، الذي فاز لتوه بجائزة عن واحدة من مسرحياته التراجيدية. إذ اقترح أحد الحضور، إريكسماكوس (الطبيب)، أن يلقي كل واحد خطبة في مديح الحب، عوضًا عن الانخراط في اللهو المعتاد. وانقيادًا لسقراط (الفيلسوف)، وافق الجميع على الاقتراح. وما يلي ذلك من المحاورة عبارة عن ستة تصورات عن الدور الذي يلعبه الحب في الوجود. وعندما يصل ألسيبايديس (المحارب، وعشيق سقراط) متأخرًا ويدخل الاضطراب على مجريات المحاورة، يضيف خطبة سابعة، بعد إلقاء سقراط لخطبته، بصفتها الكلمة الفصل في الموضوع على ما يبدو[vi]

ولقد أثارت بنية المحاورة الكثير من التخمينات حول الصوت المعبر عن رأي أفلاطون فيها. فعلى خلاف محاوراته الأخرى الأكثر بساطة التي تتبع مسار سردي (كـفايدو/عن النفس والجمهورية)، لا يوجد في هذه المحاورة تطور واضح من كل خطبة إلى التي تليها. فكل خطبة تبدو قائمة بذاتها، وصحيحة أصالة، والخطب التي تليها لا تشكك في هذه الصحة على نحو صريح غالبًا. وبالتالي من المغري أن نفترض أحد افتراضين، إما أن أفلاطون لا ينحاز إلى أي طرف من الأطراف، أو أنه ينحاز إلى سقراط، المتحدث الأخير على ما يفترض، وبديل أفلاطون، بالطبع، في أغلب الأحيان. لكن ترجيح الافتراض الثاني والقول بأن سقراط هو الذي يتحدث نيابة عن أفلاطون يعكر عليه الدور الذي يلعبه كل من ألسيبايديس وأريسطوفان في المحاورة. فألسيبايديس يقطع على سقراط خطبته ويزعزع موقعه كصاحب الكلمة الفصل في المسألة. والأهم، أن أريسطوفان، وليس سقراط، هو الذي يلقي الخطبة الأبرع والأبرز عن الحب. (يزيد وضع أفلاطون لخطبة آسرة عن الحب على لسان أرسطوفان من صعوبة تأويل المحاورة، وذلك بما أن أرسطوفان قد سخر صراحة من سقراط في مسرحيته الكوميدية الغيوم. وبالتالي قد يتوقع المرء أن ينتقم أفلاطون لنفسه من أرسطوفان بأن يضع على لسانه خطبة سخيفة، لكنه لم يفعل ذلك. وحتى إذا كان أفلاطون لا يتبنى التصور الذي يطرحه أرسطوفان عن الحب، وحتى إذا كان هذا التصور مغرقًا في خياليته، إلا أنه لا يمكن لأي أحد أن يغفل عن رنينه الاستعاري فيما يتعلق بتحربة الحب—فكرة توأم الروح، أو نصف المرء الثاني).

وعلى الرغم من أن الكثير من مفسري المحاورة قد ركزوا على الخطبة السقراطية التي تربط الحب بالمعرفة، إلا أن الشيء الأبرز في المحاورة ليس هو مضمونها بقدر ما هو شكلها، الذي يعد فريدًا بين محاورات أفلاطون. فمن خلال بنيتها الشكلية، تعطينا المحاورة مفتاح مضمونها. ففكرة الحب مُعبّر عنها من خلال الاضطرابات التي تحصل أثناء المحاورة. إن مفاتيح المحاورة لا توجد في أي خطبة من الخطب السبع وإنما في الانقطاعات التي تحدث فيها. وبتضمينه لهذه الانقطاعات في شكل المحاورة، وإعطائها دورًا بارزًا، يربط أفلاطون بين الحب نفسه والاضطراب. فالحب، بحسب أفلاطون، يقطع على الشخص حياته اليومية ويزعزع استقرارها. ويضعه في مواجهة ما لم يتوقعه.

أول انقطاع في المحاورة، يحدث بعدما ينتهي بوسينياس (المؤرخ والجغرافي) من خطبته ويعطي الكلمة لأرسطوفان. لكن الأخير لم يقدر على أخذ دوره بسبب نوبة فواق (زغطة). يقطع الفواق برنامج المحاورة المعلن، ويضطر أريسطوفان للتأخر وإعطاء دوره لأريكسامكوس. وشفت خطبة أريكسامكوس، وهو الطبيب، أريسطوفان من فواقه، كما توقع بالفعل، وأضحى قادرًا على التحدث بإسهاب بعدما انتهى أريكسامكوس من حديثه.

ويحدث الانقطاع الثاني قرب نهاية المحاورة، بعدما يلقي سقراط ما نظن أنها الخطبة الأخيرة. فبمجرد ما يختم حديثه، يأتي ألسيبايديس مخمورًا وصائحًا ليلحق بالمجلس. وعاجلًا يقنع أريكسامكوس ألسيبايديس بأن يلقي خطبة كما فعل الآخرون. وبالرغم من موافقته، يغير ألسيبايديس الشروط الحاكمة للخطب. فعوضًا عن أن يمدح الحب، سيمدح حبيبه سقراط نفسه. ويصور هذا المديح (الذي ينطوي على قدر كبير من الذم) سقراط، حتى لو لم يكن ألسيبايديس واعيًا بذلك، كشخص عاجز عن الحب. وبذلك يختم أفلاطون محاورته بمثال على فشل الحب.

فعلى طول خطبته، يجهر ألسيبايديس برغبته الشديدة في سقراط، ومع ذلك لا يبادله سقراط قط رغبته. وما يجعل سقراط عاجزًا عن الحب، على الرغم من كل مساعي ألسيبايديس لإغوائه، هو طبيعة رغبته. فكما يصوره أفلاطون، سقراط تجسيد للنقاء والطهر، وطهره هذا هو ما يحول بينه وبين الحب. (يتجلى طهر سقراط، كما هو مشهور، في علاقته بألسيبايديس. فكما يقول عنه الأخير: «وهو لا يرغب كثيرًا في شرب الخمر، لكنه إذا ما اضطر لذلك، بمقدوره أن يشرب أكثر منا جميعًا. ومع ذلك، ويا للعجب، لم يره أحد مخمورًا قط».[2] ويشبه عجز سقراط عن السُكر عجزه عن الحب، بما أن كليهما يتضمن إسلام المرء نفسه إلى الآخر). وأثناء مديحه لسقراط، يشدد ألسيبايديس مرارًا وتكرارًا على طهر سقراط، يقول في أحد المواضع: «صدقوني، هو لا يعبأ على الإطلاق بجمال الغلام من عدمه. لا يمكنكم أن تتصوروا قدر لامبالاته بجمال الشخص أو غناه أو شهرته أو غير ذلك مما يعجب الناس. فكل ذلك غير جدير، في نظره، ولو حتى بالاحتقار، وهذه هي بالضبط نظرته إلينا جميعًا».[3] إن سقراط لا يعلّق نفسه بأي شيء، ويرفض كل موضوعات الرغبة التي يسلم الآخرون أنفسهم لها. فكتجسيد للنقاء، يتجنب سقراط الاستسلام للآخر وتحديدًا للإرباك الذي يدخله الآخر على الذات، لكن القدرة على الاستسلام لتخريبية الآخر هذه هي الشرط اللازم للوقوع في الحب، لذلك سقراط عاجز عن الحب (بالطبع ليس بمقدور أحد أن يبلغ هذه الدرجة من النقاء، لكن دعونا لا ننسى أن سقراط من اختراع أفلاطون وليس شخصًا حقيقيًا).[vii]

سقراط، عن Indpenedent

ويختم أفلاطون المحاورة بسقراط منصرفًا عند شروق الشمس بينما يخلد جميع محاوريه إلى النوم. ويؤكد هذا المشهد الأخير من المحاورة على نقاء رغبة سقراط وعلى خروجه من نطاق الحب. وبينما يصور ألسيبايديس سقراط كعاجز عن الحب، إلا أنه يؤكد في خطبته على قدرة سقراط على تخريب حياته اليومية وجعلها لا تطاق. بالرغم إذن من أن ألسيبايديس يختتم المحاورة بتوصيف لفشل الحب، إلا أنه يؤكد مزيدًا على الإرباك، الذي يتجلى في شكل انقطاعات، على مدار المحاورة. فعند أفلاطون، يكمن الحب في الإرباك.

تحدث الانقطاعات التي تشوش خطب الحب على مستوى الشكل في المحاورة. لكن مضمون المحاورة يشير هو الآخر إلى أن الاضطراب مكون أساسي في الحب. فلا واحد من خطباء أفلاطون يختزل الحب في صورة التناغم والانسجام بين حبيبين، وهو ما يفصل بين فكرته عن الحب وفكرة الرومانسية الرأسمالية. حتى خطبة أريسطوفان، التي تبدو كنُصب للتناغم، تبين في واقع الأمر ضرورة انعدام التناغم في الحب. يصف أريسطوفان الحب بأنه عثور المرء على نصفه الثاني، الذي فقده بعدما شطر زيوس البشر إلى نصفين، لأنه وجدهم مفرطي الرضا عن أنفسهم المكتملة. لكن كما يشير خوان بابلو لوتشيلي بفطنة، أريسطوفان لا يشدد في خطبته على تحقيق المرء للتكامل التام مع نصفه الثاني (الحب باعتباره عثور على توأم الروح)، وإنما على القطع، الشطر الذي يدفعه إلى البحث عن المحبوب ابتداءً. إن القطع وما يحدثه من انعدام للتناغم أمر أساسي في رؤية أفلاطون عن الحب.

وهذا التشديد على انعدام الانسجام موجود في المحاورة كلها وليس في خطبة أريسطوفان فحسب. فعلى الرغم من أن التناغم يظهر بشكل أو بآخر في كل خطبة، إلا أن التشديد يكون دومًا على انعدام التناغم. فبحسب لوتشيلي «لا يوجد موضع واحد في المحاورة يُمحى فيه انعدام التناغم بين المحب ومحبوبه بالكامل. فالمحاورة برمتها تدور حول هذه الفجوة بين الحبيب والمحبوب، وللمرء أن يفترض أن أفلاطون ظل يدور حول هذه الفجوة حتى نهاية المحاورة، حيث دفع تدخل ألسيبايديس بانعدام التناغم هذا إلى حدوده القصوى».[4] ويترك انعدام التناغم في الحب المُحب في وضعية ارتباك دائم، لكن هذا الارتباك هو تحديدًا مصدر الاشباع التي يجده المرء في الحب. فالمحب يستمتع بعجزه عن تثبيت علاقته بمحبوبه وجعلها مستقرة، وهذه هو ما يبينه أفلاطون في محاورة الsymposium. إنها أول رسالة عظيمة تتناول الحب لأنها أول رسالة عظيمة تتناول تخريبية الحب.[viii]

لا يمكن للمرء أبدًا أن يمتلك حب الآخر، لأن المرء يحب في الآخر ما لا يمتلكه هذا الآخر أصلًا (يحب فيه شيئًا أكثر منه، شيء لا يمكن تعيينه، شيء مفقود). وحتى عندما يبادلنا الآخر رغبته، ويرغب فينا، يظل شيء فيه خارج عن سيطرتنا. ولو تمكن المرء من أن يُخضع آخرية الآخر المحبوب وأن يسيطر عليها بالكلية، لن يعود هذا الآخر محبوبًا على الإطلاق. وعليه، من شأن الحب الناجح أن يدمر موضوعه في عين اللحظة التي يتمكن فيها من تحقيق النجاح الكامل (بتملك المحبوب ومحو آخريته). إن الحب دائمًا ما يجعل المرء يشعر بأن حبه قد فشل أو بأنه ناقص، لكن هذا الشعور بالفشل والنقص دليل على تحقق الحب لا على غيابه.

أشجار الرومانسية وغابة الحب

بينما طرح أفلاطون تنظيرًا مدهشًا عن تخريبية الحب، لا يفرق معظم المفكرين في العالم الرأسمالي بين الحب والرومانسية. حتى كبار المفكرين المضادين للرأسمالية يسقطون غالبًا في هذا الفخ. وعلى الرغم من أنهم يفطنون لتخريبية الحب إلا أنهم يغفلون عن الإشباع الذي يجده المرء في هذا التخريب. فعند هؤلاء المفكرين، الحب مستحيل أصالة، لأنه لا يوفي أبدًا بالتناغم الذي يَعِد به. فعندما نفكر في الحب من وجه نظر رومانسية، يغدو فشله جليًا، لكننا لا نتفطن إلى أن الفشل هو الشكل الذي يتجلى فيه نجاح الحب، وهذا هو تحديدًا ما تفطن له أفلاطون على طريقته.

شغلت مشكلة الحب هذه جان بول سارتر، وقد بينها على نحو بليغ في فصل «العلاقات الحسية مع الآخرين» من كتابه الوجود والعدم. فبحسب سارتر، يورط الحب المُحب بالضرورة في تناقض يصعب التعامل معه. يقول: «الحب مسعى متناقض... فأنا أطلب أن يحبني الآخر وأفعل كل ما بوسعي حتى أحقق هدفي؛ لكن لو أن الآخر أحبني بالفعل فسيخدعني بواسطة هذا الحب نفسه. فأنا أطلب منه أن يتعامل مع وجودي كموضوع ذي حظوة بأن يواجهني كذات خالصة؛ لكنه بمجرد ما يحبني يتعامل معي كذات ويواجهني كموضوع خالص».[5]  ما يصفه سارتر هنا هو استحالة الحب المنسوج على منوال المثال الرأسمالي المتمثل في مراكمة السلع. فهو لا يرى كيف أن الحب قد يحقق المستحيل ويمكّن المحب من مواجهة محبوبه كذات محبة. فالحب تناقض، لكنه يحدث على الرغم من ذلك. لكن سارتر لا يراه إلا كاستحالة أنطولوجية وذلك لأنه لا يتصور الحب إلا كرومانسية (بالرغم من أن سارتر من أكبر المفكرين المضادين للرأسمالية في العصر الحديث، إلا أن رفضه لفكرة اللاوعي يقوض باستمرار قدرته على التفكير خارج نطاق الرأسمالية. وموقفه من الحب مثال نموذجي على ذلك، وحياته الشخصية خير شاهد. لقد تعامل مع الخليلات كسلع تُمتلَك، وتُستَبدل بغيرها عندما لا تعود مشبعة. ونظريته الفاشلة عن الحب الضروري مع سيمون دو بوفوار والعرضي مع غيرها بمثابة محاولة لفصل سلوكه هذا عن منطق السلعة التي ترتكز عليه).

تزيل الرومانسية الموضوع المفقود (أي المحبوب كموضوع لا يمكن امتلاكه) من الحب وتستبدله بموضوع الرغبة (أي المحبوب كموضوع يمكن امتلاكه). بالطبع يحدث هذا الفرار من الموضوع المفقود، ومن الفقد بحد ذاته، في شتى أنحاء العالم الرأسمالي، لكنه يتجلى بأوضح ما يكون في نطاق الحب. ففي علاقة الحب لا يمكنني أن أمتلك موضوع حبي، وإنما أنا أحبه من خلال افتقاده تحديدًا. إذ ثمة شيء ناقص في الحب على الدوام، وهذا النقص هو تحديدًا ما يمكّن علاقة الحب من الاستمرار في الوجود. ففي الحب، يواجه المحب نقص المحبوب، يطّلع على تناقض هذا المحبوب مع نفسه. وهذا التناقض، هو تحديدًا ما يدفع المرء للوقوع في حب محبوبه. فالموضوع المتطابق مع نفسه في الظاهر، كدمية جنسية، لا يصلح لأن يكون موضوعًا للحب لأنه يفتقر إلى ذلك الانقسام على الذات، ذلك الانشطار الذي يجعل الحب ممكًنا (لكن يحدث عكس ذلك على ما يبدو في فيلم Lars and the real girl (جريج جليسبي، 2007)، حيث يقع لارس (ريان جوزلينج) في حب دمية جنسية. وبالرغم من أن جميع شخصيات الفيلم كانت تجاريه وتعامل الدمية كفتاة حقيقية، إلا أن لارس نفسه قد تخلى عنها في نهاية المطاف لعدم صلاحيتها كموضوع للحب. إن الدمية الجنسية كاملة لدرجة تجعلها غير صالحة لأن تُحَب، وهذا هو نفس السبب الذي برر به جيف في Rear Window (ألفريد هيتشكوك، 1954) لستيلا، ممرضته الفيلسوفة، عدم رغبته في الزواج من ليزا: «إنها مفرطة الكمال»).

فالذوات المتكلمة قادرة على الحب لا لأنها أكثر تفوقًا من الكائنات الأخرى وإنما لأن اللغة تجعل انقسامها على نفسها جليًا. إن المرء يحب في محبوبه فشله في تحقيق تطابقه مع نفسه وليس صفة محددة فيه (إلا إذا كانت هذه الصفة تجسيدًا لهذا الفشل). وهذا هو ما يجعل الشخص الغارق في الحب بحق عاجزًا عن تعيين أسباب الحب الذي يشعر به. وبمجرد ما يستطيع تعيين هذه الأسباب يكون قد خرج من الحب ودخل في الرومانسية. فانقسام المحبوب على ذاته، أي نقصه، هو سبب الوقوع في حبه. وهذا ما يخرجه بالكلية من نطاق السلعة التي تعد بالوفرة والإشباع ثم تنكث بوعدها ولا تترك للمحب إلا النقص وخيبة الرجاء. لكن في الرومانسية، يعود المحبوب إلى نطاق السلعة، ويغدو في متناول اليد، لكنه يفقد، في نفس الوقت، النقص الذي كان يتمتع به في نطاق الحب. إن الرومانسية تحوِّل انقسام المحبوب على نفسه إلى صفة إيجابية قابلة للتمييز، يمكن لخدمة المواعدة أن تجليها وتستهدف بها المحب المحتمل.

يسعى تحويل الحب إلى رومانسية إلى الإبقاء على الحب في نطاق الرغبة والاستيهام. حيث نتنقل بين هذين الاثنين، بينما نتجنب صدمة الوقوع في الحب. ويتعلق الفرق بين الرغبة والحب باستجابة المحبوب. فبقدر ما نرغب من دون أن نحب بقدر ما نظل على بر الأمان. إذ يمكننا أن نبتغي الموضوع المفقود عن طريق تملك سلسلة من بدائله غير الكافية، وتحمّل الاستياء الذي يعقب تملك كل واحد منها بنجاح، سواء كان ذلك على السرير أو في المول.

إن الرومانسية، وعلى عكس الحب، لا تسمح للمحب بأن يلاقي محبوبه بما هو كذلك. فبمجرد ما يصير المحبوب سلعة بمقدور المحب أن يمتلكها، لا يعود، ويا للمفارقة، في متناول اليد. فككل سلعة أخرى، يعِد المحبوب الرومانسي بما لا يقدر على التوفية به. فحتى إذا ذهب المرء إلى خدمة المواعدة مسلحًا بقائمة شافية ووافية بتفضيلاته، ستصيبة السلعة التي سيحصل عليها لا محالة بالاستياء والخيبة. ومن هذه الجهة تحديدًا، لا يوجد فرق بين الخليل الرومانسي والمكنسة الكهربائية.

في كتابه الحب في العالم الغربي، كتب ديني دو روجيمو أول تنظير عن التمييز بين الحب والرومانسية. وبالرغم من أنه لم يتناول الرومانسية كسلعة صراحة إلا أن تأطيره لهذا التمييز بمثابة بادرة على الربط بين الرومانسية ومنطق الرأسمالية. فبحسب روجيمو، نحن نؤثر الرومانسية على الحب حتى نبقي على رغبتنا حية. يقول: «ما لم يتعطل مسار الحب لن يكون هناك (رومانسية)؛ ونحن نجد متعتنا في الرومانسية—أي في إرجاء ألم الحب».[6] الرومانسية هنا هي العائق الذي يقف في طريق الحب، هي ما يعطل تحققه. إن الرومانسية، كما يراها روجيمو، تمكننا من الاستمرار في الرغبة ومن تجنب فعل الحب. وبتحويله للحب إلى رومانسية، يمكننا المجتمع الرأسمالي من مواصلة الرغبة. حيث يمكننا معاملة المحبوب كما نعامل أي سلعة أخرى وبذلك نفر من خطره غير المتوقع. (ولعل أهم تبصر في كتاب روجيمو هو اعتباره أن الحب سابق على الرأسمالية. وعلى الرغم من أنه لم يذكر الرأسمالية بالاسم، إلا أنه يبتدئ تاريخ الحب قبل ظهور الرأسمالية بوقت طويل، ويبين في نفس اللحظة كيف غيرته الحداثة الرأسمالية). 

نحن نميل إلى اعتبار الزواج الأحادي ضربًا من الكبت الذي يفرضه علينا المجتمع الرأسمالي، إلا أن المرء يكاد يميل إلى اعتباره ممارسة ضد رأسمالية. فالشخص الذي يتنقل من موضوع رغبة إلى آخر في الحياة الرومانسية هو الذي يتّبع منطق المراكمة. وحتى إذا ما تجنب هذا الشخص الوقوع في حبائل الاستيهام الرأسمالي (الكيفي) المتمثل في الاعتقاد في أن ثمة موضوع رغبة واحد يملك كلمة السر، موضوع واحد من شأنه أن يحقق الاشباع الكامل، فإنه سيقع في حبائل الاستيهام الرأسمالي (الكمي) المتمثل في الاعتقاد في أن الحصول على أكبر عدد ممكن من موضوعات الرغبة من شأنه أن يحقق الإشباع الكامل. لكن الحب، وعلى النقيض من الرومانسية، لا يقدم للشخص أي شيء يمكن مراكمته. فالحب لا يزيد من ثروة الشخص وإنما يُنقِص منها عوضًا عن ذلك (ويتجلى بؤس هذا الاستيهام الكمي في خاتمة أجلّ روايات باتريشا هايسميث، The cry of the owl،  نعيق البومة. تنتهي الرواية باتهام كريج بالقتل وباحتمالية إعدامه. لكن أثناء توضيح موقفه لرجال البوليس، شدد على أنه قد ضاجع نيكي مرتين، بالرغم من أن هذه المعلومة لن تساعد بمثقال ذرة على تبرئة ساحته من التهمة. إن كريج يلّوح بفتوحاته الجنسية كما لو كانت وسام شرف يزين صدره. فهي تدل عنده أنه قد نجح في مراكمة موضوع رغبة مشبع، لكن لا مبالاة رجال البوليس التامة بمعلومته، تفضح حماقة وجهة النظر هذه).

رحلة خارج حدود النرجسية

الحب اقتراب. يأبى المحب أن يبقى على مسافة آمنة من المحبوب، ويمطره عوضًا عن ذلك بطرق متعته الخاصة، التي يتعين على المحبوب أن يتأقلم معها.

على مدار معظم دروسه، هاجم جاك لاكان الحب بصفته وهمًا نرجسيًا. فعندما يُحِب الشخص، يضع الآخر المحبوب في نفس الموضع الذي تحتله الأنا في العلاقة النرجسية. فالنرجسية والحب كليهما يمكنان الشخص من الالتفاف على السلطة الاجتماعية بينما هو لا يزال داخل نطاقها في واقع الأمر. فمن خلالهما يشعر المرء بالحرية من دون أن يكابد الزلزلة التي تحدثها الحرية الحقة من تحت قدميه. وبالرغم من أن لاكان يفتح الباب لإمكانية وجود استثناء، إلا أنه يقول، على نحو معبّر عن موقفه العام، «شرط نوال الحب هو أن يظل نرجسيًّا على الدوام».[7] فالمرء يحب شخصًا آخر، إلا أنه، في واقع الأمر، يحب نفسه من خلال هذا الآخر. بالطبع لا أحد يشعر بأنه نرجسي عندما يحب، لكن ذلك ليس سوى نتيجة لخداع الحب. ومع ذلك، ليست النرجسية كلمة لاكان الأخيرة في الحب.

فحتى إذا كان الحب يضع الآخر المحبوب في موضع الأنا، تظل علاقة الحب أشد عسرًا وتقلقلًا من العلاقة النرجسية. ففي نهاية المطاف، النرجسية علاقة مخيبة، لا يمكن للشخص تحملها إلى الأبد، لكن الآخر المحبوب يزعزع الشخص المحب على نحو لا يمكن للأنا فعله. فليس الأنا سوى صورة، صورة مثالية رسمها الشخص لنفسه، لكن في الحب صورة الآخر ناقصة على الدوام. فالآخر المحبوب يظل قادرًا على إيقاد نار الحب في محبه بقدر ما يظل غير قابل للاختزال في صورته التي رسمها المحب له.

في البداية، يستثير عدم قابلية الآخر للاختزال في صورته رغبتنا. فنحن نرغب فيما لا يمكننا رؤيته في الصورة (رغبة المحبوب) على أساس ما يمكننا رؤيته فيها. أي أن الموضوع المحبوب لا يظل مجرد موضوع مرغوب. فرغبتنا تستثير رغبة المحبوب، ويتضمن الحب تلاقي هاتين الرغبتين المتقاطعتين. وتحول ملاقاة رغبة المحبوب هذه الحب إلى تجربة مغايرة لتجربة الرغبة. فالرغبة تمكن المرء من أن يظل على مسافة من المرغوب لكن الحب يمحي هذه المسافة. وفي ذلك، تكمن راديكالية الحب مقارنة بالرغبة.

واستجابة المحبوب هذه هي مصدر تخريبية الحب. ففي الحب، يرتد نحونا ما لا نستطيع رؤيته في صورة الآخر. هذه هي الفكرة التي طرحها لاكان في الدرس الذي خصصه لظاهرة التحويل في العلاج النفسي (وللتعليق على محاورة الـSymposium)، وهو الدرس الذي يتضمن أطول مناقشاته لمسألة الحب. يقول: «الحب هو ما يمر، من خلال رغبتنا، إلى الموضوع الذي نبسط أيدينا إليه، وما يسمح، عن طريق استثارة رغبتنا لرد فعله، ولو لوهلة، بظهور هذه الاستجابة، هذه اليد المبسوطة إلينا كرغبة».[8] بينما تلاقي الرغبة طيف موضوعها في الموضع التي كانت تتوقع أن تلاقيه فيه، يلاقي الحب ما لم يتوقع أبدًا أن يلاقيه (في السيمينار رقم 12، طرح لاكان النسخة الأشد صقلًا مما سيغدو تعريفه الكلاسيكي للحب الحقيقي: «الحب هو أن تعطي ما لا تملكه... لمن لا يحتاجه»).

وتطوح استجابة المحبوب—«اليد المبسوطة إلينا»—بالمحب من وجوده اليومي. وليس بمقدور المرء أن يتوقع اللحظة التي ستحدث فيها هذه الاستجابة التي ستزلزل وجوده، ولا أن يجعلها تحدث عنوة، لذلك تبدو كما لو كانت معجزة علمانية. فاستجابة المحبوب لرغبة المحِب تجبر الأخير على تغيير حياته بالكلية من دون أية إرشادات واضحة تهديه إلى الطريقة التي ينبغي أن يحدث وفقها هذا التغيير. وبقدر ما يقضي الحب على إمكانية عيش حياة العادية، بقدر ما يخنق المُحب بالإشباع. ولا تعود الحياة تمضي وحسب.

الحب اقتراب. يأبى المحب أن يبقى على مسافة آمنة من المحبوب، ويمطره عوضًا عن ذلك بطرق متعته الخاصة، التي يتعين على المحبوب أن يتأقلم معها. وطرق الإشباع هذه هي ما نجفل منه على الدوام تقريبًا، لكننا نحتضنها عندما نحب. وهذا هو السبب الذي يمكّن المحبين من مرافقة بعضهما في أشد اللحظات خصوصية: أن يحكي كل منهما للآخر أحلامه الأشد كشفًا، وأن يسمح كل منهما للآخر بالدخول معه إلى الحمام. إن ما من شأنه أن يُبعد أو يُنفر أي شخص آخر يغدو أساسيًا للمحبين في علاقة حبهما.

نحن نعرف أن شخصًا ما غارق في الحب عندما يحوّل معايب محبوبه إلى محاسن،[xi] فالرائحة الكريهة أو الثياب الرثة أو عادات الأكل المقرفة تصير عادات غريبة جذابة وليس أسباب تدعو إلى الابتعاد والنفور. إن المحب يحتضن خصال محبوبه الأشد تنفيرًا ويعاملها كمؤشرات على قيمة هذا المحبوب. فالرائحة الكريهة الناتجة عن ترك الاغتسال، على سبيل المثال، تصير مؤشر على احتقار المحبوب للطقوس اليومية الهوسية التي يضيع فيها الآخرون أوقاتهم. ولا يوجد خصلة، مهما كان الناس مطبقين على أنها منفرة، إلا ويمكن أن تمر بهذا التحول بفعل الحب: السمنة يمكن أن تغدو غضاضة وبضاضة، والضمور يمكن أن يغدو لياقة ورشاقة، والثياب الرثة يمكن أن تغدو موضة فريدة، وهلم جرًا. إن الحب، وعلى عكس الرغبة، يعتمد على احتضان ما لا يُرغب في شخص المحبوب. (وبالمثل، أول دليل على أن الشخص قد خرج من الحب، هو أن خصال محبوبه المنفرة تستعيد طبيعتها الأصلية مرة أخرى. حصل لي ذلك عندما بدأت أنفر من ندبة ظاهرة في وجه خليلتي، بينما كنت أعتبرها قبل ذلك علامة على فرادتها. لسوء الحظ، احتجت لعامين كاملين لكي أشعر بهذا النفور، وعندها انتهت العلاقة).

في كتاب الوجود والحدث، وفي غيره من كتبه، يرقي ألان باديو الحب إلى مرتبة الحدث (event)، إذ يعدّه ضمن ما يسميه بمنتجي الحقيقة الأربعة: السياسة والفن والعلم والحب. لكن وجود الحب في هذه القائمة أمر مثير للاستغراب. فعندما يقرأ المرء كتاب الوجود والحدث للمرة الأولى، ينتابه شعور بأن تنظير باديو حول حدث الحب بمثابة زلة فلسفية، بأن باديو قد سمح لعواطفه أن تؤثر بدرجة مفرطة على فلسفته. بالطبع من حق باديو أن يعجب بشعور الوقوع في الحب، لكن ذلك لا يبرر له اعتباره منتجًا للحقيقة.

فعلى خلاف كل من السياسة والفن والعلم، يبدو الحب ظاهرة انفرادية. فليس لحدث حب ما—علاقة فلان بفلانة على سبيل المثال—تأثيرًا عالميًا وتاريخيًا كالثورة الفرنسية (حدث سياسي) أو ابتكار طريقة الاثنتي عشر نغمة في التأليف الموسيقي مع هاور وشونبيرج (حدث فني). فحتى أشد أحداث الحب لفتًا للانتباه، كعلاقة إلويز وأبيلار، لا يمكنها أن تسفر عن تغيرات كبرى كتلك التي أسفر عنها اقتحام سجن الباستيل.[xii]

لكن باديو يضع الحب إلى جانب السياسة والعلم والفن، لأنه قادر على تخريب الحياة اليومية، وعلى استثارة ولع الشخص واتقاده (وهما نفس الشيء بمعنى ما). قد يكون الحب منتج غريب للحقيقة، لكن لعله كذلك لأنه المنتج النموذجي للحقيقة. فالاضطراب الذي يدخله الحب على حياتنا اليومية أكثر ملموسية وحسية من ذلك الذي يدخله كل من السياسة والعلم والفن عليها. فالمحب يشعر كما لو أنه لا يستطيع أن يعيش من دون محبوبه، وهو شعور لم يشعر به جاليليو نفسه حيال الحدث العلمي الذي انخرط فيه. ومن الأيسر أن نتحيل أشخاص يموتون في سبيل حبهم عن أن نتخيل أشخاص يموتون في سبيل طريقة الاثنتي عشر نغمة في تأليف الموسيقى. ويرجع ذلك إلى أن الحب هو أكثر الأربعة قدرة على إرباك الحياة اليومية وتخريبها.

ويفشل المنظور التهكمي (الكلبي) للحب في ملاحظة هذه التخريبية. فبحسب باديو، يرى المتهكم أن «الحب مجرد شكل من أشكال الالتذاذية المعممة». ويمكّن هذا الرأي المرء من تجنب «كل تجارب الآخرية العميقة والحقيقية المجدول منها الحب».[9] إن إنكار وجود الحب—رؤيته كمجرد مكيدة رأسمالية—هو وسيلة لتجنب التحول الذي يتطلبه الحب من المرء، لكن هذا التجنب يجعل حياة المرء مفرغة من الأهمية. فالاتقاد الذي يثيره الحب يدفع الأشخاص إلى مواصلة الحياة.

(تلقيتُ ذات مرة قصيدة من خليلتي في عيد الحب تعبر عن هذه الفكرة بدقة:

It may be a capitalist plot / But I really like you a lot

So I’m sending you this Valentine’s Day card / Whether you like it or not.

مكيدة رأسمالية، قد يكون الحب/لكني أحبك مع ذلك أشد الحب

لذا أكتب إليك في عيد الحب/سواء أحببت ذلك أم لم تحب

لم تغير القصيدة بالطبع من اعتقادي في الطبيعة الأيديولوجية لعيد الحب، لكنها ذكرتني بأن أية مكيدة رأسمالية لا تكون أبدًا مجرد مكيدة رأسمالية. فكل واحدة منها لا بد أن تنطوى على نواة حقيقية حتى تكون ذات جدوى).

يرمي تغليف المجتمع الرأسمالي للحب في هيئة رومانسية إلى محو تخريبيته مع الحفاظ على عاطفيته واتقاده. لكن هذه مهمة مستحيلة. فحب الذات الرأسمالية هو دومًا حب ناقص بقدر ما هو حب آمن. إن الرومانسية في المجتمع الرأسمالي ضرب من الاستثمار، وحتى إذا كان استثمارًا محفوفًا بالخطر في بعض الأحيان، إلا أنه يظل ضمن حسابات الربح والخسارة. أما الحب، فيتجاوز كل الحسابات، ويجبر المرء على التخلي عن هويته بالكلية، وليس المخاطرة بسمعته أو ثروته فحسب. 

التخلي عن التسعة والتسعين من أجل الواحد

نحن نشعر باللذة عندما تمضي حياتنا بيسر وانسياب وبقدر من الأمان، لكن الحب وعر وغير آمن على الدوام. فعندما يقع المرء في الحب، لا يمكنه أبدًا أن يتيقن من أن الآخر يبادله الحب حقًا، وينفق وقته قلقًا حيال ما يفعله الآخر. 

تنبع المخاطرة الموجودة في الحب من المقام الذي يرفع المُحب محبوبه إليه. فالمحبوب لا يعود مجرد موضوع آخر من موضوعات رغبة المحب وإنما يغدو في موضع السلطة (المرجعية) الاجتماعية نفسها. فعندما أحب آخر، أريد أن أحظى بتقدير هذا الآخر أكثر مما أريد أن أحظى بتقدير المجتمع ككل. أريد أن أكون مهمًا عنده أكثر مما أريد أن أكون مهمًا عند جميع من سواه. لا أريد أن يكون قدري عنده أكبر من كل من سواي وفقط وإنما أريد أن يكون هو وحده أساس حسابات القيمة والقدر. وبمصطلحات التحليل النفسي، يتطلب الحب أن يشغل الآخر الصغير وظيفة الآخر الكبير. (في السيمينار رقم 5، يصف جاك لاكان عملية استبدال المرجعية الاجتماعية بأخرى شخصية قائلًا: «بما أن قيمة كل شيء تعتمد على الآخر الكبير، يصير الحل هو أن أجعل لنفسي آخر كبير خاص بي. وهذا هو ما يسميه المرء بالحب»).[xiii]

وكنتيجة لهذا التحول، لا يعبأ المحب كثيرًا بصورته في عين كل من سوى محبوبه. فتجده مستعدًا للتصرف بغرابة على الملأ، ولوضع نفسه في مواقف محرجة تلفت انتباه الناس إليه، وذلك لأن التقدير الوحيد الذي يهمه هو التقدير الذي يكنه محبوبه له. من هنا لا يتحرج المتحابون، في المدرسة الثانوية مثلًا، من التعبير عن عواطفهم بحميمية علانية غير مسموح بها اجتماعيًا، لأنهم لا يعترفون بأية مرجعية اجتماعية حقيقية سوى أنفسهما. ويشهد حظر المسؤولين في المدارس للتلامس والتقبيل غير المحتشم أثناء ساعات المدرسة على إدراكهم أن هذا التعبير الحميم عن العواطف يضع سلطتهم في موضع الشك. فعندما يحب المرء، تتضاءل في عينه قدرة السلطة الاجتماعية على منح القبول والتقدير. وهكذا يزيد هذا التحول من سلطة المحبوب على المحب بدرجة هائلة بينما يقلل، في نفس الوقت، من سلطة النظام الاجتماعي عليه. (تكمن إحدى نقاط ضعف رواية 1984 لجورج أورويل، في عجز أورويل عن تصور الحب كأيديولوجيا (أو كرومانسية). لكنها إحدى نقاط قوة الرواية أيضا لأنه دفع بأورويل إلى التشديد على الإرباك الذي يمكن للحب أن يدخله على بنية سلطوية كلية القدرة على ما يبدو. فعلاقة الحب بين وينستون وجوليا تمثل خطرًا حقيقيًا. ولكي يعود وينستون ذاتًا سلطوية بحق مرة أخرى، تعين عليه أن يتخلى عن جوليا وعن حبه لها).

ويفسر لنا ذلك الازدراء الذي يظهره كل من روميو وجوليت لمشاعر عائلتيهما المتناحرتين منذ الأزل. فبالرغم من أن حبهما يقتضي من كل منهما التخلي عن الكراهية التي تلقنها طول حياته من عائلته للعائلة الأخرى، إلا أنهما لم يجدا أية مشكلة في فعل ذلك. إن العائلة كممثل للسلطة الاجتماعية قد غدت مجرد عائق خارجي يتعين عليهما تجاوزه وليس حائل نفسي داخلي يحول بين حبهما. وذلك لأن العائلة لم تعد ذات بال عندهما. فروميو وجولييت على استعداد للمضي إلى أبعد مدى في سبيل حبهما، حتى لو اقتضى ذلك خيانة كل منهما لعائلته.

ويشهد استعداد المرء لإذلال نفسه في سبيل محبوبه على تخريبية الحب. فالمحب مستعد للتضحية بهويته الاجتماعية في سبيل الفوز بحب محبوبه. ففي الحب، تختفي كل الاعتبارات أمام استجابة الآخر لحبنا. واختبار المرء لهذه الخسارة التامة لإحداثياته المعتادة هو مصدر جاذبية الحب وصدمته في نفس الوقت. فعلى الرغم من أننا نميل إلى اعتبار الحب تجربة ملذة، إلا أنه يسفر، في واقع الأمر، عن قدر من المعاناة أكبر بكثير من قدر اللذة الذي يسفر عنه. فنحن نشعر باللذة عندما تمضي حياتنا بيسر وانسياب وبقدر من الأمان، لكن الحب وعر وغير آمن على الدوام. فعندما يقع المرء في الحب، لا يمكنه أبدًا أن يتيقن من أن الآخر يبادله الحب حقًا، وينفق وقته قلقًا حيال ما يفعله الآخر. لذلك نجد المحب يتصل هاتفيًا بالمحبوب مرارًا عندما لا يرد عليه من أول مرة. ويختبر المحب صدمة الحب مع كل اتصال لا يرد عليه المحبوب. إن الحياة لا تعود تمضي وحسب بعدما نقع في الحب. وإنما تشرع، عوضًا عن ذلك، في قصفنا تباعًا بالصدمات التي تحول بيننا وبين راحة البال. فهويتنا الرمزية نفسها تفقد إحداثياتها الراسخة. (تطور تقنية الهاتف جعلت من العسير للغاية إخفاء الاتصالات العديدة، فمعظم الهواتف الآن تسجل عدد الاتصالات الواردة. مما يعني أن المحبوب سيعرف عدد مرات اتصال المحب به في وقت معين. وبمجرد ما يتبين له أن المحب قد اتصل به خمسين مرة في خلال ساعة، سيفقد المحب ماء وجه عنده، على الأرجح، أو سيرسل إليه الشرطة لنجدته. ونتيجة ذلك أن هذا الضرب من الصدمة المرافق للحب—عدم الرد على الاتصال—سيغدو أقل تواترًا، بما أن المحب سيتورع عن تكرار هذا التصرف المهين).

لكن في أيديولوجيا الرومانسية، تغدو هذه التضحية بالهوية استثمارًا يبتغي المرء من وراءه تملك محبوبه الرومانسي مستقبلًا. فالرومانسية تعد المحب بأن هذه الصدمة الأولية ستؤدي إلى علاقة تتمتع بالثبات، وستوفر له هوية رمزية جديدة: زوج أو زوجة أو قرين أو قرينة معترف به في العلاقة الرومانسية. وعوضًا عن الحفاظ على هذه الخسارة الأولية، نحولها إلى استثمار يسعى إلى امتلاك المحبوب.

ولا تحوّل الرومانسية الحب إلى استثمار فحسب، وإنما تلعب أيضًا دورًا كبيرًا في تطوير الرأسمالية بإيحائها إلى المستهلكين أن بمقدورهم العثور على السلعة المثالية، السلعة التي ستسد كل نقص. فالغرض من كل استهلاك هو الوصول إلى الموضوع المفقود، العثور على السلعة المثالية التي ستحقق الإشباع الكامل والدائم. وبالرغم من أن كل شراء للسلعة ينبني على هذا الاستيهام، إلا أننا لا نستسلم له فيما يتعلق بمعظم السلع. فقلة قليلة قد تشترى بكرة مناديل للحمام وتظن أنها قد عثرت على الموضوع المفقود أخيرًا. لكن الكثير من الناس يظنون أن الحصول على المحبوب الرومانسي من شأنه أن يمنحهم الإشباع الكامل. إن الرومانسية تغرق الأشخاص في الاستيهام الرأسمالي المتمثل في العثور على السلعة المشبعة تمامًا، وهذه السلعة لها اسم محدد: توأم الروح.

عندما نتحدث عن العثور على توأم الروح أو عن أننا قد عثرنا عليه، لا نظن أننا نكون حينها مغمورين في الاقتصاد الرأسمالي. لكن واقع الحال أن هذه المنطقة أكثر أهمية للرأسمالية من محلات بيع الصودا والحلوى أو البورصة. ففكرة توأم الروح تلعب دورًا كبيرًا في ترويج الاستهلاك ونشره. فإذا اعتقدت أن السلعة المثالية موجودة في النطاق الرومانسي، فمن شأن ذلك أن يغير علاقتي بجميع السلع. فكل سلعة تغدو أكثر جاذبية بقدر ما تحل في محل الخليل الرومانسي المثالي. بالطبع لا يمكن لمطرقة في محل للمعدات أن تحل محل توأم روحي، لكني سأجد متعة أكبر في شرائها عندما يكون فعل الشراء مشربًا بفكرة وجود سلعة مثالية، وتوأم الروح هو تحديدًا ما يمدني بهذه الفكرة. أي أن فكرة توأم الروح تدعم كل فعل استهلاكي ضمن العالم الرأسمالي.

توأم الروح هو السلعة وقد اتخذت شكلًا مكملًا الذات ومتممها. وهذا ما يجعل فكرة توأم الروح تتمتع بهذه الأهمية في الرأسمالية. فالذات تختبر الفقد كلما رغبت، ولا يمكن لأي موضوع مرغوب أن يسد هذا الفقد. لكن وعد توأم الروح هو وعد بالاكتمال. توأم الروح يعد بتكميل الذات على نحو مثالي، وبالتالي تخفيف شعورها بالفقد. لكن هذا الموضوع المكمل غير موجود في الواقع، وإنما موجود في الاستيهامات الرومانسية الأيديولوجية، وبالتالي تريد الرأسمالية من الأشخاص أن يغمروا ذواتهم غمرًا في هذه الاستيهامات. (نجد إحدى أشد اللحظات أيديولوجية في تاريخ السينما في خاتمة فيلم Jerry Maguire (كاميرون كراو، 1996)، حيث يقول جيري (توم كروز) لدورثي (ريني زيليجر): «أنتِ تكملينني،» في احتفاء صريح بفكرة توأم الروح المكمل للذات). 

الكوميديا الرومانسية وكوميديا الحب

الوقوع في الحب يربك حياة المرء من شتى نواحيها. حتى التفاصيل اليومية العادية تغدو مترعة بالترقب والانشغال

تنبني أفلام الكوميديا الرومانسية كصنف على فكرة أن الحب استثمار مربح، أن الحب يمكن اختزاله في الرومانسية وفي تملك توأم الروح. وعلى الرغم من هذه الأفلام غالبًا ما تظهر الحب كشيء غير مريح أو عسير أو مربك، إلا أنها تنتهي دائما بإظهار أن الحب يعود، في مقابل ذلك، على المرء بالربح، برفع مكانته الاجتماعية (والمالية غالبًا). ففي عالم الكوميديا الرومانسية، من المستحيل أن يؤدي الحب إلى خسارة المرء لمكانته الاجتماعية أو رغده الاقتصادي. إن الكوميديا الرومانسية تبدأ بأثر الحب الصادم لكنها لا محالة تنتهي بمحو هذه الصدمة في سبيل صفقة رومانسية رابحة. (غالبًا ما تتمتع شخصيات الكوميديا الرومانسية بقدر كافٍ من الثروة، بحيث أنها لا تنشغل، حال وجدت نفسها عاطلة عن العمل، ككاثلين (ميج رايان) في فيلم You have Got Mail (نورا إيفرون، 1998)، بكيفية دفع إيجار المنزل).

ويتجلى موقف الكوميديا الرومانسية من الحب—تحويله إلى رومانسية، إلى سلعة—في مشاهد المونتاج التي تملأ هذا الصنف من الأفلام (سلسلة المشاهد التي تضغط الزمن وتشير إلى مروره داخل الفيلم). وفي العادة، تُظهر مشاهد المونتاج الحبيبين بعد بداية العلاقة بينهما. فنراهما يتنزهان في الحديقة أو يأكلان في مطعم أو يطعمان بعضهما الآيس كريم أو في السينما أو يمارسان الجنس حتى. والأمر الجلي في مشاهد المونتاج هذه هو أنها تحذف الجزء الأشد إثارة في العلاقة: حدث الوقوع في الحب نفسه. فأفلام الكوميديا الرومانسية تُظهر الحبيبين أثناء وقوعهما في الحب لكنها تفعل ذلك في مشاهد مونتاج تضغط الوقت الذي يستغرقه حدوث ذلك عوضًا عن بسطه. فلو أن هوليوود تأخذ على محمل الجد زعم ألفريد هيتشكوك الشهير القائل بأن «الأفلام هي الحياة الواقعية محذوف منها الأجزاء المملّة»، فسيبدو من الصادم جدًا حذفها للمراحل الأولى من علاقات الحب. فكما يعرف كل من جرّب الحب، ليست البدايات الجزء المملّ قط. (في أحد دروسي عن أفلام الكوميديا الرومانسية، زعم أحد الطلبة أن الفيلم يضغط وقت الوقوع في الحب لأن هذه الفترة هي الأشد مللًا في العلاقة. ويشهد هذا الزعم—وبطلانه الجلي—على نجاح الرأسمالية في استبدال الحب بالرومانسية).

وتضحي أفلام الكوميديا الرومانسية بإثارة البدايات هذه لكي تتجنب عرض الاضطراب الصادم الذي يحدث للحبيبين أول ما يقعان في الحب. فالوقوع في الحب يربك حياة المرء من شتى نواحيها. حتى التفاصيل اليومية العادية تغدو مترعة بالترقب والانشغال. فبضغطها لهذه الفترة الصادمة من العلاقة في مشاهد المونتاج، تطمئننا الكوميديا الرومانسية أن الحب يمكن أن يحدث من دون أي صدمة. أن الحب يمكن أن يكون رومانسية ببساطة. (صنف الأفلام الآخر الذي يلجأ إلى مشاهد المونتاج هو الأفلام الرياضية. وهي تفعل ذلك لسبب مشابه. فمشاهد المونتاج في أفلام الرياضة هي دومًا مشاهد تمرين—تصور على نحو مضغوط الجهد المطلوب لتحقيق الانتصار النهائي. والوظيفة المحددة لهذه المشاهد هي إخفاء الجهد المبذول نفسه بغرض ترك هذا الانطباع في المشاهد: يمكنك أن تحصل على السلعة (الانتصار) من دون الشغل اللازم لإنتاجها (التمرين)).

لو نظرنا إلى أشهر فيلم كوميديا رومانسية من بطولة جوليا روبرتس، Pretty Woman(جاري مارشال، 1990)، يمكننا أن نرى تحويل الحب إلى رومانسية في أنقى صورة. يصور الفيلم وقوع بائعة الهوى فيفيان وارد (جوليا روبرتس) في حب زبون ثري، يسمى إدوارد لويس (ريتشارد جير). في البداية، يستأجر إدوارد فيفيان لكي ترافقه لا لكي تضاجعه، لكنها يقعان في حب بعضهما خلال الأسبوع الذي قضياه معًا. وينتهي الفيلم، كما تنتهي جميع أفلام هذا الصنف تقريبًا، باجتماع شملهما رومانسيًا. فعلى الرغم من اعتراض أصدقائه على دخوله في علاقة مع عاهرة، وعلى الرغم من قلقه حيال إخلاصها له في بعض الأحيان أثناء الفيلم، إلا أنه قرر في نهاية المطاف أن يغدو قرينها وليس زبونها. وتنقل العلاقة فيفيان من طبقتها العاملة إلى الطبقة العليا. أي أن وقوعها في الحب لم يخرب هويتها الاجتماعية ومنزلتها الطبقية وإنما عاد عليهما بنفع هائل عوضًا عن ذلك. إن الحب، في حالة فيفيان، هو استثمار مربح للغاية.

Pretty woman

بالطبع يقع إدوارد في حب فيفيان لأنها على ما يبدو لا تنتظر منه أن يرقيها اجتماعيًا. فباستثناء شكوكه حيال ذلك في مرحلة ما إلا أنها لم تسع إلى تحصيل منفعة اجتماعية من ورائه، وإنما وقعت في حبه ببساطة. إن الفيلم يشدد على أصالة حب فيفيان لإدوارد، لكنه يصورها في نفس الوقت وهي تجني من وراء حبها مكاسب اجتماعية ومالية لا تخطئها العين. فإدوارد يجبر موظفي المحلات على معاملتها كزبون ثري لا كعاهرة من الطبقة العاملة، وكذلك يدعوها لتناول العشاء في المطاعم الفاخرة. وعندما يأتي إليها في نهاية الفيلم، يأتي إليها في ليموزين. إن فيفيان لا تسعى إلى جني أي مكاسب من الحب، لكنها تجني مكاسب على الرغم من ذلك، وهذه هي الفكرة التي يريد الفيلم أن يشدد عليها. ففي الرأسمالية، يغدو الحب مربحًا حتى لو لم نبتغ أي ربح من ورائه. إن منطق الرأسمالية يتغلغل في تخريبية الحب ويحولها إلى ربح، يتغلغل في الحب ويحوله إلى رومانسية.

لكن pretty woman لا يمكنه أن يتجنب تصوير تخريبية الحب بالكلية ويظل مع ذلك فيلمًا ممتعًا. فلو كان الحب في الفيلم محض رومانسية، ما كان لهذا الفيلم أن يظل أحد أكثر أفلام الكوميديا الرومانسية تقديرًا في تاريخ هوليوود. فلا بد أن توجد نواة حب حقيقي في أي فيلم رومانسي حتى في أشدها أيديولوجية، وإلا سيفشل بالكلية. وتتجلى هذه النواة عندما يتعرض صديق إدوارد، فيليب ستاكي (جاسون أليكسندر) لفيفيان طمعًا في أن تضاجعه بعدما علم بمهنتها السابقة. فبالرغم من أن فيفيان قد صدته، إلا أن تصرفه قد دفع إدوارد في نهاية المطاف إلى القطيعة معه. وبالمثل كان لحب إدوارد نفس الأثر على فيفيان: إذ قطعت علاقتها بأقرب صديقة لها ورفيقتها في السكن، كيت (لورا سان جاياكومو)، بسبب علاقتها بإدوارد. وعلى الرغم من أن الفيلم يضغط ويقلل من حجم هذه التخريبات التي يسببها الحب، إلا أنه قد أبقى عليها على أية حال. الحب في Pretty Women عبارة عن رومانسية في الأساس، لكن توجد مواضع في الفيلم يتجلى فيها الحب الحقيقي.

إذا كان فيلم Pretty Woman قد كرّس جوليا روبرتس كنجمة هوليوودية، فإن فيلم Notting Hill (روجر ميتشل، 1999)، قد استغل مكانتها هذه. لكن على خلاف الفيلم الأول، يشدد الفيلم الثاني على أن موضوع الحب يظل موضوع حب حتى عندما يتجلى كسلعة رومانسية. فبينما يصور Pretty Woman جوليا روبرتس كسلعة رخيصة، عاهرة،  تلعب في Notting Hill دور آنا سكوت، أشهر ممثلة في العالم، والتي تلتقي بويليام (هيو جرانت) في المكتبة التي يملكها بلندن. وتماما كما كان إدوارد استثمار مربح لفيفيان، آنا استثمار مربح لويليام، ويبدو ذلك سببًا لانجذابه نحوها. لكن Notting Hill يبين أن الحب يخرب حياة المحبين وليس استثمارًا مربحًا في نهاية المطاف.

يكرس ويليام نفسه لآنا بالكامل، لكنه يكتشف على الدوام ما لم يتوقع أن يعثر عليه. فبالرغم من أن آنا موضوع استيهامي لويليام، ولباقي شخصيات الفيلم، إلا أنها لا تتلائم بيسر مع حياته اليومية. فكلما بدا أن علاقتهما ستجد لها موطئ قدم، تهجره أو تذكره، سهوًا، بتدني طبقته الاجتماعية. على سبيل المثال، عندما دعته إلى زيارتها في فندقها، لبى الدعوة متوقعًا أن يقضي وقتًا معها بمفرده. لكنه لما وصل وجد آنا منغمسة في مقابلات صحفية حول فيلمها الجديد، وتعين عليه أن يتخفى في هيئة صحفي في مقابلة مع ممثلة حتى يتسنى له الحديث معها. وعندما جهرت آنا أخيرًا بحبها لويليام، استحضر مرات الهجر العديدة السابقة، ورفض هذا الحب حتى يتفادى التعرض لصدمة جديدة. وعلى الرغم من أنه تتبع أثر آنا في نهاية المطاف وأوضح لها أنه قد غير رأيه، إلا أن هذا الرفض الأول يكشف عن الخطر الذي يجده ويليام في حبه لآنا.

أما آنا، فقد أجبرها حبها لويليام على تحمل ثقل الافتضاح: فيالق الصحفيين الذين يتبعونها رأوها خارجة من شقة ويليام، وهو ما تسبب في فضيحة كبيرة. وينتهي الفيلم بإعلانها الضمني عن حبها له في مؤتمر صحفي. على مدار الفيلم تبتغي آنا الخصوصية وتفر من انكشاف حياتها على الملأ، لكن لكي تحب ويليام تعين عليها أن تسلم حياتها الخاصة لعين الملأ. تعين عليها أن تتخلى عن إصرارها على التمتع بحياة خاصة. فأن نحب يعني أن نُرى على نحو لا نريد أن نُرى عليه، ويتجلى هذا بأوضح ما يكون في حالة آنا سكوت في Notting Hill. ومن هذه الجهة، تمثل آنا نقيض فيفيان في Pretty Woman، التي تُرى، مع نهاية الفيلم، تماما كما تريد هي أن تُرى.

لعل الكوميديا الرومانسية هي صنف الأفلام الأكثر أيديولوجية من بين كل ما أنتجته هوليوود، ومع ذلك يبزغ الحب الحقيقي فيها من حين إلى آخر. إن الحب يعمل ضد منطق التملك الذي يهيمن على العالم الرأسمالي، وبالرغم من أن جميع أفلام الكوميديا الرومانسية تقريبًا تنتهي بتملك الموضوع المحبوب، إلا أنه في بعض الأحيان تواجهة شخصياتها الفقد في نفسها وفي الآخر المحبوب. وعندما يحدث ذلك، تتحول الكوميديا الرومانسية إلى كوميديا حب، ولا تعود خادمة أيديولوجية للعالم الرأسمالي الذي أنتجها.

يرمي استبدال الحب بالرومانسية إلى تقليل الخطر الذي يتضمنه الحب. في الحب يستبدل المرء السلطة الاجتماعية بسلطة الآخر المحبوب، لكن عندما يكون الحب رومانسية، يظل هذا الآخر مدعومًا بواسطة السلطة الاجتماعية ومجازًا من طرفها. الرومانسية تجعل المرء مرتاحًا حيال مكانته الاجتماعية، لكن الحب الحق يجعل المرء لا مباليًا بمكانته الاجتماعية من الأساس. ففي الحب يتوقف المرء عن طلب التقدير من الآخر الكبير (السلطة الاجتماعية) ويطلبه من الآخر الصغير (المحبوب) عوضًا عن ذلك. تخفف الرومانسية من هذه النقلة عن طريق استبدال موضوع الحب بموضوع مُجاز اجتماعيًا. ونتيجة ذلك، هي الحصول على ضرب ضعيف وفقير من الحب، حب من دون لبّه الصادم الذي يجعل الحب جديرًا بالتجربة. 

من اليسير أن نبصر كيف يستخدم النظام الرأسمالي الحب كإستراتيجية تسويقية وكنموذج للمراكمة. وبتحويل الحب إلى رومانسية، يغدو من العسير علينا أن نبصر تخريبية الحب. فالرأسمالية تخلصنا من هذه التخريبية، لكنها في نفس الوقت تسمح لنا بأن نعتقد أننا لا نزال، على الرغم من ذلك، ندور في فلك الحب. وبذلك تسلب منا الأحداث التي تجعل حياتنا جديرة بأن تعاش. إن اختيار الرومانسية عوض الحب هو الاختيار المربح لكنه اختيار يكلفنا كل شيء آخر. (لا يحول المجتمع الرأسمالي الحب الجنسي (eros) إلى رومانسية وحسب وإنما يفعل ذلك أيضا مع المحبة المسيحية (agape). المسيح يرحب بحب الأتباع، لكن هذا الحب، تمامًا كحب المحبوب، يعود على الأتباع بالصدمة. فاستجابة المسيح للحب لا تسمح لهم قط بأن يظلوا في أمان الهوية الاجتماعية، وإنما تتطلب منهم أن يخرجوا من هذه الهوية من أجل المسيح. فبالنسبة للمؤمن، لا بد أن يشغل المسيح موضع الآخر الكبير وأن يغدو المعيار الذي ينظم وجوده. لا يمكن للمسيحي أن يبقي على الحب المسيحي بمعزل عن هويته. وإنما لا بد له أن يحيط بهذه الهوية بالكامل ويشملها، وهي حقيقة موضحة بقوة خلال الأناجيل. فأن تكون في الحب المسيحي—كما يبين لنا المسيح في رده على الرجل الثري الذي سأله عما يتعين عليه فعله لكي يكون من الفائزين في الدار الآخرة—يعني أن تتخلى عن كل ملذاتك في هذا العالم. وأن تريد الحب من دون هذا التخلي المدمر، يعني أنك لا تريد الحب وإنما تريد الرومانسية. وبالرغم من أننا قد نضحك من تصور أننا في علاقة رومانسية مع المسيح، إلا أن هذا هو تحديدًا ما تقدمه لنا النسخة الرأسمالية من المسيحية. إن الحب المسيحي يفتك بالمحب ويسلبه أعز ما يملك. الحب المسيحي ليس سلعة بمقدور المرء أن يمتلكها. لكن في ظل الرأسمالية، أضحت المسيحية كوميديا رومانسية تنتهي بأن يعثر المرء على توأم روحه في المسيح. وينطبق نفس الأمر على النسخة الرأسمالية من الإسلام، فقط علينا أن نستبدل المسيح بالله).                  


[1] Joan Copjec, Imagine There’s No Woman: Ethics and Sublimation (Cambridge: MIT Press, 2002), 79.

[2] Plato, Symposium , trans. Alexander Nehemas and Paul Woodruff , in Plato: Complete Works , ed. John M. Cooper (Indianapolis: Hackett, 1997), 501.

[3]  المرجع نفسه، ص 498.

[4] Juan Pablo Lucchelli, Métaphores de l’amour (Rennes: Presses Universitaires de Rennes, 2012), 57.

[5] Jean-Paul Sartre, Being and Nothingness , trans. Hazel E. Barnes (New York: Washington Square Press, 1956), 490.

[6] Denis de Rougement, Love in the Western World , trans. Montgomery Belgion (New York: Harcourt Brace, 1940), 45.

[7] Jacques Lacan, Le Séminaire, livre XVI: d ’ un Autre à l ’ autre, 1968–1969 , ed. Jacques-Alain Miller (Paris: Seuil, 2006), 232.

[8] Jacques Lacan, Le Séminaire, livre VIII: le transfert, 1960–1961 , ed. Jacques- Alain Miller (Paris: Seuil, 2001), 216.

[9] Alain Badiou (with Nicolas Traug), Éloge de l’amour (Paris: Flammarion, 2009), 15–16. See also Alain Badiou, Being and Event , trans. Oliver Feltham (New York: Continuum, 2005).


[i] هذا الوعد الذي تقطعه كل السلع وتحنث به دومًا هو الدافع الأساسي لامتثال المرء لوصية الرأسمالية الواحدة والوحيدة: المراكمة—«راكم راكم! هذا ما أوصى به موسى والأنبياء!»، يخبرنا ماركس—فالمرء يشترى السلعة بقدر ما يثق في أنها ستشبع رغبته، لكن بعدما يمتلكها لا يجد هذا الإشباع. فتخبره الرأسمالية بأن رغبته لم تُشبع لكونه لم يمتلك السلعة الصحيحة وبالتالي عليه أن يشترى سلعة أخرى هي التي ستشبع رغبته بالفعل، وهكذا دواليك.

[ii] يختلف الإشباع عن مجرد اللذة والمتعة الحسية، الإشباع طويل الأمد واللذة عارضة، الإشباع ينتج غالبًا عن شيء مؤلم وفيه معاناة، عن صدمة وزلزلة لوجودنا وحياتنا كما في حالة الحب.

[iii] نجد تخريبية الحب هذه وتبعاته الصادمة معروضة بوضوح تراجيدي في أفلام من قبيل damage (لوي مال، 1992)؛ the woman in the window  (فريتز لانج، 1944)؛ scarlet street (فريتز لانج، 1945)؛  the best offer (جوزيبي تورناتوري، 2013)؛ the consequences of love (باولو سورينتينو، 2004)، وبقدر كبير من المرح والتلطيف الكوميدي في أفلام من قبيل  love and other drug (إدوارد زويك، 2010)؛ Love in the afternoon  (بيلي وايلدر، 1957)؛ Irma La Douce (بيلي وايلدر، 1963).

[iv] الحصول على موضوع الرغبة، أيًّا كان، يعقبه دائمًا شعور بالاستياء وبعدم الإشباع، بل بالصدمة أحيانًا، وذلك لارتباط الرغبة بالفقد، فتحقق الرغبة يعني موت الرغبة، ولكي تظل الرغبة حية لا بد أن يظل موضوعها مفقودًا، وبالتالي بمجرد ما يحصل المرء على موضوع رغبته يشعر بالاستياء والخيبة، وللتخلص من هذا الشعور لا بد أن يُوجد لرغبته موضوع مفقود آخر، ومن هنا تنتقل الرغبة من موضوع إلى الذي يليه. الرغبة إذن هي رغبة في الرغبة نفسها وليس في موضوع بعينه. موضوع الرغبة بحد ذاته غير مهم في واقع الأمر، ومن ثمّ سهولة استبداله والقفز من موضوع إلى آخر. إنه مهم فقط بقدر ما هو مفقود، وبتملكه يفقد أهميته على الفور. بل قد يغدو تملكه صادمًا للغاية، فوق ذلك. ونجد مثالًا براديجميًا على الصدمة النفسية التي تعقب تحقق الرغبة في مشهد اغتصاب البطلة في فيلم the piano teacher (ميشائيل هانَكه، 2001)، فبالرغم من أن هذا الاغتصاب لم يكون سوى رغبتها التي سعت إلى تحقيقها بكل سبيل، إلا أن حصوله كان صادمًا لها للغاية. من أين يحصل المرء على الإشباع إذن؟ ليس من الحصول على موضوع رغبته وإنما من تكرار محاولة الحصول عليه. واعتقاد المرء أن بوسعه الحصول على الإشباع من خلال الحصول على موضوع رغبته يعني أنه لا يزال يعيش في نطاق الرغبة، وهذا ما يجعله زبونًا رأسماليًا ممتازًا، مراكمًا ممتازًا. أما تخلصه من هذا الاعتقاد ومعرفته بأنه يحصل على الإشباع من تكرار السعي إلى الحصول على موضوع الرغبة، دون الحصول عليه بالفعل، فيخرجه من نطاق الرغبة، ويبعده عن الرأسمالية. 

[v] يمكننا أن نتبين فكرة كوبجك بسهولة في عبارات من قبيل: «أنا بحبك لكن مش عارف ليه!»، «فيه حاجة فيك بحبها لكن مش عارف أحدد هي إيه بالظبط»، والتي يتداولها المحبون جوابًا على السؤال الكلاسيكي: «إنت بتحبني ليه؟ وإيه اللي عاجبك فيا بالظبط؟» أنا أحب في محبوبي إذن شيئًا فيه أكثر منه، شيئًا أعجز عن تعيينه وتسميته، شيء مفقود إن شئتم. هذا الشيء المفقود هو ما يسميه جاك لاكان بالـ objet a، أو الموضوع المسبِب للرغبة، أو ما يسميه مجاوين بالموضوع المفقود. ويميز جاك لاكان بين موضوعين للرغبة: الأول هو الموضوع المادي المرغوب، المحبوب على سبيل المثال، والثاني هو ما يجعل المرء يرغب أصلًا في موضوع رغبته هذا. أنا أرغب في خليلتي (موضوع الرغبة) لكن ما الذي يجعلني أرغب فيها أصلًا،  ما هو سبب رغبتي فيها؟ هذا السبب الذي يحرك الرغبة هو ما يسميه لاكان بالـ objet a، أو الموضوع المفقود. ومن بين الموضوعين، الموضوع المسبب للرغبة هو الأهم، فموضوعات الرغبة لا تستمد قيمتها في عين الراغب إلا من ظنه أنها قد تحتوي على الـ objet a، يرغب المرء في شيء ما ويسعى لنيله وعندما يحقق رغبته ويناله يكتشف أنه لا يحتوى على الـ objet a فينتقل لموضوع آخر سيكتشف أيضًا أنه لا يحتوي على الـ objet a فيتركه ويذهب إلى ثالث وهكذا دواليك. لكن لماذا؟ لأن الرغبة، وكما أسلفنا، هي رغبة في الرغبة نفسها، وليس في موضوع بعينه، ولأنه ليس ثمة موضوع أيًا كان يحتوى على الـobjet a، أي أنه لا يوجد موضوع من شأنه أن يسد نقص الذات وأن يحقق الإشباع الكامل. لماذا؟ لنجيب على هذا السؤال علينا أن نجيب على سؤال آخر: ما هي ماهية الـ objet a بالضبط؟ عن ماذا نتحدث عندما نتحدث عن الـ objet a؟ الـ objet a، وعلى عكس موضوع الرغبة، ليس شيئا ملموسًا، وإنما هو شيء غير ملموس بالمرة، إنه الشيء المفقود، أو بالأحرى إنه الفقد نفسه مجسدًا. الفقد هو وقود الرغبة، ما يحرك الذات الراغبة هي محض الشعور بالفقد، والـ objet a هو اسم لتجسد هذا الفقد. ولكونه مجسِدًا للفقد، يتجلى الـ objet a في شكل عائق أمام تحقيق الرغبة. العائق القائم بين الراغب وموضوع رغبته هو ما يسبب رغبته هذه ويحركها، أو بالأحرى هو موضوع رغبته الأساسي، الموضوع المسبب لرغبته.

[vi] في اليونانية، تعني كلمة symposium حرفيًا شرب الخمر سويًا. هي مجلس شراب يعقب الولائم، يسكر فيها الندماء ويتسامرون في أجواء قصف ومرح. لكن كلما مر الزمن كلما غدت دلالة هذا اللفظ أكثر صرامة ورصانة، في ضرب من «الاستقامة» الدلالية أو «الصحو» الدلالي إذا جاز القول. فمع مرور الزمن تتضاءل المساحة التي يشغلها شرب الخمر في الحقل الدلالي للفظ بينما تتزايد المساحة التي يشغلها النقاش الفكري. إلى أن اختفى شرب الخمر تمامًا من دلالة الكلمة وصارت تعني حاليًا، وعلى نحو حصري تقريبًا، الندوات والمؤتمرات العلمية والحلقات الدراسية بالغة الرصانة والصرامة. التي لا يُشرب فيها إلا الماء—كبديل عن الخمر ربما، أو بالأحرى كعرَض، symptom، بالمعنى التحليلي النفسي للكلمة: أي تسوية بين قوتين نفسيتين متنازعتين. فبين شرب الخمر وعدم شرب أي شيء على الإطلاق، تُشرب الماء كحل وسط.

[vii] يعبّر ميلان كونديرا باستعارة حربية عن هذه الفكرة في خفة الوجود التي لا تُحتمل قائلا: «الحب عند فرانز يعني التوق إلى وضع نفسه تحت رحمة خليلته. أن يُسلم نفسه لها كما يُسلم أسير الحرب نفسه إلى أعدائه. ومن يُسلم نفسه كأسير يتعين عليه أن يتجرد من جميع أسلحته. ومجرًدا من جميع أسلحته، لا يمكنه أن يكف نفسه عن التساؤل عن اللحظة التي ستقع عليه فيها الضربة القاصمة. لذا يسعني أن أقول إن الحب يعني عند فرانز الانتظار الدائم للضربة القاصمة». إن فرانز هو نقيض سقراط، أعظم «هستيري» في التاريخ كما يصفه جاك لاكان.

[viii] نكرر أن المتعة لا تعني هنا مجرد اللذة وإنما تعني الإشباع، الـ Jouissance، بلغة لاكان. والإشباع لا ينتج ضرورة عن شيء ملذ بل غالبًا ما ينتج عن شيء مؤلم.

بحسب بروس فينك، أهم شُرّاح لاكان، النص الأصلي لهذه المقولة هو «الحب هو أن تعطي ما لا تملكه». أما بقيتها «لمن لا يحتاجه»، فهي زيادة طريفة أضافها أحد الطلاب الحاضرين في الدرس بعدما قال لاكان عبارته. ونجد المقولة في نسختها الأصلية مذكورة مرارًا في العديد من دروس لاكان. لكننا لا نجدها في نسختها الزائدة إلا في درس واحد فقط، وهو السيمينار رقم 12، في سياق تحليل علاقة سقراط بألسيبايديس. فماذا يقصد لاكان بهذه المقولة الملغزة؟  أي شيء أكبر شهادة على أنني أحب شخص ما، خليلتي على سبيل المثال؟ أن أغدق عليها الأموال وأغرقها بالهدايا الفاخرة من كل نوع؟ أن أنفق على خليلتي وأشترى لها الهدايا يعني أن أعطيها ما أملك. لكن أن تعطي ما تملك، يخبرنا لاكان، لا يعني أن تحب وإنما يعني أن تحتفل. إغداق الأموال أشبه بإقامة حفلة ودعوة المحبوب إليها، هو ضرب من القصف والاحتفال وليس حب. في المقابل، أن تحب يعني أن تعطي ما لا تملك، لكن ما هو هذا الشيء الذي لا أملكه ومع ذلك يمكنني أن أعطيه؟ إنه النقص، ما لا أملكه هو حرفيًا ما ينقصني، ما أفتقده. لكن ليس المقصود هنا شيء بعينه أفتقر إليه، كصفة معينة أو امتياز  اجتماعي معين، وإنما المقصود هو النقص نفسه، نقصي الوجودي، الفجوة الموجودة في ذاتي. أن أحب يعني أن أعترف بالنقص، أن أعترف بأني غير مستغنٍ بنفسي، بأني محدود، قاصر، محتاج (أي مخصي بالمعنى التحليلي للكلمة). وأن أعطي هذا النقص لشخص ما يعني أن أتوجه إليه به، أن أضعه بين يديه، لأجعله شاهدًا عليه وموصولًا به. وعندها سيشعر هذا الشخص، هذا المحبوب حينها، بالامتلاء، بالثراء الوجودي. ففي كل علاقة حب شخص واحد هو من يبدو ممتلئًا وثريًا ولديه شيء ما، هذا الشخص هو المحبوب وليس المحب. وعلامة ذلك، يخبرنا رولان بارت، هو أن وحده المحب من ينتظر! المحبوب يتأخر والمحب لا يسعه إلا الانتظار. لكن من أين جاء هذا الامتلاء والثراء؟ من المحب الذي أعطاه نقصه، أعطاه ما لا يملكه. وبحسب لاكان، يجد الذكور (بالمعنى النفسي، فالذكورة  masculinity والأنوثة femininityبنيتان نفسيتان لا علاقة لهما بتشريح الجسد، وبالتالي قد يكون الذكر أو الأنثى رجلًا أو امرأة) صعوبة بالغة في إعطاء النقص، أي في الاعتراف بالخصاء، وبالتالي في الحب—الذكر يريد أن يضاجع لا أن يحب—ولكي يحب لا بد أن يتأنثن بقدر أو بآخر. ومن هنا تقول كوليت سولير، تلميذة لاكان، أن الحب أنثوي.      

[xi] كتحويل الماء إلى نبيذ، أو «الفسيخ إلى شربات».

[xii] إلويز وأبيلار، أشهر عاشقين جاد بهما العصر الوسيط (القرن الثاني عشر تحديدًا). إلويز، حسناء فرنسية، في أوائل العشرينيات من عمرها، تعيش في كنف عمها فلوبير، أحد رجال الدين بكتدرائية نوتردام بباريس. اشتهرت في ربوع أوروبا بتبحرها في اللغات اليونانية واللاتينية والعبرية. وبيير أبيلار لاهوتي وفيلسوف مدرسي فرنسي كان يُشار إليه بالبنان حينئذ. وطمعًا في المزيد من العلم، أرادت إلويز أن تتلمذ على يد أبيلار. وبطريقة أو بأخرى، صار أبيلار يعطيها دروسًا خصوصية في بيت عمها. لكنهما سرعان ما وقعا في الغرام، وعوضًا عن أن يدرسا أرسطو راحا يتضاجعان بحماس، حتى حملت إلويز من فيلسوفها. لكن العم المطعون في شرفه لم يهدأ له بال إلا بعدما زج بابنة أخيه إلى دير لتعيش راهبة إلى الأبد، وخصى الفيلسوف (حرفيًا هنا وليس بالمعنى اللاكاني للكلمة). وبعد إخصائه، اتجه أبيلار للرهبنة بدوره، لكن وضعوه في دير غير الذي يأوي إلويز بالطبع. وعلى مدار عشرين سنة راحا يكتبان لبعضهما رسائل محمومة، حُفظت وطبعت.

[xiii] يفرق جاك لاكان بين نوعين من الآخرية: الآخر الصغير، other والآخر الكبير Other. الآخر الصغير هو الآخر المعروف: الأخ، الصديق، الجار، زميل العمل،...إلخ. والعلاقة بين المرء والآخر الصغير علاقة تنتمي لمستوى التخيلي imaginary، وهي علاقة محاكية (بلغة ريني جيرار) محكومة بالتنافس والغيرة والحسد. أما الآخر الكبير فهو السلطة أو المرجعية الاجتماعية ومن يمثلها من أفراد: أي من يقرر قيمة الأشياء والأفعال ومدى مشروعيتها. والعلاقة بين المرء والآخر الكبير تنتمي لمستوى الرمزي symbolic. الآخر الكبير هو من يجيبني على السؤال الذي لا أنفك أطرحه على نفسي: ما الذي ينبغي على أن أرغب فيه؟ ما الذي علي فعله كي أحظى بالقبول الاجتماعي، بالمكانة الاجتماعية العالية؟ عندما أرى الـ celebrities، من فنانين ورياضيين وسياسين ورجال أعمال، أي ممثلي الآخر الكبير، يرتدون ثيابًا بعينها، ويرتادون أماكن بعينها، ويأكلون أطعمة بعينها،... إلخ، فأنا أعرف على الفور بأن هذه الثياب والأماكن والأطعمة هي ما علي أن أرغب فيه، وأبتغيه كي أحظى بالتقدير الاجتماعي. الرغبة سؤال والآخر الكبير يجيبني على هذا السؤال. وفي الحب، يتحول المحبوب من آخر صغير إلى آخر كبير، أي يصير هو من يحدد قيمة الأشياء عندي، ومن أرغب في أن أحظى بالقبول وبالتقدير عنده، ومن يجيبني على سؤال الرغبة.


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه