خطوط الانفلات هي الخطوط اللي بتخلّي الحياة تدخل في مسارات غير متوقعة وغير مسبقة، والمسارات دي مالهاش علاقة بالتحولات القطعية أو الجزيئية للحياة، وإنما بالهروب والتسرسب إلى أنماط مختلفة خالص من الوجود.

خطوط الانفلات

مقال لشهاب الخشاب


إزاي شهرزاد هربت من مصيرها؟ كلنا عارفين القصة المعتادة: لما شهريار اتجوز شهرزاد، كان مصيرها الموت بعد أول ليلة يمضوها سوا زي كل الأميرات اللي سبقوها. إنما شهرزاد قررت تحكي للملك حكاية ممتعة في بداية الليلة، والحكاية ما خلصتش مع طلوع النهار، فشهريار سابها تعيش يوم تاني عشان تكمّل الحدوتة، وطبعًا ما كملتش إلا بعد ألف ليلة وليلة. في التصور المعتاد، القصص دي هي اللي أنقذت شهرزاد من الموت، وكانت دليل على ذكائها ودهائها في مواجهة مصيرها والإفلات منه.

التأويل ده جاي من قراءة لألف ليلة وليلة بتسلّم بوجود «شهرزاد» و«شهريار» كبني آدمين من لحم ودم، لهم دوافع نفسية واضحة ومشاريع ذاتية مستقلة. إنما الواقع إن شهريار وشهرزاد عبارة عن كائنات شفاهية وورقية متكوّنة أساسًا عبر القصص والحواديت اللي اتحكت عنهم عبر مئات السنين، ودونًا عن أنواع أدبية تانية بتحاول تصنع شخصيات لها دوافع نفسية داخلية قوية (زي مثلًا في روايات بالزاك ودوستويفسكي)، شخصيات ألف ليلة وليلة عبارة عن تركيبات نصية موجودة عشان تبرر الحكي المستمر. بالتالي القصص والحواديت اللانهائية في ألف ليلة وليلة مش بس طالعة من حكي شهرزاد كشخص عاقل مستقل، وإنما تُعتبر خطوط انفلات (lignes de fuite)  حسب تعبير الفلاسفة جيل دولوز (Gilles Deleuze)  وفيليكس جواتاري (Félix Guattari).

الترجمة المستقرة في الكتابات عن دولوز وجواتاري هي «خطوط الانفلات»، وإنما التعبير الفرنساوي نفسه محمَّل بكذا معنى في نفس الوقت. أولًا التعبير جاي من مفهوم هندسي بحت، وهو مفهوم أقرب باللي بيتسمى بالعربي «خطوط التلاشي». في تقاليد الرسم المنظوري (perspective)، الإحساس بالعمق جوه الصور المُسطحة بيجي من رسم بعض الخطوط اللي بتتقاطع في نقطة اسمها «نقطة التلاشي» (point de fuite)، وكأن الخطوط دي بتحاول تهرب في اتجاه نقطة معيّنة جوه الصورة وبتتلاشى فيها.

بالإضافة للمعنى الهندسي ده، الكلمة الفرنساوية fuite  بتعبّر عن إحساس الهروب (زي ما الضحية بتحاول تهرب من القاتل)، وعن إحساس التسرسب (زي ما المياه بتتسرسب من الخرطوم القديم)، وعن إحساس الإفلات (زي ما الواحد بيفلت من مصيره). في استخدام دولوز وجواتاري، خطوط الانفلات هي كمان خطوط تلاشي وهروب وإفلات وتسرسب في نفس الوقت، والمعاني دي بتظهر بأشكال مختلفة حسب سياق الكتابة. في تقديري، خطوط الانفلات هي بشكل عام المسارات المفتوحة بين الكائنات عشان يقدروا يفلتوا ويهربوا ويتسرسبوا من ذاتهم.

قبل ما نفسر الكلام ده، لازم نفهم إن دولوز وجواتاري كانوا معاديين للتفكير في «الذات» البشرية ككيان عاقل ومستقل. في التراث الفكري الأوروبي، كل واحد فينا عبارة عن «ذات» بتتعرف على نفسها خلال علاقة موضوعية مع أشياء براها، أو خلال علاقة مع ذوات أخرى بتحل محل العالم الموضوعي. دولوز وجواتاري كانوا شايفين إن الوصف ده غير دقيق، بما إن «الذوات» و«الموضوعات» كلها في حالة دائمة من التحول والتطور، وبالتالي وصف التحولات والتطورات دي –أو «الصيرورات» دي حسب تعبيرهم– محتاج إلى مصطلحات متجددة دايمًا. فبدل ما نتكلم عن«الذات» و«الموضوع» مثلًا، دولوز وجواتاري بيشجعونا إننا نتكلم عن «التركيبات» (agencement) و«الخطوط» (lignes).

في كتاب «حوارات» اللي حضّره مع كلير پارنيه (Claire Parnet)، دولوز قدم تطورات وتحولات الحياة عبر ثلاثة أنواع من الخطوط: الخطوط القطعية (lignes segmentaires)، والخطوط الجزيئية (lignes moléculaires)، وخطوط الانفلات. الخطوط القطعية هي اللي بتنظم الحياة حسب شرائح ثنائية: غني وفقير، رجل وست، أبيض وأسمر، مسلم ومسيحي، عامل وعاطل، إلخ. الثنائيات دي مش اختيار متاح للواحد قد ما هي فئات بتقسّم الحياة بشكل قطعي: الغني غني عشان ماهواش فقير، والراجل راجل عشان ماهواش ست، والعامل عامل عشان ماهواش عاطل، وإلخ. في وسط الخطوط دي، الحياة تقدر تاخد مسارات جزيئية في اتجاهات متعددة مش متماشية مع القطعات الكبيرة دي. الخطوط الجزيئية هي اللي بتخلّي مسار الست أو العامل يختلف بين الزمن والتاني مثلًا، أو بتخلّي يوم الشغل في مكتب ما يمشي غير يوم الشغل في مكتب تاني. باختصار، الحياة ما بتمشيش دغري زي الخطوط القطعية اللي بتوصفها، وإنما بتنحرف حسب مرور الأيام والأحوال بأشكال صغيرة.

خطوط الانفلات، في المقابل، هي الخطوط اللي بتخلّي الحياة تدخل في مسارات غير متوقعة وغير مسبقة، والمسارات دي مالهاش علاقة بالتحولات القطعية أو الجزيئية للحياة، وإنما بالهروب والتسرسب إلى أنماط مختلفة خالص من الوجود. إذا فكرنا في شهرزاد مثلًا، نقدر نقول إن خطوط الانفلات عندها هي القصص جوه القصص اللي ما بتنتهيش في حكاياتها، بغض النظر عن خطوط حياتها القطعية (زي مثلًا إنها ست وأميرة ومتجوزة وعايشة في قصر) أو خطوط حياتها الجزيئية (زي مثلًا إنها لازم تحكي قصص متنوعة كل يوم عشان تهدّي خاطر شهريار). القصص جوه القصص اللي المفروض بتتحكي على لسان شهرزاد مالهاش علاقة بحياتها كذات مستقلة، وإنما بمسارات الحكي اللي شغّال زي الماكينة اللي ما بتبطّلش. بالتالي خطوط الانفلات مش موجودة عشان الذوات المستقلة تهرب من مصيرها، وإنما هي الخطوط اللي بتفتح مسارات جديدة للحياة بعيدًا عن الخطوط القطعية والجزيئية.

من الصدف اللغوية اللي بتسند التفسير ده هي إن اسم «شهرزاد» معناه حرفيًا «بنت المدينة» أو «وليدة المدينة» بالفارسي. إذا فكرنا إن شهرزاد عبارة عن تركيبة من القصص والحكاوي، وإن التكوين التاريخي الفعلي للتركيبة دي جاي من تجميع وتحرير قصص وحكاوي المدن الهندية والفارسية والعربية عبر مئات السنين، نقدر نقول إن شهرزاد الحكاءة مش شخصية من لحم ودم، وإنما إنها مجموعة من الخطوط اللي ولدتها المدينة، منها الخطوط القطعية والجزيئية اللي بتنظم عالم ألف ليلة وليلة، ومنها خطوط الانفلات اللي بتفتح قصة جوه التانية جوه التالتة بلا نهاية. بالتالي شهرزاد ما هربتش من شهريار قد ما هي نفسها تركيبة قصص وحكاوي قايمة على هروب وإفلات وتسرسب حكايات المدينة.

التصور ده بيسمح لنا إننا نفهم إشمعنى النهاية الرسمية لقصص وحكاوي ألف ليلة وليلة تبدو سريعة ومختزلة، زي نهايات الأفلام السعيدة في السينما المصرية. النهاية المعتادة اللي ورثناها من محررين ألف ليلة وليلة إن بعد ما الحكايات كلها انتهت، شهرزاد اتجوزت شهريار، وعاشوا في تبات ونبات، وتوتة توتة خلصت الحدوتة. النهاية دي بتحاول تلِم الألف ليلة وليلة في صفحة، وترجّع القارئ للتصور القطعي بتاع الزوجة السعيدة والملك العادل والأسرة المثالية، ولكن حدود القصة دي ما بتحصرش المسارات المتعددة اللي ممكن تاخدها القصص والحواديت اللي بتفلت وتهرب وتتسرسب من نص استحالة يكتمل زي الألف ليلة وليلة.

بالمعنى ده، شهرزاد مالهاش مصير قد ما لها صيرورة، والقصص والحكاوي اللي بتكوّنها ككيان شفاهي وورقي دايمًا فيها إمكانية الانفلات والهروب والتسرسب؛ أو باختصار، إمكانية الاندماج في مسارات بتاخدنا من أول الدنيا لآخرها بين الحكاية والتانية. ومهما شهريار حاول يهدد شهرزاد ويفرض رغبته عليها ويثبّتها في مكانها، هتفضل شهرزاد «بنت المدينة» قادرة تندمج في مسارات أخرى.


* المقال خاص بـ Boring Books

** يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه