لا ريب أن تايكو، وبالطبع العجوز كذلك، كانتا تعتقدان أن أحدًا لا يشاهد مشهد السحر هذا. ولكن في الواقع كان هناك رجل خارج الغرفة يتلصص عليهما من خلال ثقب مفتاح الباب.
الإله أجني
قصة ريونوسكي أكوتاجاوا
ترجمة: ميسرة عفيفي
قصة قصيرة نُشرت للمرة الأولى في مجلة «أكاي توري» اليابانية في 1921.
* ريونوسكي أكوتاجاوا (1892 – 1927) هو «أبو القصة القصيرة اليابانية»، ويُطلق اسمه على أشهر جائزة أدبية في اليابان.
-1-
حي في مدينة شنجهاي بالصين. في الطابق الثاني لبيت يظل معتمًا حتى في النهار، تتحدث عجوز هندية بملامح وجه كريهة مع تاجر أمريكي.
قال الأمريكي وهو يشعل النار في سيجارة جديدة:
«أتيتُ إليك أيها العجوز لكي أطلب منك قراءة الطالع».
فقالت العجوز وهي تنظر إلى وجه محدثها بإمعان وكأنها تسخر منه:
«قراءة طالع؟ لقد قررت ألا أقرأ الطالع لأحد أبدًا. ففي الآونة الأخيرة لا أحد يقدم لي شكره بعد قراءة الطالع له».
«بالتأكيد أنا سأقدم لك الشكر».
وضع التاجر الأمريكي أمام العجوز شيكًا بمبلغ ثلاثمئة دولار دون أي تردد ولا ندم.
«في البداية سأترك لك هذا. وبالطبع لو تحققت نبوءاتك سأقدم لك المزيد من الشكر».
عندما رأت العجوز شيكًا بمبلغ ثلاثمئة دولار انفرجت أسارير وجهها.
«إن إعطائي مثل هذا المبلغ الكبير، على العكس، يجعلك أنت المسكين! ولكن ما الذي تريد أن أقرأ لك الطالع بشأنه؟»
«إن ما أريد معرفته هو..»
وضع التاجر الأمريكي السيجارة في فمه وعلى الفور ظهرت ابتسامة تردد على وجهه.
«متى ستبدأ الحرب بين أمريكا واليابان؟ إذا علمنا فقط هذا الأمر، فنحن التجار نستطيع أن نحقق أرباحًا خيالية فورًا».
«إذن تعال غدًا. وحتى ذلك الوقت سأكون قد قرأت طالعك».
«حسنًا، أرجو منكِ عدم الخطأ..»
لوّحت العجوز الهندية بصدرها للخلف في مباهاة.
«إن نبوءاتي لم تخطئ مرة واحدة على مدى خمسين عامًا. فإن الإله أجني هو الذي يبلغني تلك النبوءات بنفسه».
غادر التاجر الأمريكي، فذهبت العجوز إلى باب الغرفة التالية.
ونادت قائلة: «يا إرين! إرين!»
خرجت من الغرفة فتاة صينية جميلة استجابة لذلك النداء. ولكن خدود تلك الفتاة الممتلئة كانت بلون يشبه الشمع، ربما بسبب المعاناة.
«ما هذا التباطؤ! يا لك من فتاة لئيمة. من المؤكد أنك كنت تنامين جالسة في المطبخ مرة أخرى أليس كذلك؟»
مع كل التوبيخ، ظلت إرين واقفة منكسة الرأس.
«اسمعيني جيدًا. إنني الليلة سأوجه أسئلة للإله أجني بعد غياب طويل، كوني على أهب الاستعداد».
رفعت الفتاة عينيها الحزينتين إلى وجه العجوز حالك السواد.
«الليلة؟»
«في الساعة الثانية عشرة الليلة. هل تفهمين؟ حذار من النسيان!»
رفعت العجوز الهندية إصبعها وكأنها تهددها.
«إن حدث مثل المرة السابقة وكنتِ سببًا لإزعاجي، هذه المرة بحق ستفقدين حياتك! إنني إن أردتُ أن أقتلك فالأمر أسهل من خنق عنق فرخ طير!»
قالت العجوز ذلك ثم عبس وجهها سريعًا. وعندما نظرت فجأة إلى الطرف الآخر كانت إرين قد ذهبت إلى جوار النافذة وأخذت تتأمل الطريق المهجور من زجاج النافذة المفتوحة.
«إلام تنظرين؟»
شحب وجه إرين في النهاية، فنظرت عاليًا مرة أخرى إلى وجه العجوز.
«إن كنت تظنين أنني غبية، فأنت لم تكتفِ بعد من العذاب الأليم؟»
لوّحت العجوز بالمكنسة التي كانت بجوارها وعيونها تمتلئ بالغضب.
وفي ذات اللحظة، بدا أن شخصًا أتى في الخارج، وفجأة سُمع صوت طرق عنيف على الباب.
-2-
في نفس اليوم، وتقريبًا في نفس التوقيت، كان شاب ياباني يسير في الطريق خارج ذلك البيت. ولا يُعرف فيم كان يفكر! ولكنه عندما نظر نظرة واحدة إلى الفتاة الصينية التي يظهر وجهها من نافذة الطابق الثاني، وكأنه قد أُخذ على حين غرة، ظل واقفًا في شرود دون أن يحرك ساكنًا.
وتصادف أن مر في الطريق شيخ صيني يعمل حوذي لعربة ريكشا.
فسأل الياباني ذلك الحوذي الشيخ فجأة:
«مهلًا، ألا تعرف من الذي يسكن في الطابق الثاني من هذا البيت؟»
نظر الحوذي عاليًا تجاه الطابق الثاني العالي وهو يمسك كما هو بذراع الريكشا، ورد ردًا وهو يشعر بالنفور: «أين؟ هذا البيت؟ تسكن فيه فلانة العجوز الهندية»، ثم كان على وشك الرحيل سريعًا.
«انتظر من فضلك! وماذا تعمل تلك العجوز؟»
«قارئة طالع. ولكن شائعات هذا الحي أنها تستخدم كل أنواع السحر. ولذا إن كنت تخاف على حياتك فمن الأفضل لك عدم الذهاب إليها».
بعد أن رحل الحوذي الصيني، شبك الشاب الياباني ذراعيه وبدا أنه يفكر في أمر ما، ثم بدا أنه أخذ قراره ودخل على الفور إلى ذلك البيت. وعندها سمع فجأة صوت العجوز الذي يصب اللعنات مختلطًا بصوت بكاء الفتاة الصينية. وبمجرد سماع الياباني لذلك أسرع بصعود درجات السلم المعتم درجتين وثلاث درجات في كل خطوة. ثم بدأ يطرق باب بيت العجوز بكل قوته.
فُتح الباب فورًا. ولكن عندما دخل الرجل الياباني، كانت العجوز الهندية فقط تقف وحيدة تمامًا، والفتاة الصينية ليس لها وجود ولا أثر، ربما تكون قد اختبأت في الغرفة التالية.
نظرت العجوز محدقة في وجه الطرف الآخر بارتياب شديد وقالت:
«هل تريد شيء؟»
أعاد الرجل الياباني النظر شزرًا إلى العجوز وهو يشبك ذراعيه كما هو وقال:
«ألستِ تقرأين الطالع؟»
«بلى».
«إذن ألا تعرفين ماذا أريد دون توجيه سؤال؟ أنا أيضًا جئت لكي تقرئي لي الطالع».
«تريد أن أقرأ لك الطالع بشأن ماذا؟»
فحصت العجوز هيئة الرجل الياباني بعد أن زادت شكوكها.
«إن ابنة سيدي مفقودة ولا نعرف مصيرها منذ ربيع العام الماضي. وأريد منك أن تعرفيه لنا».
قال الرجل الياباني ذلك وهو يضع كل قوته في كلامه حرفًا، حرفًا.
«إن سيدي هو قنصل اليابان في هونج كونج. واسم ابنته هو تايكو. وأنا اسمي إيندو السكرتير.. ما رأيك؟ أين تلك الابنة؟»
قال ذلك ووضع يده في الجيب السري لمعطفه، ثم أخرج منه مسدسًا.
«أليست موجودة بجوارنا؟ بناء على تحريات شرطة هونج كونج فمن خطف الابنة شخص هندي.. لن يفيدك الإخفاء».
ولكن لم يبد على العجوز الهندية مظهرًا، ولو قليلًا، من مظاهر الخوف. كلا، ليس هذا فقط، بل على العكس برزت على شفتيها ابتسامة استهانة.
«ماذا تقول؟ إنني لم أر وجه تلك الابنة في حياتي قط».
«لا تكذبي. فبالتأكيد من رأيتها تقف عند هذه النافذة هي الآنسة تايكو».
كان إيندو يمسك بإحدى يديه بالمسدس ويشير باليد الأخرى على باب الغرفة التالية.
«ومع ذلك، إن كنتِ تصرين على قولك، اذهبي وأحضري لي الفتاة الصينية التي هناك».
«إنها ابنتي بالتبني».
ضحكت العجوز بينها وبين نفسها ضحكات ماكرة كأنها تسخر منه.
«سنعرف من نظرة واحدة إن كانت ابنتك بالتبني أم لا. إن لم تأتِ بها فسوف أذهب أنا وأراها».
كان إيندو على وشك الدخول للغرفة التالية، فوقفت العجوز الهندية وحجبت عنه الباب بسرعة.
«إن هذا بيتي، ولا أسمح لشخص غريب لا أعرفه مثلك أن يدخله».
«ابعدي! إن لم تبعدي سأقتلك بالرصاص».
رفع إيندو المسدس. كلا، بل حاول أن يرفعه. ولكن في لحظة أصدرت تلك العجوز صوتًا كنعيق الغربان، فسقط المسدس من يده وكأن تيار كهربائي صعقه. ومن المؤكد أن حتى إيندو الذي تصرف بشجاعة قد أصابه ذهول شديد فظل لفترة من الوقت ينظر بدهشة في المكان من حوله، ولكنه استعاد سريعًا شجاعته مرة أخرى.
ثم انقض على العجوز كالنمر وهو يلعنها: «أيتها الساحرة الشريرة!»
ولكن العجوز لم تكن إنسانًا عاديًّا، فحركت جسمها برشاقة لتتفاداه ثم أمسكت المكنسة التي كانت بجوارها وكنست بها قمامة الأرضية على وجه إيندو التي كان ما زال يحاول الإمساك بها. وعندها تحولت القمامة كلها إلى شرارات نارية تحرق وجهه دون التفرقة بين عينيه وفمه.
وفي النهاية لم يستطع إيندو المقاومة فتوجه للخارج هاربًا وهو يتدحرج والشرارات النارية تلاحقه على شكل رياح دوامة.
-3-
اقترب الوقت من الثانية عشرة في تلك الليلة، كان إيندو يقف وحيدًا أمام بيت العجوز، وهو يتأمل بحسرة ظلال النيران المنعكسة على زجاج نافذة الطابق الثاني.
«من الأسف أنني لا أستطيع استعادة سيدتي الصغيرة رغم استطاعتي الوصول إلى مكان وجودها. هل من الأفضل إبلاغ الشرطة؟ كلا، كلا، لقد عانينا كثيرًا من بطء الشرطة الصينية حتى في هونج كونج. لو افترضنا جدلًا أن هربت مننا هذه المرة بالبحث عنها مجددًا فسيكون في هذا معاناة شديدة. ومع قول ذلك فهذه الساحرة العجوز حتى المسدس لا يفيد شيئًا معها».
مع تفكير إيندو هكذا، سقطت من النافذة قطعة من الورق.
همس إيندو لنفسه: «أوه! لقد سقطت قطعة من الورق.. تُرى هل هي رسالة من سيدتي الصغيرة؟»
ثم التقط الورقة خفية وأخرج مصباح الجيب ونظر إليها تحت أشعة الضوء الدائرية. فكانت على الرسالة المكتوبة في قطعة الورق آثار قلم رصاص يكاد أن ينمحي هو خط تايكو بلا أي شك.
«سيد إيندو! إن العجوز صاحبة هذا البيت ساحرة مخيفة. فهي تجعل إلهًا هنديًا يُدعى أجني في مرات عديدة يحل في جسمي في منتصف الليالي. وأكون أنا نائمة كالميتة في الفترة التي يحل فيها ذلك الإلهة في جسمي، ولذلك لا أدري ما الذي يحدث أثناء ذلك، ولكن طبقًا لما تقوله العجوز، فالإله أجني يستعير فمي ويتنبأ بالعديد من الأمور. وستقوم العجوز الليلة أيضًا بإنزال الإله أجني في الساعة الثانية عشرة. ما يحدث دئمًا أنني أغيب عن الوعي تدريجيًّا دون أن أدري، ولكن الليلة قبل أن يحدث ذلك، سأتظاهر متعمدة بأنني وقعت في السحر. ثم سأقول للعجوز إن لم تعدني إلى أبي فإن الإله أجني سيقتلها. أعتقد أن العجوز إن سمعت ذلك ستعيدني لأبي بالتأكيد، لأنها لا تخاف من شيء أكثر من الإله أجني. أرجو منك أن تأتي مرة ثانية في صباح غدٍ إلى العجوز. فليس لدينا وسيلة للهرب إلا هذه الخطة أمام قدرات تلك العجوز. الوداع».
بعد أن انتهى إيندو من قراءة الرسالة، أخرج ساعة الجيب ونظر فيها. الساعة الآن الثانية عشرة إلا خمس دقائق.
«لقد حان الوقت المحدد، فالطرف الآخر هي تلك العجوز! وسيدتي الصغيرة ما زالت طفلة، ما لم يكن لها مقدار عظيم من الحظ..»
قبل أن ينهي إيندو كلماته على الأرجح بدأ السحر بالفعل. نافذة الطابق الثاني التي كانت مضاءة حتى الآن، فجأة أظلمت تمامًا. وفي نفس الوقت، فاحت في هدوء رائحة بخور عجيبة لدرجة أنها تغلغلت في أحجار الطريق المبلط به شوارع المدينة.
-4-
في ذلك الوقت، كانت العجوز الهندية تفرد فوق المكتب في غرفة الطابق الثاني التي أُطفأ مصباحها كتاب السحر، وتردد طلاسم وتعاويذ مرة بعد مرة. كان الكتاب يجعل حروفه فقط تبرز عالية في غموض حتى في عتمة الغرفة التي ليس بها إلا أشعة نيران المبخرة.
تجلس إرين الذي بدا عليها القلق، بلا حراك على المقعد أمام العجوز.. كلا، بل هي تايكو التي أُلبست ملابس صينية. تُرى هل وصلت الرسالة التي ألقيتُ بها من النافذة منذ قليل إلى يد السيد إيندو بسلام؟ أعتقد أن ظل ذلك الرجل الذي رأيته في الطريق هو السيد إيندو بالتأكيد، ولكن أليس من المحتمل أنني أخطأت الشخص المطلوب؟ شعرت تايكو أنها لا تطيق هذه الفكرة. ولكن إن لمحت العجوز عليها هذا التفكير الآن في تلك اللحظة ستكتشف على الفور خطتها للهروب من بيت الساحرة المرعب هذا. ولذا ضمت تايكو يديها المرتعشتين، وظلت تنتظر اللحظة التي خططت لها سابقًا بفارغ الصبر لكي تتظاهر أن الإله أجني انتقل إلى جسمها.
رددت العجوز التعاويذ ثم بدأت تشير بيدها بحركات متنوعة وهي تدور حول تايكو. تقف أحيانًا أمامها وهي ترفع كلتا اليدين على اليمين وعلى الشمال، ثم تأتي خلفها في أحيان أخرى وكأنها تغمي عينيها، فتضع يدها بهدوء على جبهة تايكو. وفي ذلك الوقت، لو أن أحدًا كان يشاهد منظر العجوز من خارج الغرفة، فمن المؤكد أن الأمر سيبدو له كما لو أن وطواطًا أو ما شابه يدور طائرًا داخل أشعة نيران المبخرة.
وأثناء ذلك كانت تايكو، كما جرت العادة دائمًا، قد بدأت تظهر عليها بوادر النعاس. ولكنها لا ينبغي أن تنام الآن، فمن المنطقي أن نومها سيجعل غير قادرة على تنفيذ الخطة التي وضعتها. ولا ريب أن عدم قدرتها على تنفيذ الخطة سيجعلها غير قادرة على العودة إلى أبيها مرة أخرى.
«يا آلهة اليابان! أتوسل إليكِ أن تحفظيني ولا تدعيني أنام. ومقابل ذلك لو استطعت أن أرى وجه أبي مرة واحدة فقط فلا مانع من أن أموت بعدها على الفور. يا آلهة اليابان، أتوسل إليكِ أن تعطيني القوة لكي أخدع تلك العجوز».
استمرت تايكو تدعو في قلبها مرات ومرات. ولكن كان شعورها بالنعاس يتواصل ويزداد أكثر وأكثر. وفي نفس الوقت بالضبط بدأ يصل إلى سمعها أصوات موسيقيّة خافتة مجهولة المصدر وكأنها تطرق ناقوسًا نحاسيًّا مسطحًا. من المؤكد أنها تلك الأصوات التي تسمعها دائمًا عندما ينزل الإله أجني من السماء.
وعند هذا الحد مهما اجتهدت في الصبر على النوم لم تقدر إلا على النعاس! وعلى أرض الواقع كانت نيران المبخرة التي أمام عينيها بل حتى العجوز بدأت هيئتها تختفي تدريجيًّا مثلما تذبل صور الأحلام البغيضة.
«أيها الإله أجني أتوسل إليكَ أن تسمع ما أقول!»
أخيرًا، عندما رفعت الساحرة صوتها المبحوح وهي جاثية على ركبتيها فوق الأرض، دخلت تايكو في نعاس عميق دون أن تدري وهي جالسة على المقعد كما هي في حالة لا يُعرف تقريبًا هل هي حية أم ميتة!
-5-
لا ريب أن تايكو، وبالطبع العجوز كذلك، كانتا تعتقدان أن أحدًا لا يشاهد مشهد السحر هذا. ولكن في الواقع كان هناك رجل خارج الغرفة يتلصص عليهما من خلال ثقب مفتاح الباب. تُرى من يكون هذا الرجل؟ لا داعي بالطبع للقول إنه السكرتير إيندو ولا أحد غيره!
بعد أن قرأ رسالة تايكو، وقف لفترة في الطريق وقد قرر أن ينتظر إلى أن تشرق الشمس. ولكنه، عندما فكر في أمر سيدته الصغيرة، لم يستطع مواصلة الوقوف. وفي النهاية تسلل إلى داخل البيت خفية كاللصوص ووصل إلى تلك الغرفة بالطابق الثاني، وأخذ يتلصص عليها منذ فترة.
ولكن مهما قلنا إنه يتلصص، ففي أي حال هو مجرد ثقب مفتاح في الباب، ولذا ما استطاع رؤيته هو مجرد وجه تايكو من الواجهة وقد بدت كالميتة وتنصب عليها أشعة نيران المبخرة البيضاء الشاحبة. بخلاف ذلك لا تستطيع عين إيندو أن ترى لا المكتب ولا كتاب السحر ولا هيئة العجوز الجاثية على الأرض. ولكنه كان يسمع بوضوح صوت العجوز المبحوح كأنه في متناول يده.
«أيها الإله أجني، أيها الإله أجني، أتوسل إليكَ أن تسمع ما أقول!»
عندما انتهت العجوز من قول ذلك، بدأت تايكو الجالسة وكأنها لا تتنفس تتكلم فجأة وعينيها مغمضة كما هي. بل كان ذلك الصوت صوتًا رجاليًّا غليظًا لا يمكن تصديق أنه يصدر عن فتاة رقيقة مثل تايكو مطلقًا.
«كلا! إنني لن أستمع إلى توسلاتك! فأنتِ قد خالفت ما أقوله لكِ وترتكبين الشر دائمًا! إنني قررت أن أتخلى عنك بعد الليلة. كلا! بل علاوة على ذلك قررت أيضًا أن أعاقبك على شرورك!»
من المؤكد أن العجوز قد أصابها الذهول! فقط ظلت لفترة لا تجيب بشيء بل تصدر عنها أنفاس لاهثة فقط. ولكن استمرت تايكو تواصل الحديث بمهابة دون أي مبالاة بالعجوز.
«لقد اختطفتِ هذه الفتاة من يد أبيها المسكين. إن كنتِ تشفقين على نفسك ولا تريدين الموت، فمن الأفضل أن تعيدي تلك الفتاة بأقصى سرعة، لن أقول غدًا، بل الليلة».
ظل إيندو يتلصص من ثقب مفتاح الباب منتظرًا رد العجوز. وهنا بدلًا من أن تندهش العجوز وقفت فجأة أمام تايكو وهي تضحك ضحكات حاقدة.
«كفي عن الاستهانة بي! ماذا تظنيني؟ إنني لم أخرف بعد لدرجة أن أنخدع بكِ! أعيدك لأبيك بأقصى سرعة؟ إن الإله أجني لا يمكن أن ينطق بهذا القول، فهو ليس فردًا من الشرطة!»
شرعت العجوز سكينا لا ندري من أين أخرجتها ووضعتها أمام وجه تايكو مغمضة العينين.
«حسنًا، اعترفي بصراحة! إنها أنتِ التي تتظاهر باستخدام صوت الإله أجني أليس كذلك؟»
بالتأكيد حتى إيندو الذي يشاهد الموقف من بدايته لا يعرف هل تايكو نائمة حقًا أم لا! ولذا عندما رأى إيندو ذلك، ارتبك قلبه عفويًّا معتقدًا أن الخطة قد انكشفت! ولكن ظلت تايكو لا تحرك جفنًا واحدًا وأجابت وهي تضحك ساخرة:
«لقد اقتربت لحظة موتك! هل يبدو لك صوتي كصوت بشري؟ إن صوتي إذا همس تشتعل منه السماء! ألا تعرفين ذلك؟ إن لم تعرفي فافعلي ما بدا لك! ولكنني سأسألك سؤالًا: هل ستعيدين تلك الفتاة على الفور؟ أم إنك ستخالفين قولي؟»
احتارت العجوز قليلًا، ولكنها استعادت شجاعتها سريعًا، وجذبت تايكو ناحيتها بعنف وهي تمسكها من شعرها بيد وتمسك السكين باليد الأخرى.
«أيتها العاهرة! أما زلتِ تعاندين؟ حسنًا، حسنًا، كما وعدتك سوف أقتنص روحك بضربة واحدة!»
لوّحت العجوز بالسكين لأعلى. وإن تأخر لحظة فسوف تنتهي حياة تايكو. أنهض إيندو جسمه فجأة وحاول أن يفتح الباب المغلق بالمفتاح بالقوة. ولكن الباب لا ينكسر بسهولة. مهما دفعه أو طرقه كانت يده فقط التي تُجرح.
-6-
فجأة تردد في الظلام صوت صراخ من داخل البيت. ثم بعد ذلك سُمع أيضًا صوت كأنه سقوط أحد على الأرض. اصطدم إيندو بالباب تقريبًا كالمجنون وهو يضع كل قوى جسمه في كتفه وينادي على اسم تايكو.
صوت انشقاق ألواح خشبية، صوت تطاير قفل حديدي.. وأخيرًا تحطم الباب. ولكن المهم أن الهدوء كان يسود الغرفة ولا أثر لبشر، بل فقط نيران المبخرة البيضاء الشاحبة ما زالت تشتعل فيه.
دار إيندو بنظره حوله برعب معتمدًا على تلك الأشعة.
وعلى الفور استطاع أن يرى تايكو التي تجلس على المقعد دون حركة كالموتى. ولسبب مجهول كانت تثير في إيندو مشاعر المهابة والجلال وكأن أشعة مبهرة تنطلق من رأسها.
«سيدتي الصغيرة!»
ذهب إيندو إلى المقعد وقرب فمه من أذن تايكو ونادى عليها بكل اجتهاد. ولكن تايكو كانت مغمضة العينين مطبقة الشفتين.
«سيدتي الصغيرة، أرجوك أن تستيقظي! أنا إيندو!»
أخيرًا فتحت تايكو عينيها فتحة ضئيلة وكأنها كانت تحلم.
«السيد إيندو؟»
«أجل. أنا إيندو! لا تقلقي! أصبحتِ في أمان. هيا نسرع بالهرب من هنا!»
قالت تايكو بصوت ضعيف وكأنها ما زالت بين الحلم واليقظة:
«لقد فشلت الخطة! لأنني نعستُ دون إرادتي.. أرجو أن تصفح عني».
«لست أنت سبب انكشاف الخطة. ألم تنتهِ فعلًا من التظاهر بأن الإله أجني قد تقمصك؟ ولكن لا أهمية للأمر الآن. هيا نسرع بالهرب».
حضن إيندو تايكو وأنهضها من المقعد وهو في حيرة من الأمر.
«حقًا؟ لقد نمت بالفعل. ولا أدري ما قلتُ».
قالت تايكو بصوت هامس وهي تستند بجسمها على صدر إيندو.
«لقد فشلت الخطة. ولن أستطيع الهرب مطلقًا».
«لن أجعل ذلك يحدث. تعالي معي. سيكون الفشل هذه المرة مصيبة».
«أليست العجوز هنا؟»
«العجوز؟»
أدار إيندو بصره مرة أخرى على أرجاء الغرفة. كتاب السحر مفتوح فوق المكتب كما كان منذ قليل.. وتحته كانت العجوز الهندية منبطحة على ظهرها. العجوز ميتة في بحر من الدماء تغرز بيدها السكين في صدرها.
«ماذا حدث للعجوز؟»
«ماتت»
قضبت تايكو حاجبيها وهي تنظر إلى إيندو.
«أنا لا أدري شيئًا مطلقًا. يا سيد إيندو.. هل أنت من قتل العجوز؟»
نقل إيندو عينيه من جثة العجوز ونظر إلى وجه تايكو. وكانت تلك اللحظة التي أدرك إيندو أخيرًا فيها غرابة قوة الأقدار، فبالرغم من فشل خطة الليلة إلا أن موت العجوز، أتاح له استرداد تايكو سالمة.
«ليس أنا من قتلها. إن من قتل تلك العجوز هو الإله أجني الذي تنزّل الليلة على هذه الغرفة».
هكذا همس إيندو بمهابة وهو يحتضن تايكو.
الترجمة خاصة بـ Boring Books
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا ما تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.