لازم ندخل في صراع مع بعض عشان واحد مننا يحقق الاستقلال والحرية اللي عاوزها. هيجل بيوصف الصراع ده على إنه صراع حياة أو موت: «يانا يا انت».

جدل السيد والعبد

مقال: أمير زكي


لن أعيش في جلباب أبي

فاكرين مسلسل لن أعيش في جلباب أبي؟ فاكرين أول ما عبد الغفور راح للحاج سردينة عشان يلاقي لقمة عيش؟ ومستني أمر الحاج يشغله، وكل اللي تحت سردينة بيتأمروا عليه؟ طبعًا الحاج سردينة كان طيب، وسبب مهم لطيبته إنه خاض رحلة زي رحلة عبد الغفور، بس كلنا فاكرين ابنه محفوظ اللي متربي على العز كان عامل إزاي.

محفوظ ما كانش بيشتغل بإيده، كان بيدير بس، وتحت إيده وإيد أبوه عمال بيحركهم ويتأمَّر عليهم. لكن عبد الغفور كان طول الوقت بيشتغل بإيده، وجايبها من تحت: هو اللي في الشارع وعارف الشغل اليومي ماشي ازاي، وده مخليه أنصح من محفوظ وعارف حاجات أكتر منه. وحتى لما محفوظ والعامل مرسي كانوا بيحاولوا يتآمروا عليه كان بيطلع منها بشغله واجتهاده.

الحاج عبد الغفور مع الوقت عمل شغله الخاص وكان أنجح من محفوظ، في الحلقة 13 بنشوف محفوظ بيروح لعبد الغفور، بيقول له «يا حاج» عبد الغفور، مش «يا واد»، وبيطلب منه يتشاركوا.

فكرة الصعود اللي عند عبد الغفور دي بتفكرني بمفهوم فلسفي عند الفيلسوف الألماني هيجل، اتكلم عنه في كتابه المهم «فينومينولوجيا الروح».

كلمة فينومينولوجيا بتترجم أحيانًا «الظاهريات»، وهي كلمة كل فيلسوف سواء قبل أو بعد هيجل بيستخدمها بطريقة مختلفة. هيجل كان يقصد بها دراسة الظاهر، والمقصود الظواهر العقلية، أو التصورات العقلية اللي بنمر بيها في تجربتنا الإنسانية. أما «الروح» عند هيجل فدي مصيبة تانية، لأن الروح عند هيجل مش الروح اللي احنا نعرفها - «يا روح ما بعدك روح» - وإنما روح كلية موجودة في العالم، أو ممكن تكون هي أصلًا العالم.

الكلمة الألمانية اللي بيستخدمها هيجل هي geist، وهي ممكن تترجم بالعربي روح أو عقل. المشكلة دي مش موجودة في العربي بس، وإنما موجودة في الإنجليزي كمان. فيه مترجمين عرب تبنوا كلمة العقل، لكن أغلب العرب تبنوا ترجمة «الروح» بس خلوها مذكرة: «الروح المطلق»، عشان يفرقوا بينها وبين كلمة الروح الشايعة، وبكده مش هنلخبط نفسنا بين استخدام كلمة العقل الشايعة في ثقافتنا، ولا بين كلمة «الروح» المؤنثة برضو، هنتعامل على إنه مفهوم هيجل تحديدًا.

بالرجوع لموضوعنا، ففكرة كتاب هيجل هي إنه يدرس تطور الظواهر اللي بتوصل للروح الكلي اللي بنتكلم عنه.

من أبرز فصول الكتاب فصل بعنوان «جدل السيد والعبد»، الفصل ده مهم لأسباب كتير، منها إنه نص بارز في تاريخ الفلسفة، ومنها إنه بيعبر بشكل واضح عن منهج هيجل اللي بيتسمى المنهج الجدلي، وكمان لأن كتير من الفلاسفة والمفكرين استعانوا بالفصل ده لتوضيح أفكارهم الخاصة بيهم، وأخيرًا لأن اللي بيتكلم عنه هيجل هنا ممكن نكون بنشوفه أو يمكن حتى بنمارسه في حياتنا اليومية.

في الفصل ده هيجل بيتخيل وعيين ذاتيين (خلينا نقول شخصين)، كل شخص منهم بيستوعب إن عشان يكون ليه مكان في العالم لازم يوصل للاستقلال والحرية، ويكون قادر على تحقيق رغباته. المشكلة اللي بتقابله إنه مش لوحده في العالم، لأ ده فيه حد تاني يقدر يعطله عن الوصول لأهدافه دي، والشخص التاني ده عنده نفس الرغبات بالظبط. الشخصين دول بيستوعبوا إن فيه حتمية للصراع، يعني لازم ندخل في صراع مع بعض عشان واحد مننا يحقق الاستقلال والحرية اللي عاوزها. هيجل بيوصف الصراع ده على إنه صراع حياة أو موت: «يانا يا انت».

الانتصار في الصراع ده لازم له شروط، والشخص المستعد إنه يخاطر بحياته هو اللي يقدر ينتصر. أما الشخص اللي هيخاف وهيفضل يحافظ على نفسه وحياته ومش هيخاطر هو اللي هيخسر. بعد الانتصار، الطرف المنتصر مش بيقدر يموِّت المهزوم، ولكن هو محتاج اعتراف المهزوم باستقلاليته وحريته، وعشان كده بيستعبده. الاستعباد ده ليه ضرورة تانية: إن السيد يشغَّل العبد عنده، عشان يحقق له رغباته واحتياجاته. أما العبد اللي مش بيخاطر بحياته فهو مش بيلاقي الاعتراف اللي كان عاوزه من الأول، بيبقى مجرد عبد بيعترف بالسيد وبيعمل له اللي هو عاوزه.

هنا كل حاجة ممكن تقف مكانها وتتسكن، البشر سادة وعبيد، معلش يا بني هي الدنيا كده!

فريدريش هيجل

بس أكيد واحنا بنقرا حاسين إن فيه حاجة غلط، مش المفروض الوضع يبقى كده، وهيجل كان فاهم ده، عشان كده بيتكلم عن لحظة تانية في الجدل، لأن انتصار السيد ده، رغم انه انتصار، مش بيحقق له اللي هو عاوزه. يعني السيد بيحصل على اعتراف فعلًا، بس من شخص مش كامل الأهلية، شخص مش ند ليه، بالتالي ما يعتبرش اعتراف كامل.

فيه حاجة مهمة كمان بتحصل، إن العبد المهزوم، ولأنه بيشتغل بإيده وهو الوسيط بين السيد وبين الطبيعة، وهو اللي بيحقق رغبات السيد، بيبدأ يكوِّن وعي أكبر (وعي بذاته)، وبيفهم إنه مش مجرد عبد. ده السيد أصلًا محتاج له، ومن غير العبد، السيد ما كانش هيستمتع أو يستهلك حاجة.

الوضع دلوقتي إن العبد هو اللي بيواجه الموت يوميًا، وإن السيد هو اللي معتمد على العبد، وبتبقى فيه ضرورة إن الوضع ده يتساوى، والسيد بيستوعب ده، وحل المشكلة دي مش ممكن ييجي غير باعتراف متبادل بين ندين واعيين بحرية واستقلالية كل واحد فيهم.

خلينا في الواقع

لما العامل يستوعب إنه أصلًا مش أقل من الرأسمالي، بالعكس ده هو اللي بيشتغل، هيعرف إنه هو كمان إنسان ليه حقوق وأهلية

هيجل ما كانش حاطط المفهوم ده جوه إطار سياسي أو تاريخي أو اجتماعي بعينه، كان كاتب بشكل مجرد، على إن اللي بيحصل ده تطور للروح أو العقل، لكن ما كانش صعب على مفكرين بعده يحطوا المفهوم ده جوه إطار تاريخي وسياسي.

الماركسيين كانوا متأثرين بهيجل، ويمكن لو قرينا عن جدل السيد والعبد نعرف ليه ده واضح. فيه رأسمالي/سيد وفيه عامل/عبد، والرأسمالي يعتبر المنتصر في الصراع؛ بيستمتع ويستهلك شغل العامل ويراكم ثروة منه، في حين إن العامل اللي بيشتغل فعلًا وبيعمل السلع مش بياخد حاجة، يمكن مش بياخد غير أجر يكفيه يفضل عايش عشان يرجع يشتغل. بالتالي الرأسمالي محتاج العامل بالظبط زي السيد اللي محتاج العبد، وحتى بيدي له أجر عشان يفضل عايش ويشتغل. ولكن لما العامل يستوعب إنه أصلًا مش أقل من الرأسمالي، بالعكس ده هو اللي بيشتغل، هيعرف إنه هو كمان إنسان ليه حقوق وأهلية، ولما يستولي بنفسه على وسائل الإنتاج، مش هيفضل فيه سادة وعبيد.

فرانز فانون استخدم جدل السيد والعبد في كتابه «بشرة سوداء.. أقنعة بيضاء»، وفرق ببساطة بين معسكرين، معسكر البيض ومعسكر السود. فانون بيتكلم على إن البيض شايفين نفسهم أعلى من السود، في حين إن السود بيسعوا لإثبات استحقاقهم العقلي قدام البيض. لكن جزء من المشكلة إن التخلص من العبودية كان بأمر البيض، مش ناتج عن انتزاع حق من عند السود - وإن كان فانون عنده مشكلة مع «اعتراف السيد» بالمعنى الموجود عند هيجل، لأنه اعتراف نابع من معايير حطها أصلًا الراجل الأبيض، مش اعتراف بين ندين، وهيفضل اعتراف مختل ومش متسق.

سيمون دي بوفوار برضو خدت الجدل ده على العلاقة بين الرجل والمرأة، وشافت إن الوضع الحالي فيه اعتراف مختل بين الطرفين، حتى لو ما كانش وضع المرأة عبودية بالضرورة.

دي بوفوار بتقول في سياق عصرها (1949) ويمكن الكلام منطبق على كتير من دول العالم لحد دلوقتي: «مفيش بلد الوضع القانوني فيه للمرأة مطابق للراجل»، وحتى لو القوانين متطابقة «الرجالة بيلاقوا وظايف أحسن وأجور أحسن وفرص أحسن للنجاح»، وده كله رغم احتياج الطرفين لبعض بالمعنى الهيجلي.

بالتأكيد حل التوتر ده محتاج اعتراف متبادل، على مستوى عقلي وكمان على مستوى اجتماعي واقتصادي.

جدك القرد الفرفور

هنا بيكيت مش متفائل أوي زي هيجل، يعني وضع السيد والعبد بيبقى أشبه بالانحطاط المشترك مش الاعتراف المتبادل.

جدل السيد والعبد موجود طول الوقت حوالينا، سواء بين الدول وبعضها وبين المجتمعات وبين الأفراد كمان، ويمكن نكون بنصادفه بشكل يومي في سياقات الشغل والسياقات الأسرية، وعشان هو مفهوم أساسي في حياتنا كان ليه مكان برضو في الأدب.

في مسرحية صمويل بيكيت الشهيرة «في انتظار جودو» واللي ممكن نعتبرها أشبه بتصوره عن العالم، بيكيت ما اكتفاش بثنائية الرفقة أو الصديقين اللي مستنيين جودو، لكن كان فيه ثنائية تانية في المسرحية، والثنائية دي ببساطة عبارة عن ثنائية سيد وعبد، بوتسو ولاكي، بوتسو بيتحكم في لاكي تمامًا وبيدي له أوامر، ماسكه بحبل وبيستعبده، ولكن زي ما عرفنا هو برضو محتاج له. وفي المقابل، لاكي منسحق تمامًا قدام بوتسو، مش بس جسديًا، لكن كمان عاطفيًا. لاكي بيصعب على الشخصيتين التانيين، فلاديمير وإستراجون، لكن مش بيستقبل بود أي تصرف لطيف منهم. بالعكس، بيستقبل ده بعدوانية، هو مش بياخد الأوامر والعواطف غير من بوتسو، وهو مش بيقدر يمارس التفكير حتى من غير أوامره، رغم إنه هو أصلًا اللي علم بوتسو كل الأفكار اللي عنده.

بوتسو ولاكي، عن نيويورك تايمز

بيكيت ما كانش متفائل أوي تجاه الوضع الإنساني وكان بيسخر منه، في الفصل التاني والأخير بيظهر بوتسو ولاكي تاني، لكن بوتسو بيبقى أعمى، ولاكي (اللي كان بيفكر بصوت عالي في الفصل الأول) بيبقى أخرس. لاكي بيتكعبل وبيقع ويشد معاه بوتسو بالحبل اللي مربوط بيه، والاتنين بيحتاجوا مساعدة فلاديمير وإستراجون عشان يقوموا، وده ما حصلش بالساهل، لأن محاولتهم انهم يقوموهم انتهت أول مرة بأنهم وقعوا هما شخصيًا. هنا بيكيت مش متفائل أوي زي هيجل، يعني وضع السيد والعبد بيبقى أشبه بالانحطاط المشترك مش الاعتراف المتبادل.

في المسرح المصري، كتب يوسف إدريس مسرحية «الفرافير» اللي سهل فيها تلاقي مجاز مشابه للي كان بيتكلم فيه هيجل، وهنا بنشوف العبد (الفرفور) في المرحلة التانية أنصح وأذكى من السيد المتبلد اللي مستني كل حاجة تيجي له. إدريس برضو كان واعي إن السيادة والعبودية حاجة موجودة في التجربة الإنسانية:

«فرفور: هو انت يا أخي مش بني آدم زيي بالضبط، حتى إذا مشينا ورا داروين، انت اتطورت من قرد وأنا اتطورت من قرد زيك.

السيد: مين عارف يمكن جدك القرد ده كان قرد فرفور عند جدي.

فرفور: مفيش في القرود أسياد ولا فرافير أبدًا.

السيد: يبقى خلاص انت معايا بقى إن البني آدمين بس هما اللي بيقدروا يبقوا أسياد وفرافير».

لكن رغم اعتمادية السيد على الفرفور، لما بيفكروا يقتلوا حد، الفرفور مش بيعرف يعمل ده بإيده والسيد هو اللي بيعمل ده بنفسه. في الفصل التاني والأخير، الفرفور بيبدأ يعلن تمرده على اللعبة، وما بقاش عاوز يمثل تاني إنه فرفور ويبقى التاني سيده. لما يبدأوا يتفاهموا انهم يشتغلوا مع بعض «راس براس»، بيحسوا شوية إنهم مش مرتاحين. السيد والفرفور بيتأكدوا إن فيه مشكلة ولازم لها حل، وفي جزء كبير من الفصل بيبقى فيه حوار الغرض منه الوصول لحاجة زي عقد اجتماعي.

زي ما احنا شايفين هيجل اللي كتب «فينومينولوجيا الروح» سنة 1807، فضلت أفكاره مكملة وبيتم استخدامها يمكن لحد دلوقتي. لكن قصاد ده كان هيجل بيتعرض لانتقادات كتير على مر التاريخ برضو.

 من أبرز الانتقادات دي إنه فيلسوف عنده نسق مقفول، محبوس جوه جدلياته، اللي دايمًا بتاخد شكل مثلثات. يعني عشان نوصل للروح المطلق اللي اتكلمنا عنه أول المقال، بيبقى لازم يكون فيه جدل بين المنطق (الموضوع) والطبيعة (نقيض الموضوع) والمركب بينهم (الروح المطلق). وده ممكن يتطبق على جدل السيد والعبد. الموضوع: كل ذات لسه بتتعرف على نفسها، النقيض: الصراع وقسمة السيد والعبد، المركب: الاعتراف المتبادل.

لكن في مقابل انتقاد النسق المغلق ده بنلاقي حد زي سلافوي جيجيك بيقول إن تصور هيجل عن المستقبل منفتح دايمًا على الاحتمالات المختلفة. هيجل كان بيفسر تطور الروح والتاريخ والفلسفة لحد عصره، لكن ما كانش بيقول تنبؤات عن المستقبل، ولو كملنا على كلام جيجيك، فممكن نقول إن هيجل علمنا إن جدل السيد والعبد قائم، وإن فيه صراع حتمي، وفي لحظة بيبقى فيه اعتراف مختل (بيبقى فيه سيادة واستعباد)، لكن بتكون فيه لحظة برضو لازم يتحقق فيها الاعتراف المتبادل، لكن امتى ده هيحصل وفين وإزاي وعلى أي مستوى؟ كل الاحتمالات مفتوحة.


المقال خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه