الملكية الفكرية بصفتها مصدرًا رئيسيًا للريع

مقال لأسامة دياب

مراجعة جزئية لكتاب الحياة بعد الرأسمالية: أربعة احتمالات لبيتر فريز عن دار فيرسو

المقال خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.


عن موقع hinckley allen

طالما كان الريع مصدر إحراج للمدافعين عن الرأسمالية. إن الدفاع عن ضرورة وجود المدير الرأسمالي الذي يتحكم في وسائل الإنتاج أسهل [من الدفاع عن الريع]، لأن الرأسماليين الأيديولوجيين يمكنهم على الأقل الادعاء بأنهم [أي المديرين الرأسماليين] يفعلون شيئًا، سواء كان ذلك تنظيم الإنتاج أو ابتكار المنتجات أو مجرد المخاطرة الاقتصادية. لكن أصحاب الريع لا يخلقون أو يصنعون أو يفعلون أي شيء. - بيتر فريز

يقسم باحثو الاقتصاد السياسي أنماط الإنتاج والتراكم إلى رأسمالية وريعية، لا يرتبط التراكم الريعي بأنماط إنتاج قبل رأسمالية فقط مثل أنماط الإنتاج الخراجية أو البدائية أو الإقطاعية، بل يعتمد التراكم الريعي على القوة السياسية والقوة المادية المباشرة وليس آليات السوق والتبادل التجاري. بشكل أكثر تبسيطًا تعتمد أنماط التراكم الريعية على انتزاع قيمة أو ثروة أو مورد موجود بالفعل بينما تعتمد أنماط التراكم الرأسمالية على توليد القيمة ثم انتزاع جزء منها.

يجادل الكثير من باحثي الاقتصاد السياسي إن سيادة نمط ما من أنماط التراكم في مجتمع ما على حساب نمط آخر له الكثير من المآلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فتجنح، على سبيل المثال، الأنظمة الريعية سواء التاريخية أو المعاصرة لكونها أنظمة سلطوية ومغلقة ومحافظة بسبب اعتماد نخبتها على القوة السياسية والمادية لتحقيق التراكم. 

يجب الإشارة هنا إلى أن توصيف الأنظمة الريعية على إنها غير رأسمالية لا يعني إنها في حالة تضاد أو تتابع مع النظام الرأسمالي العالمي بل على العكس تمامًا جادل الكثيرون من منظرو الاقتصاد السياسي مثل روزا لوكسمبورج وديفيد هارفي أن النظام الرأسمالي ككل يحتاج على الدوام إلى مجالات غير رأسمالية يلجأ لها لحل تناقضاته، ولهذا اعتبر هارفي مصطلح "التراكم البدائي" primitive accumulation غير دقيق بسبب استمراره كنمط حتى هذه اللحظة بل وانتشاره وتوسعه في العقود الأخيرة ولهذا طور مصطلح "التراكم عبر انتزاع الملكية وسلبها" accumulation by dispossession. 

في كتابه "الحياة بعد الرأسمالية: أربع احتمالات" يقول ديفيد فريز أن الأتمتة (زيادة انتشار التكنولوجيا الموفرة للعمل) المتزايدة ستقضي على الأنماط الرأسمالية التي تولد فيها القيمة من العمل وفقا للنظرية الماركسية أو من الطلب وفقًا للنظرية الليبرالية. سواء كنتِ مؤمنة أن القيمة تولد عن طريق العمل أو الطلب، فالأتمتة ستؤدي إلى انخفاض مكون العمل بشدة وستؤدي أيضًا إلى زيادة المعروض كثيرًا عن الطلب. بعبارة أخرى، ستؤدي الوفرة الكبيرة التي ستنتج عن الأتمتة عن انخفاض قيمة المنتجات بشكل كبير لزيادة المعروض، وفي نفس الوقت ستؤدي الأتمتة لانتهاء أو على الأقل خفض بشدة الحاجة للعمل البشري المأجور.

ينتقد فريز التوقعات المستقبلية المبنية على التوسع في الأتمتة على إنها تأخذ في الاعتبار العامل التقني والتكنولوجي فقط وتتجاهل العامل السياسي، ويؤكد فريز أن ما يشكل عالم المستقبل -بالإضافة للتطور التكنولوجي والعوامل البيئية- هو التطور السياسي، وبما أن السياسة مسألة معقدة ويصعب التنبؤ بمساراتها، فعلى عكس أغلب الأدبيات التي تتناول سيناريوهات مستقبلية، لا يتوقع فريز سيناريو واحد لكن يتوقع أربعة سيناريوهات محتملة للمستقبل بناء على المتغير السياسي (فضلاً عن البيئي والتكنولوجي).

يقسم فريز السيناريوهات الأربعة بناء على متغيرين وهما الوفرة والمساواة، الوفرة (ومعكوسها الندرة) سيتم تحديدها بناء على التطور التكنولوجي والبيئي وأما المساواة فهي عملية سياسية واجتماعية بامتياز. المزج بين هذين المتغيرين يعطينا الأربعة سيناريوهات المحتملة للمستقبل، فإما أن يشهد عالمنا الوفرة مع المساواة وهو ما يسميه فريز المستقبل الشيوعي، أو الندرة مع المساواة ويطلق عليه فريز المستقبل الاشتراكي أو الندرة مع اللامساواة ويطلق عليه الإبادية وهو ما ناقشه حسين الحاج في مقال سابق، والسيناريو الرابع وهو الريعية Rentism يجمع ما بين الوفرة واللامساواة وهو موضوع هذا المقال.

يقول فريز إن من سيتحكمون في أكبر قدر من حقوق النسخ وبراءات الاختراع سيصبحون الطبقة الحاكمة الجديدة، وأن هذا النظام لن يكون كالرأسمالية التي عهدناها لأنه يعتمد على الريع بدلا من التراكم الرأسمالي عبر إنتاج السلع.

كما أسلفنا الذكر، الريع باختصار هو ربح ناتج عن ملكية أصل ما وليس نتيجة لعملية إنتاجية أو حتى التجارة. من هذا المنظور يعتبر الريع نشاطًا نازعًا للثروة وليس خالقًا لها. تعاملت نظريات الاقتصاد الكلاسيكي مع الأرض باعتبارها المصدر الرئيسي للريع لكن مع تطور الاقتصاد بعيدًا عن الزراعة وإلى مجالات الصناعة والخدمات، لم يقل أهمية الريع لكن تغير شكله ليشمل الموارد الطبيعية والطرق الملاحية والأوراق المالية وأيضًا حقوق الملكية الفكرية، ومع اشتداد أزمات الإنتاج الزائد المزمنة في الاقتصاد العالمي الناتج عن التطور المستمر في قوى الإنتاج، تحولت أجزاء أكبر من رأس المال إلى الأنشطة الريعية مما أدى لأمولة الاقتصاد واشتد الاستثمار الاقتصادي والسياسي والقانوني في الحقوق المعنوية أو ما يسمى بالملكية الفكرية، لدرجة أنها أصبحت تشكل 39 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي الأوروبي و90 بالمائة من الصادرات الأوروبية ناتجة من صناعات كثيفة الملكية الفكرية.

عندما نسمع مصطلح ملكية فكرية غالبًا ما يذهب تفكيرنا للحقوق الإبداعية مثل حق مؤلف الرواية أو الملحن أو المصور في عمله الإبداعي، لكن الملكية الفكرية الآن اتسعت لتشمل براءات اختراع الأدوية وحقوق استخدام العلامات التجارية والبرمجيات المغلقة. يقول فريز في توصيفه للعالم الريعي إن في ظل عالم يمتاز بالوفرة ستفقد ملكية الأشياء الملموسة قيمتها، وأن القوة ستأتي من احتكار الأفكار من قبل فئة صغيرة من الناس، فحتى لو أصبحت المنتجات التي تنتجها الطابعات ثلاثيات الأبعاد والروبوتات وبرمجيات الذكاء الاصطناعي متاحة ووفيرة، فالشفرات والبرمجيات التي تشغل عوامل الإنتاج تلك لن تكون بنفس مستوى الوفرة، ويستعين فريز هنا بمقولة "أن من يملك الروبوتات سيحكم العالم"، لكن يضيف أن تملك الروبوتات هنا لن يعني وفقًا لهذا السيناريو التملك المادي للأسلاك والحديد الذي يتكون منه الروبوتات بل أيضًا للشفرة التي تجعل منها كيانات منتجة.

ما تجاهله فريز هو البرمجيات المفتوحة وهي حركة اجتماعية تلعب بالفعل دورًا في عالمنا الحالي بتطوير بدائل مجانية ومفتوحة المصدر للبرمجيات المغلقة ومرتفعة التكلفة، وأيضًا أن العالم حاليًا بشكله الحالي يتزايد فيه فعليًا دور الريع عن طريق ظواهر مثل الأمولة (زيادة حجم القطاع المالي من الاقتصاد) المتزايدة للاقتصاد والانتشار الهائل والمركزية المتزايدة للدور الذي تلعبه الملكية الفكرية في اقتصاديات اليوم ما بعد الصناعية خاصة في الرأسماليات المتقدمة. وأخيرًا، لا يشرح فريز أيضًا بما يكفي ماذا ستجني هذه الأقلية المحتكرة للملكيات الفكرية مقابل "بيع" حقوق الملكية الفكرية تلك في ظل نظام ما بعد رأسمالي يتسم بالوفرة وانهيار القيمة وغياب التبادل التجاري الناتج عن عودة الإنتاج اللامركزي.