اقتباسات من كتاب روح امرأة لإيزابيل ألليندي الصادر عام 2020

اختيار وترجمة: مريم ناجي

الترجمة خاصة بـ Boring Books

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.

إيزابيل ألليندي، عن chatelaine

(1)

عادةً ما تبدو النَسوية مُخيفةً لأنها تَظهر بمظهر ثَوري وتُفسَّر على أنها كراهية الرجال. قبل أن استرسل في حديثي عليَّ أن أوضح التالي لبعض قُرائي. لنبدأ بمصطلح الأبَويَّة (البَطريَركيَّة).

لربما يختلف تَعريفي للأبَويَّة قليلًا عن تعريف ويكيبيديا أو قاموس ويبستر. كانت تعني في الأصل السيادة المطلَقة للرجال على النساء وعلى مخلوقاتٍ أخرى، وعلى الطبيعة نفسها، لكنَّ الحركة النسوية قلَّصتْ من هذه السلطة في بعض جوانبها، بالرغم من أنها في جوانبها الأخرى ما تزال راسخةً كما حالها منذ آلاف السنين. ومع أن الكثير من القوانين التمييزية قد تغيرت، إلَّا أن النظام الأبَويُّ مستمرٌ في كونه النظام المُتَّبع في الاِستبداد السياسي والاقتصادي والثقافي والديني، مُتيحًا التَسَلُّط والاِمتيازات لجنس الذكور. بعيدًا عن المِيسوجينية -كراهية النساء- يشمل هذا النظام أشكالًا متعددةً من الإقصاء والاِستبداد: منها العنصرية ورُهاب المِثليَّة والطَبَقيَّة وكُرهِ الأجانب والتَعَصُّب ضد أي أفكار مختلفةٍ أو أناسٍ مختلفين. يُفرَضُ النظام الأبَويُّ بالعدوانِيَّة؛ يتَطلب الاِنصِيَاع ويُعاقب من يتصدُّى له.

وما هو تعريفي للنسويَّة؟ إنها ليست ما بين سيقاننا، بل ما بين آذانِنا. إنها موقفٌ فلسفي واِنتفاضةٌ ضد السُلطة الذكورية، طريقةٌ لفهم العلاقات الإنسانية ولرؤية العالم، اِلتزامٌ بالعدالة وكفاحٌ لتحرير النساء ومجتمع الميم وأي شخصٍ يضطهده النظام، بمن في ذلك الرجال، وكل الراغبين في الانضمام. أهلًا بكم! عَظمَتُنا في كثرتُنا. 

أردتُ في شبابي المُنَاضلة لأجل المساواة، أردتُ المشاركة في لُعبةِ الرجال. لكن تَوصلتُ خلال سنين نضجي إلى إدراك أن تلك اللعبة هي بمثابة رُعونةٍ خَالصة؛ إنها تُدمر الكوكب والقَوام الأخلاقي للإنسانية. لا تَدور النسوية حول تكرار الكارثة، بل حول رَتقها وإصلاحها. وكنتيجةٍ، بطبيعة الحال، تواجهُ قوىً رَجعيةٍ قاهرة، مثل الأصولية والفاشية والأعراف، وأشياء كُثر. من المُحزِن رؤية أن من بين قوى المعارضة نساءٌ يرهَبن التغيير وليس في اِستطاعتِهن تَخيُل مستقبلٍ مختلف. 

الأبَويُّة مُتَحجرة. إنما النسوية كَما المُحيط؛ سائلة وعتيدة وعميقة وتَنطوي على التعقيد المُطلق للحياة، إنها تتحركُ في أمواجٍ وتياراتٍ ومُدود، وفي عواصف أحيانًا. لا تستَكِين النسوية أبدًا، تمامًا مثل المحيط.

(2)

تقول الشاعرة والناشطة سيلفيا پلاث إن مأساتها الأعظم أنها ولِدتْ اِمرأة. في حالتي أنا، كانت نعمةً. حَظيتُ بفرصة المشاركة في ثورة النساء، التي تُغيِّر الحضارة بينما تزداد رسوخًا، وإن كانت تسير ببطء سلطعون. كلما عشتُ أطول اِزددتُ سعادةً بجنسي، لأنه مَكَّنني تحديدًا من ولادة پاولا ونيكولاس. تلك التجربة التي تَفوق حدود التَصور، والتي لا يمكن للرجال خَوضها، هي ما مَنح وجودي تعريفًا. أسعد لحظات حياتي كانت عندما أحمل وَليدًا بين ذراعي. وأقسى لحظةٍ في حياتي كانت حين حملتُ اِبنتي المُحتضرة بين ذراعي.

لم يَرُق لي الأمر على الدوام أن أكون اِمرأة. أردتُ وأنا فتاة أن أكون ذكرًا لأنه كان جَليًّا أن أشقائي ينتظرهم مستقبلٌ شيقٌ أكثر مني. لكن هُرموناتي خانتني؛ ظَهر لي خصرٌ وتَكتلان فوق صدري وأنا في الحادية عشر من عمري. ثم بدأتُ أفكر في حتى إن لم أصبح رجلًا، فباستطاعتي أن أعيش حياتي مثله. وحَققتُ هذا بالإصرار والجَهد والحظ.

من المَنطقي أن قليلاتٍ من النساء على وِفاقٍ مع أنوثتهن مثلي لأنهن كَابدن من إجحافٍ مطلق كما لو أنها لعنة، لكنه يحدث، برغم أنف كل شيء، أن نُحب كوننا نساء. البديل يبدو أسوأ. ولحسن الحظ، فإن عدد النساء اللواتي تَمَّكن من التغلب على العوائق المفروضة عليهن في تزايد. المطلوب هو رؤيةً واضحة وقلبٌ شغوف وإرادةٌ بطولية لتذليل إنهاك الرحلة وهزائمها. وهذا هو ما نُحاول غَرسه في بناتِنا وحفيداتنا.

(3)

بينما يتَردَّى جسدي، تَنتعش روحي. أظن كذلك أنَّ عيوبي ومزاياي تزداد وضوحًا. أُضيِّع وقتًا طويلًا وأقضيه مُشتتةً أكثر من ذي قبل، لكنِّي أصبحت أقل غضبًا؛ اكتسبتْ شخصيتي شيئًا من اللين. اِزداد شغفي بالقضايا التي نَصرتها دائمًا وبالناس القلائل الذين أُحبهم. لا أخاف هشاشتي لأني ما عُدت أخلطها بالضعف. بإمكاني عَيش أيامي وذراعيَّ وأبوابي وقلبي مفتوحين. وهذا سببٌ آخر يدعوني للاحتفال بعمري وجنسي؛ أنني لستُ مضطرةً لإثبات رُجولَتي، كما تقول جلوريا ستاينِم. لذا فأنا لستُ ملزمةً لأنمَّي صورة الجَلَد التي رسَّخها جديَّ بداخلي والتي أفادتني بشدةٍ في بداية حياتي لكن ليس بعد الآن، بإمكاني أن أطلبُ المساعدة وأن أكون عاطفيةً.

من وقت وفاة اِبنتي وأنا واعيةٌ تمامًا بدُنوِّ الموت، وحاليًا، في سبعينيات عمري، غدتْ المَنيَّة صديقتي. ليس صحيحًا أنها هيكلٌ عظمي مُسلحٍ بمِنجَل وتتبع أثرها رائحةٌ عَطنة، بل هي سيدةٌ ناضجةٌ وأنيقة تَعبق بشذى زهور الجاردينيا. في البداية كانت تتربص وتحوم في الحَي، ثم في البيت المجاور، ثم الآن، تنتظرُ بصبرٍ في حديقتي. أَمُرُّ من أمامها أحيانًا، نُحيي بعضنا وتُذكِّرني بأنه عليَّ الاستمتاع بيومي هذا وكأنه الأخير.

اِختصارًا، أنا أعيشُ في لحظةٍ مدهشةٍ من مَصيري. هذه أخبارٌ طيبة لعامة النساء: تسهُل الحياة بعد اِنقضاء سن اليأس واِنتهائنا من مهمة تربية الأطفال، فقط لو خَفَّضنا توقعاتنا، وأقلعنا عن التَضَجُّر، واِسترخينا في دِرايتنا بأنه مَا من أحد، عدا أولئك المقربين منا، يعبأ بتاتًا بكينونتنا وأفعالنا. لنتوقف عن الادعاء، عن التزييف، عن النحيب وجَلدِ ذواتنا على أشياء سخيفة. علينا أن نحب أنفسنا ونُحب الآخرين دون إجراء حِسبةٍ لمقدار ما نتلقاه من الحب في المقابل. هذه مرحلة الرأفة.

(4)

أن تكوني اِمرأة يعني أن تَعيشي حياتكِ خائفة. الخوف من الرجال موجودٌ في الحمض النووي لكل اِمرأة؛ تُفكر مرتين قبل فَعل أي شيءٍ روتيني مثل المشي أمام مجموعةٍ من الرجال. في أماكن مفترضٌ أن تكون آمنة مثل الحرم الجامعي أو مؤسسة عسكرية، هناكَ برامج تُعلِّم النساء كيفية تَجنب المواقف الخَطرة، ثم يُفتَرض أنها لو هوجِمت، فسيكون هذا خطأها؛ لقد كانت في المكان الخطأ والوقت الخطأ. لا يُتوقع من الرجال أن يُغيروا من سلوكهم، بل على العكس، فالتَعدِّي ليس مسموحًا فحسب، بل يُحتَفى به على أنه حقُ الرجل وإثباتٌ لرجولته. يتغير هذا سريعًا لحسن الحظ، على الأقل في بلدان العالم الأول، ويعود الفضل لحركة MeToo (أنا أيضًا) ومبادراتٍ نسوية أخرى.

مثالٌ حيٌّ ومتطرف لما ذُكر أعلاه هو النِسوة اللواتي يَعشن مدفوناتٍ في البراقع التي تُغطيهن من أول رؤسهن إلى أخمص أقدامهن ليتجنبن إثارة شهوة الرجال. من الواضح أن للرجال غرائز بَهِيمِيَّة تَهتاج بمرأى بوصةٍ من جلد أنثى أو جوربٍ أبيض. وهذا يَعني أن المرأة تُعاقب على ضَعف الرجال ونواقصهم. أُدركَ أن بعضًا من النساء يخترن اِرتداء النقاب لأنهن يتَّبعن اِملاءتِ دينهن. ومع ذلك فإن بعض النساء مرتعباتٍ من الرجال لدرجة أنهن يُدافعن عن اِرتداء النقاب بحجة أنه يَسمح لهن بأن يَكُن محجوبات، وبالتالي، آمِنات. والحقيقة هي أن على كل إنسان أن يَشعر بالأمان في هذا العالم.

يقول الكاتب إدواردو جاليانو أنه «في النهاية، خوف النساء من عُنف الرجال ما هو إلا اِنعكاسٌ لخوف الرجال من النساء المتحررات من الخوف». كلامٌ طيب لكن دَلالته تُحيرني. كيف لنا ألَّا نخاف إن كان العالم يتواطأ لبثِّ الرعب في قلوبنا؟ قليلات هن النساء المتحررات من الخوف، إلا حينما نُصبح معًا. نشُعر، بين المجموعة، بأننا لا نُقهر.

ما هو أساس هذا المزيج المُتفجِّر من اشتهاء النساء وكراهيتهن؟ لماذا التعدِّي والتحرش ليسا من اِعتبارات الحقوق المَدنيَّة أو حقوق الإنسان؟ لماذا تُكتم أصوات النساء؟ لماذا ليس هناك حربٌ مُعلَنةٌ على هذا العنف، تمامًا مثل مُحاربة المخدرات أو الإرهاب أو الجرائم؟ الإجابة واضحةٌ: العنفُ والخوف هما وسيلتان للسيطرة.

(5)

آنَ أوان الحديث عن روجر كما وَعدتُ.

الدُروس الراسخة في ذاكرتي التي تَعلَّمتها في مدرسة جدي الصارِمة كانت شديدة النَفع لِي. لقد شَكَّلت شخصيتي وساعدتني على التغلب على أوقاتٍ عَصِيبة، لكنها أثرت عليَّ تأثيرًا سلبيًا في علاقاتي العاطفية. أنا لا أرضخ؛ فأنا مُكتفيَّةٌ بذاتي ومستقلةٌ، لذا يَسهل عليَّ أن أمنح ويَشق عليَّ أن أتلقى. لا أَقبل الخدمات إلا إن كان باِستطاعتي رَدها، أكره تَلقي الهدايا ولا أسمح لأي شخصٍ بأن يحتفل بعيد ميلادي. كانت إحدى أكبر التحديات التي واجهتني هي تَقبُل هشاشتي، لكن أصبح الأمر هينًا الآن والفَضل يرجع لحُبي الجديد، والذي آملُ أنه سيكون الأخير.

في يومٍ من أيام مايو 2016، سَمعني محاميٌ أرمل من نيويورك اسمه روجر، سَمعني على الراديو وهو يَقود سيارته من مانهاتن إلى بوسطن. كان قد قرأ عددًا من أعمالي، وبالتأكيد شيئًا ما قلته جَذب انتباهه لأنه كتب رسالةً وبَعثها إلى مكتبي. أجبته وواصلَ الكتابة صباح مساء لخمسة أشهر. أُجيب عادةً على أول رسالةٍ يُرسلها القارئ لأنه سيكون من المحال الاستمرار في مراسلةٍ مع مئات الناس الذين يكتبون لي، لكن مُثابَرة أرملُ نيويورك هذا أذهلتني؛ وبقينا على اِتصال.

تشاندرا مُساعِدتي في ذلك الوقت، والتي كانت مُدمنةً على مشاهدة مسلسلات المُحققين، ولديها أنف بلودهاوند[1]، قررتْ أن تجدَ لي كل ما يمكن إيجاده عن الأرمل الغامض. قد يكون سيكوباثًا، لا أحد يعرف. لن تُصدق مِقدار المعلومات المتاحة لمن يرغب التعمق في حياة المرء الشخصية. ويَكفي القول إن تشاندرا ناولتني ملفًا كبيرًا اِشتمل حتى على رقم رخصة قيادة الرجل وأسماء أحفاده الخمسة. توفيتْ زوجته من عِدة سنوات، يعيش وحيدًا في بيتٍ شاسع في سكيرديل بنيويورك، يَستَقل القطار إلى مانهاتن يوميًا، ويقع مكتبه في بارك أفينيو، إلخ. حَذرتني تشاندرا بقولها: «يبدو أنه لا تشوبه شائبة، لكن لا يمكننا أن نثق بأحد؛ قد يكون مُتواطئًا في خطة بريندا»[2].

سافرتُ في أكتوبر إلى نيويورك لحضور مؤتمر واِلتقيتُ بروجر أخيرًا. وتَيقنتُ أنه نفس الشخص الذي تَعرفتُ عليه في الرسائل والذي تَقصت تشاندرا أمره؛ شَفَّاف. رَاق لي، لكن لم يكن وَقعه مثل صاعقة برقٍ من هَوىً غير متوقع، مثلما حدث مع ويلي حين كنتُ في الخامسة والأربعين. يؤكد هذا ما قُلته سابقًا عن الشغف: الهرمونات غاية في الأهمية. دَعاني روجر إلى العشاء، وبعد نصف ساعةٍ من وصول الطعام، سألته صراحةً عن نواياه. «أنا في الرابعة والسبعين من عمري وليس عندي وقتٍ لأُضيعه». اِختنق بمعكرونة الرافيولي التي كان يأكلها لكنه لم يَفر هاربًا كما كنتُ سأفعل لو كان قد نَصب لي كمينًا هكذا.

قضينا ثلاثة أيامٍ معًا، ثم عُدتُ إلى بيتي. كان ذلك الوقت كافيًا ليُقرر روجر بما أنه قد عثر عليَّ، فإنه لن يدعني أضيع من بين يديه. طَلب مني أن أتزوجه في المطار، أجبته كما ستُجيبه أي سيدةٍ ناضجة ومحترمة: «الزواج مرفوضٌ بلا شك، لكن إن كنتَ تنوي السفر باستمرارٍ إلى كاليفورنيا، فبإمكاننا أن نكون عُشاقًا. ما رأيك؟» يا له من مسكين، ماذا كان بيده أن يجيب؟ موافقٌ طبعًا.

وكان هذا ما فعلناه لعدة أشهر حتى أصبح مجهود اللقاء في نهاية الأسبوع بعد يومٍ طويل من السفر أمرًا مبالغًا فيه. باع روجر منزله القديم المليء بالأثاث والأشياء والذكريات، وتخلى عن كل ما احتواه وانتقل للعيش في كاليفورنيا مع دراجتين وملابسه التي بدَّلتها له لاحقًا لأن موضتها قديمة. قال قلقًا: «إن لم ينجح هذا فسأكون مشردًا أعيش أسفل الجسر».

*

اِختبرنا علاقتنا لسنةٍ وسبعة أشهر؛ نَعيش معًا في منزلي الصَغير بُصحبة الكَلبين. كان على كِلينا المُساومة؛ أنا كان عليَّ التسامح مع فوضويتِه وهو مع طِباعي المتسلِّطة، وحرصي الشديد على اِنضباط مواعيدي، وهوسي بالكتابة الذي لا يُتيح لي الكثير من أوقات الفراغ لأي تجارب أخرى. تَعلمنا رقص الأحِبَّة الرقيق، حيثما يتماشى الحبيبان ويتحركان معًا على ساحة الرقص دون أن يَدوسا على أصابع بعضهما. تزوجنا حين كنا على ثقةٍ بأننا سنطيق بعضنا لأنه كان من النوع المحافظ وأقلقَتهُ فكرة أننا نعيش في الخطيئة. كان زِفافًا حميميًا أُقيم بصحبة أولادنا وأحفادنا فقط. كلهم كانوا في سُعداء بهذا الزواج لأنه يعني أنه ليس عليهم رعايتنا، لحد الآن؛ أنا وروجر سنرعى بعضنا لأطول وقتٍ ممكن.

كانت أمي ستكون سعيدةً لأجلنا كذلك؛ أخبرتني قبل موتها بأيامٍ أن أتزوج روجر لأنها لا تُرغب في أن أكون عجوزًا ووحيدة. شرحتُ لها أنني لا أشعر لا بالعجز ولا بالوحدة. جادلتها قائلةً إن: «عِندي عَشيقٌ مثالي ينتظرني في كاليفورنيا، فلماذا عليَّ الزواج من زوجٍ ليس بمثالي؟»، أجابتني: «لا يدوم العُشاق للأبد لكن الزوج هو فريسةٌ لا حول لها ولا قوة».

*

أشعر بشيءٍ من الحَرج للاعتراف بأنني أعتمدُ على عَشيقي/زوجي في عِدة مهامٍ كنتُ أنجزها بسهولةٍ في السابق، مثل تَعبئة خزان الوقود في السيارة وتَبديل المصابيح. وُلِدَ روجر وترعرع في برونكس، وهو ثمرة أبوين بولنديين، لديه يدا فلاحٍ غليظتين وشخصيةٌ وَديعةٌ لَينة. إنه يُساعدني في التعامل مع مُضايقات العالم دون أن يُشعرني بأنني بلهاء. أنا فَرحةٌ لأنني أطعتُ أمي حين قالت لي أن أتزوجه. إنه فريسةٌ لا حول لها ولا قوة من النوع الخَيَّر؛ وآمُل ألَّا يتغير.

سأل اِبني روجر عن شعوره حين قابلني، فأجاب مُتوردًا خجلًا: «شعرتُ مثل مراهق. وأشعر الآن بأنني طفلٌ يَصحو يوميًا وهو يعرفُ أنه ذاهبٌ للسيرك». كل شيءٍ نسبي. هذه أكثر الأوقات هدوءًا في حياتي؛ لا وجود للميلودراما. على الناحية الأخرى، يظن روجر أن الإثارة اليومية حولي لا تنضب أبدًا، لا يوجد وقتٍ ليشعر بالملل. ربما فاته شيءٌ من السأم.

وبماذا شعرتُ أنا حين قابلته؟ بالفضول، وبرفرفةٍ مُحَدَّدة في معدتي كانت ستؤول بي في الماضي إلى فعلٍ متهور، لكنها تُحذرني الآن لأمضي برويةٍ وحرص. وأنا لا أُنصِت. نَظريتي ودَيدَني أن أقول للحياة إني موافقة، وأرى كيف سأُصرِّفُ أموري أثناء الطريق.

اِختصارًا، بما أنني عَثرتُ على حبيب، فهناك أملٌ لكل اِمرأة عجوز ترغب أنِيسًا يجاورها.

(6)

وِفقًا لما كتبته ريبيكا سولنيت في كتابها «رجالٌ يشرحون لي الأشياء»، فإن «النسويَّة هي مُناورةٌ لتغيير شيءٍ عتيقٍ ورائج ومتجذرٍ بعمق في الكثير -إن لم يكن في المُعظم- من الثقافات حول العالم، وفي مؤسساتٍ لا تُعد ولا تحصى، وبين أغلب الأُسر على وجه البسيطة، وفي أذهاننا، حيثما يبدأ وينتهي كل شيء. لذا فإن التغيير الهائل الذي حدث في الأربعة أو الخمسة عقود الماضية مدهشٌ؛ وحقيقة أن كل شيءٍ لم يتغير بثباتٍ وعلى نحوٍ قاطعٍ ولا رجعة فيه، هي ليست بعلامةٍ على الفشل».

تفَكيك النظام الذي يَحوي الحضارة هو أمرٌ في غاية الصعوبة، ويلزمه وقتٌ طويل، لكننا نُحققه خطوةً بخطوة. طَويلةٌ هي المَهمة المعقدة والمُشَوِّقة لإنشاء نظامٍ جديد يَستبدل القديم. إننا نتقدم خطوتين للأمام، ونعود واحدةً للوراء، نتعثر ونسقط، ننهض، نُخطئ، ونحتفي باِنتصارتٍ عابرة. تأتي لحظاتٌ من خيبات الأمل الشنيعة وأخرى من المِحفزات المَهولة كما كان الحال في حركة MeToo ومسيرات النساء المهيبة في الكثير من المدن حول العالم. لا شيء بإمكانه رَدعنا إن تشاركنا رؤيةً للمستقبل وصممنا على تحويلها إلى حقيقةً معًا.

النظام الأبويَّ لم يوجد منذ الأزل؛ إنه ليس كامِنًا في الحالة البشرية، بل تفرضُه الثفافة قسرًا. لقد خَلدَّنا حضورنا على الكوكب منذ اِختراع الكتابة، من حوالي خمسة آلافٍ سنة في بلاد الرافدين، وهذا ليس بشيءٍ مُقارنةً بالمائتي ألف سنة تقريبًا من وجود الإنسان العاقل. كُتبَ التاريخ على أيدي الرجال، وهؤلاء يُمجِّدون الحقائق أو يمحونها على هواهم. النصف الأنثوي من البشرية مجهولٌ في التاريخ الرسمي.

من تصدَّى للماتشيزمو[3] قبل حركة تحرير المرأة؟ العنصرية، الاستعمار، التَسخير، التَمَّلك، تَوزيع الدخل، وُضِعتْ كَل تَجليات النظام الأبوي أسفل مجهر المُساءلة، لكن النساء لم يَكُنَّ ضمن تلك التحليلات. اُفتُرض أن الانقسام الجندري هو حتميةٌ بيولوجية أو مقدسة، وأن الطبيعي هو أن تَقع السلطة في أيدي الرجال. لكن لم يَسر الأمر على تلك الشاكلة دومًا. وُجِدتْ أشكالًا أخرى من التنظيم قبل الهيمنة الذكورية. لنحاول أن نتَذكَّرها أو نتخيلها.


[1] أنوف كلاب البلودهاوند ماهرة في ترصد الروائح وتَعقُبها.

[2]  كانت بريندا ديلجادو من المطلوب في مكتب التحقيقات الفيدرالي، وقُبض عليها في تلك السنة، حيث كانت متهمة بقتل صديقة حبيبها السابق بالتواطؤ مع عِدة أشخاص، وظلتْ هاربة لوقتٍ طويل.

[3] يُشير مصطلح الماتشيزمو (machismo)  إلى الفخر والسلوك، وليس فقط الأفكار، العدواني الذكوري الذي يؤكد على أهمية القوة الجسدية والمعنوية عوضًا عن الصفات الإنسانية مثل الذكاء والمُراعاة؛ ذكورية مُضخمة إن جاز التعبير. تَعود جذور الكلمة إلى الإسبانية الميكسيكية، من macho بمعنى ذكر، ودخلت للإسبانية من اللاتينية.