احتياج الأنثروبولوجيا إليكِ يفوق حاجتك إليها
رسالة لشلني شنكر*
نشرت على موقع مجتمع اﻷنثروبولوجيا الثقافية في 2018
ترجمة: خديجة عواد
* شلني شنكر: أستاذة أنثروبولوجيا لغوية وثقافية ودراسات آسيوية أمريكية في جامعة نورثويسترن بالولايات المتحدة اﻷمريكية.
الترجمة خاصة بـ Boring Books
تحتفظ المترجمة بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها
مقدمة سلسلة «من الندية إلى العلائقية: إمكانات أنثروبولوجية»:
في اﻵونة اﻷخيرة، وجّه مجموعة من الباحثين الشباب النشطين إلى حقل اﻷنثروبولوجيا نقدًا ضروريًا، وقد ظهر هذا النقد ردًا على الفضيحة التي حاطت بدورية النظرية اﻷثنوجرافية HAU. في هذه السلسلة، لبى ستة عشر أنثروبولوجيًا دعوة إلى مناقشة مفتوحة وواقعية حول حقل اﻷنثروبولوجيا ومستقبله المحتمل في ظل ديناميات سلطة العنصرية العرقية والجنسية والعنف داخل الحقل تاريخيًا والمستمرة في الحاضر. كل من تلك المقالات في هذه السلسلة يجيب على السؤال التالي:
في أعقاب فعاليّة منتدى حواريّ تابع لدوريّة النظرية اﻹثنوجرافية وفي ظل اﻷحاديث والمناقشات حول نزع الاستعمار، وحركة #أنا_أيضًا، وقلقلة العمل اﻷكاديمي، والعنصرية العرقية والجنسية اﻷكاديمية والنخبوية، والحالة المتردية لكوكبنا اليوم، والنشر برخصة النفاذ الحر، ما نوع اﻷنثروبولوجيا التي تراها مهمة وملائمة لمستقبل الحقل والطلاب المتدربين؟
*
عزيزتي طالبة الدكتوراه المرتقَبة،
شكرًا لتواصلكِ معي بخصوص سعيك نحو الحصول على درجة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا. أقدِّر اهتمامَك بالعمل معي، وأتطلّع لنتيجة مذهلة بتعاوننا والجمع بين فكرة رسالتك ومجال خبرتي. أسرَني بوجهٍ خاصّ معرفتي أنّك سيّدة ذات بشرة ملوَّنة a woman of color - شكرًا لثقتك فيّ ومشاركتي معلومة كهذه. من دواعي سروري الإجابة على استفساراتك؛ ولكنْ -بدايةً- دعيني أشاركك شيئًا ملحًّا لمحتُه أثناء قراءتي لرسالتك: إنّ فكرتك ثوريّة وأصيلة وهي -بحقّ- مدهشة. هل أنتِ واثقة من رغبتك في أنْ تتخصّصي في الأنثروبولوجيا؟ فهذا المجال قد يقضي عليك ويسحق أفكارك!
آسف أن كلامي يبدو أقسى ممّا أردتُّ. دعيني أعيد صياغة مقصدي.
إنّ مشروعك يتقاطع بين الأنثروبولوجيا والدراسات العرقيّة، ويستعين بمناهج التاريخ ونظريّة العِرق النقديّة (CRT) والأدب، وذلك رائع! لكنّه سيسبِّب لك صعوباتٍ شديدة. إذ قد تشكّك الأنثروبولوجيا التجريبيّة في نظريّة العرق النقديّة وفي الدراسات الأدبيّة. عطفًا على ما سبق، فإنّ الأنثروبولوجيا لم تحدِّد موضع الدراسات العرقيّة بعد. فدراسة آسيا أو أمريكا اللاتينيّة أمر مرموق. أمّا دراسات أحوال المهاجرين فليست على نفس الدرجة من الاعتبار. فذلك اختصاص علماء الاجتماع أو أولئك المنغمِسين في دراسة سياسات الهُويّة. لكَونك ذات بشرة ملوَّنة وتدرسين جماعة أقلّيّة في الولايات المتّحدة، سيرفض عددٌ لا بأس به من علماء الأنثروبولوجيا الدراسة، باعتبارك «تدرسين نفسك» (مذهولة؟ اطمئنّي، فهناك كثيرون مثلك).
لقرون عدّة درسَت الأنثروبولوجيا بحرّيّة كاملة سكّانَ العالم. أمّا دراسة أنفسنا «البِيض» فأمرٌ أكثر تعقيدًا. أعني أنّ الأنثروبولوجيا تقرّ بتاريخ المستوطنين الاستعماريّين، أمّا السكّان الأصليّون فلا يتمّ ذكرهم حين يتمّ تعريف الوطن. أخصّ بحديثي الطبقة الوسطى من الأكاديميّين البِيض الذين يشكّلون أساسَ الأنثروبولوجيا. سواء في شمال أمريكا أو أوروبّا الغربيّة، فقد تضاءلت قيمة دراسة حضارتنا ومقدارها. ما نفع دراسة شيء يفهمه الجميع؟ وبأيّة طريقة نفرِّق أنفسنا عن «الآخرين» (على كلّ حال، يفترَض أنّنا لم نعُد نستخدم هذا المصطلح لكنّنا واقعيًّا نستخدمه).
تُعَدّ هذه إحدى أشكال العنصريّة في الوسط الأكاديميّ التي تعَتبر من ركائز الأنثروبولوجيا اليوم. زملائي البِيض الذين درسوا جنوب آسيا أو مهاجريها لم يخطر ببالهم أنّهم يدرسون سياسات الهُويّة. لماذا؟ لأنّ من المستحيل أنْ يمثّلوا تجسيدًا لجنوب آسيا في الوسط الأكاديميّ؛ ولديهم مطلَق الحرّيّة في استكشاف ودراسة تنوّعها العِرقيّ بشكلٍ مشروع. أمّا عن العرق الأبيض فليس له هُويّة في الأنثروبولوجيا؛ فهو السلطة المركزيّة غير المضطربة، وهو مصدر الإنتاج المعرفيّ الذي يحوم حول مركزه علماءُ الأنثروبولوجيا ذوو البشرة الملوَّنة (يا له من لفظ عجيب!)
أعمل في جامعة بحثيّة مرموقة، حيث يتلقّى طلّاب الدراسات العليا دعمًا كبيرًا. والعمل في موضع يحفل بالامتيازات يجعل الشعور بالنخبويّة أمرًا اعتياديًّا لدى البعض؛ لكنّني لا أعتقد أنّكِ ستجدينه شيئًا عاديًّا، وذلك لأنّك لن تشعري بالتآلف مع ذلك الوضع. لكَونك أكاديميّة من ذوي البشرة الملوَّنة، ستفهمين سريعًا مدى اختلال موازين القوى. برز ذلك بشدّة في الهوس المؤسَّسيّ بخطاب التنوّع الذي يمكنه أنْ يَحجب، وأنْ يشرعِن، بل حتّى أنْ يُعيدَ إنتاج التراتُبيّات العنصريّة ذاتِها التي يزعم محاولةَ تصحيحها. ستسمعين علماء الأنثروبولوجيا يمتدحون التنوّع، بينما لا يرحّبون بالطلاب وأعضاء هيئة التدريس ذوي البشرة البنّيّة أو السوداء، وذلك بوصف بعضهم مثلًا بالمرأة البنّيّة/السوداء الغاضبة. هذا مثال جندريّ عنصريّ نموذجيّ، وهو مثال على إعادةِ بعض علماء الأنثروبولوجيا إنتاج البُنَى السلطويّة التي يزعمون انتقادَها (ولاحظي أنّ هذا لا يرِد في أيّ كتاب لتدريس الأنثروبولوجيا).
ولهذا، ومع كوننا في العام 2018، نجد شيئًا مثل وَسْم #AnthropologySoWhite (#الأنثروبولوجيا_بيضاء). بكلّ تأكيد هناك علماء أنثروبولوجيا أصحاب بشرة ملوَّنة، لكنْ ما زال من الصعوبة زعزعة تلك القوة المُهيمِنة؛ فإنّ قلّة قليلة من بُنَى المساءَلة التي تنأى بالأعداد (الخاصّة) من المجلّات العلميّة وعلى اللجان/الهيئات والندوات من أنْ يكون النصيب الأكبر فيها لأصحاب البشرة البيضاء. ما زال المجال مُهَيمَنًا عليه من قِبَل الرجال البِيض الذين يعدّون أنفسهم مشاهير علماء الأنثروبولوجيا (أليس مصطلحًا غريبًا للغاية!)، والذين لديهم جيوشُهم من المتابعين على تويتر وكثرةٌ من المشتركين على صفحاتهم في موقع Academia.edu. سأخبركِ بشيءٍ من واقع خبرتي في هذا الصدد، وهو مثال واحد فقط لكي لا أنفّرك تمامًا (أرجو ألا تكوني توقفت عن القراءة من الأساس).
مطلعَ يونيو من العام 2018، عُرِض عليّ الانضمام إلى هيئة تحرير «دوريّة النظرية الإثنوجرافيّة» (HAU). شعرت كأنّي أُدعَى إلى الانضمام إلى جمعيّة سرّيّة. نظرت إلى الأمر على أنّه شرْخ صغير في الهيمنة المعرفيّة (التي لها طُرُقها الخفيّة في إنتاج وتوزيع المعرفة على ما يبدو). أبهجتني إمكانيّة أنْ تكون هناك أخيرًا لجنة مكوَّنة من أصوات متعدّدة تعمل على تشكيل الحوار الثقافيّ؛ لكنْ لم تستمرّ فرحتي سوى قرابة ستّة أيام، حين بدأت فعاليّة منتدىً حواريّ تابع للدوريّة (#HAUTALK). وكما علِمتِ غالبًا، أخذ الحوار منعطَفًا مختلفًا ومزعجًا، ولم يُحَلّ الجدل الدائر بعد. لكنْ على الأقلّ هناك فائدة تتمثّل في طرح تلك القضايا للنقاش.
إنني حقيقةً أدرك أنّي قد رسمت صورة سوداويّة للمشهد في عينك، وهذا لرغبتي في تهيئتك لِما أنتِ مقبلةٌ عليه. ومع هذا كلّه، ما زلتُ لم أتطرّق بعدُ لمواضيع مثل التداعي الأكاديميّ. لكنْ يكفي هذا، فالسلبيّات التي طرحتُها قد فاضت عن اللازم.
الآن سأطرح عليك بعضًا من الإيجابيّات لأنّني حقًّا أشجّعك على اختيار الأنثروبولوجيا. فالطلبة الرائعون مثلك ومثل طلابي الحاليّين هم مَن يدفعونني إلى المتابعة. وبصفتك خرّيجة جديدة، فأنا على ثقة بأنّك يتملّكك الفضول والرغبة في التغيير والإرادة القويّة لمعرفة أسباب التردّي في هذا العالم، والبحث عن سُبل إيقاف تناسخ تلك الأمور السيّئة الجارية. هذا ما أراه في طلّاب الدراسات العليا الواعدين الذين كان من حظّي الوافر أنْ أدرِّسَهم، والذين لا تقتصر رؤيتُهم للأنثروبولوجيا على مجرّد كونها تمهيدًا للتغيير الاجتماعيّ، بل يحقّقون هذا التغيير عن طريق ترتيب أولويّاتهم الأكاديميّة وشبكة علاقاتهم ونوعيّة ارتباطهم بزملائهم في الأكاديميا.
بعد طرح كلِّ شيءٍ على الطاولة، سأسألك ثانيةً: هل ما زلتِ تريدين أنْ تصبحي متخصّصة في الأنثروبولوجيا؟ أرجو أنْ يكون ردّك بالإيجاب. إذا عمِلنا سويًّا، سأحارب من أجلك وسأعلّمك كيف تحاربين، وسأبذل كلَّ ما أملك لكيلا تكوني جزءًا من صراع الجامعة لتمثيل التنوّع. سأهدِّئ من رَوعك فيما يخصّ «متلازمة المُحتال» (impostor syndrome)، فبإمكاني التنبّؤ بحدوث ذلك، فهذه هي النظرة المعتادة. سأوجِّهك لمعرفة المنزلَقات النخبويّة الأكاديميّة، وذلك عن طريق تقديمك للعديد من الشخصيّات المميَّزة الذين قابلتهم، والذين لا يقلّ اهتمامهم بتلك المسائل عن اهتمامي، بل يقومون بهذا العمل يوميًّا. بالتأكيد نحن فئة قليلة، والعديد منّا ينتمون لأقلّيّات، وهذا يضاعف من التزامنا. ينصبّ تركيزنا الأكبر في ثنائيّة «التنوّع والانتماء» على جانب الانتماء منها، بطرقٍ تسعى إلى إحداث تغيير بطيء، ولكنّه أكيد، في الأكاديميا.
باختصار، أرى أنّ احتياج الأنثروبولوجيا إلى أمثالك يفوق حاجتكِ إليها. وهذا ينطبق على طلبتنا الحاليّين؛ وأشعر بسعادةٍ غامرة لكَون هؤلاء هم مستقبل الأنثروبولوجيا. تمنحني رؤيتهم وهم يتقدّمون أملًا كبيرًا، كما أرى الأمل فيك!
تحيّاتي،
شلني شنكر