الكتابة: مقارنة بين شحتة كاريكا وأفلاطون

مقال ﻷحمد الشربيني

المقال خاص بـBoring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.


شحتة في مدرسة أثينا

عمرك سألت نفسك إيه الفرق بين شحتة كاريكا وأفلاطون؟ أنا عارف إنه سؤال غريب، بس بجد، خلينا نفكر فيها واحدة واحدة، إيه اللي بيخلي أفلاطون وهو بيحاول يشرح فكرة معينة يكتب بالشكل دا:

«[بارمنيدس:] إذا لم يكن الواحد حاصلًا على أجزاء فلن يكون حاصلًا على بداية ولا نهاية ولا وسط؛ لأن هذه تجعل له أجزاء —هذا حق— ثم إن النهاية والبداية تعني وضع حدود له —طبعًا— وإذن فالواحد بما أنه لا بداية له ولا نهاية فهو لا محدود —نعم لا محدود— وبالتالي سيكون أيضًا بغير شكل فلن يتخذ شكل المستدير ولا شكل المستقيم —لماذا؟— ذلك لأن المستدير هو بلا شك ما كانت نهاياته على مسافة متساوية من المركز في جميع الجهات —نعم— والمستقيم هو ما كان وسطه يحجب كلًا من الطرفين —بالتأكيد— وعلى ذلك لو أن الواحد اتخذ شكلًا مستقيمًا أو دائريًا لكانت له أجزاء وكان كثرة قَطعًا —ولكنه ليس حاصلًا على أجزاء فهو إذن ليس مستقيمًا ولا دائريًا— هذا حق». (محاورة بارمنيدس، ترجمة حبيب الشاروني، المشروع القومي للترجمة، 2002، ص. 38–39).

في حين إن شحتة كاريكا عشان يشرح فكرته بيتكلم بالطريقة دي:

«افترقنا ليه بقى؟ ربنا بيقطع من هنا ويوصل من هنا، أنا اتظلمت، واتظلمت قعدت سنتين أعاني في مشاكل مكاتش بتاعتي، بس الحمد لله أنا كفيل بيها، ازاي بقى؟ حب الناس رقم واحد، رقم اتنين الظلم وحش، رقم تلاتة اللي مكتوب هناخده [...] فيه ناس كتير أوي ورا الستارة بس كل الناس دي أونطة، الناس دي بصت للبيزنس، أنا لأ، أنا راجل بقول يا رب، وعندي ناس في ضهري بتاكل عيش، اللي يبيعك مرة هيبيعك مرة واتنين وتلاتة وأربعة [...] أنا مش فنان، ومش نجم، مش هنضحك على بعض، النجم في السما، الفنان دا الناس حباه، شخصيته طيبة، متواضع، لكن هنقعد بقى، هندورها ونجعلص على بعض وشوية قَيامة، كل دا أونطة وراحت الشنطة».

طبعًا الفروق بين الاقتباسين كتيرة. أولًا في الوسيط نفسه، أفلاطون بيكتب وشحتة كاريكا بيتكلم، وثانيًا في الموضوع اللي بيتكلموا فيه، أفلاطون بيتناول حاجة نظرية جدًا، وشحتة كاريكا بيتكلم عن مواقف شخصية واجتماعية، وثالثًا درجة الجدية والثقافة والذكاء اللي القارئ بيتخيلها لما يشوف الفقرتين، مش قصدي إن أفلاطون أذكى من شحتة كاريكا، بالعكس المقال دا هدفه يوضح إن دي فكرة مش صح (ومش غلط)، لكن قصدي إنك لما بتحط الفقرتين جنب بعض بتحس بمفارقة ضخمة جدًا، بسبب إحساسك إن أفلاطون بيقول حاجة مهمة جدًا ومثقفة بينما شحتة كاريكا بيقول كلام «شعبي».

رابعًا، الأسلوب طبعًا مختلف اختلاف كبير، لغة أفلاطون بتحاول، وبتنجح فعلًا في إنها تكون دقيقة جدًا، بمعنى إن أفلاطون بيحاول يخلي لكل لفظ معنى محدد ممكن تعريفه، لكن لغة شحتة كاريكا بتحاول تكون جذابة وتشد اللي بيسمعها، وبتنجح في دا برضه، لإنك حتى لو مش مهتم بالموضوع فالكلام مسلي. دا طبعًا على عكس أفلاطون، اللي بتحتاج جهد عشان تفهم هو بيقول إيه، وعشان تشق طريقك خلال محاورة زي بارمنيدس فالموضوع مش مسلي خالص، ولازم تكون مهتم جدًا باللي هو بيتكلم عنه، لإن قرايته أحيانًا بتكون عملية مؤلمة.

بس أنا هنا مش مهتم بالفروق دي، ولكن مهتم بفرق جذري أكتر، لو فهمناه هنفهم بقية الاختلافات بين الاتنين. الفرق دا هو: ازاي أفلاطون وازاي شحتة كاريكا بيحاولوا يقنعوا اللي بيحاورهم أصلًا، سواء كان حقيقي أو متخيل؟ بمعنى، إيه هي الطريقة اللي كل واحد فيهم بيستخدمها في عملية «إنتاج المعرفة»، إيه إستراتيجية الإقناع وإيه طبيعة الحجة اللي كل واحد فيهم بيلجأ لها عشان يوصل النقطة اللي هو عايزها؟ خلينا نبدأ من الفرق دا وبعده الفروق التانية هتتفسر بالتدريج.

البنية والأمثولة

لو قريت الفقرتين تاني بالراحة، هتكتشف إن الفرق اللي أقصده هو التالي: فقرة أفلاطون مليانة «مفاهيم»، والوظيفة اللي اللغة بتأديها هي إنها بتتحرك بين المفاهيم دي، وتأسس بينها علاقات معينة، وتكشف تناقضات داخلية فيها، والحجة بتتحرك بالطريقة دي خطوة بخطوة. فقرة أفلاطون مكونة بالكامل من مفاهيم محددة، ليها تعريفات معينة في ذهنه وفي ذهن اللي بيقراه، ومعظم المفاهيم دي واخدة شكل مجموعات (clusters) أو ثنائيات (binaries) ومرتبطة بعلاقات، زي «الواحد والكثير» و«الكل والجزء» و«البداية والنهاية والوسط والطرف» و«المستقيم والمستدير»، إلخ.

فقرة شحتة كاريكا على العكس تمامًا، مليانة «صور». الصور دي معظمها صور مألوفة لأنها جزء من التراث الشعبي للي بيتكلم واللي بيسمع، بعضها جاي من أمثال شعبية معظم الناس عارفاها، وبعضها تنويعات على الأمثال دي أو تحوير صغير فيها، «يقطع من هنا ويوصل من هنا» و«ناس ورا الستارة» و«ناس في ضهري بتاكل عيش»، إلخ. وبالإضافة للصور، فقرة شحتة كاريكا كمان غنية بأشكال مختلفة من البلاغة، زي مثلًا، «مش نجم، النجم في السما» (جناس تام)، أو «أونطة وراحت الشنطة» (سجع).

مسار الحجة عند شحتة كاريكا واخد شكل تاني خالص، هو إنه اللغة بتتحرك بإنها تستدعي صور مألوفة للمستمع. الصور المألوفة دي بيتقاس عليها الفكرة اللي هو بيحاول يأسسها أو يدافع عنها، والصور دي هي اللي بتدي شرعية لمعرفته. يعني هو مش بيحاول يثبت إنه اتظلم بإنه يفكر زي أفلاطون في مفاهيم الظلم والعدل، اللي هو التفكير في «بنية» نظرية أو مجردة، وإنما بيحاول يقنع اللي قدامه بإنه يقدمله «أمثولة» (allegory)، صورة أو مثل أو قصة من المخزون الشعبي، ويتماهى معاها، بيستند على المعرفة المشتركة ويعرّف موقفه بيها، فيقول بس إنه «الظلم وحش»، أو «حب الناس»، أو «اللي مكتوب هناخده».

طبعًا إبراز الفرق بين الاتنين مش معناه إن كل واحد منهم تعبير نقي عن ظاهرة معينة. يعني كتابة أفلاطون كتير بيكون فيها تصاوير ومحسنات، وكلام شحتة كاريكا طبعًا لا يخلو من المفاهيم المجردة، لكن الفرق بين البنية والأمثولة يظل ظاهر. فإيه مصدر الفرق دا وإيه أهميته؟

العقل الكتابي والعقل الشفاهي

في سنة 1963، فيه أستاذ كلاسيكيات اسمه إريك هاڤلوك (Eric Havelock) كتب كتاب جميل جدًا اسمه «مقدمة لأفلاطون» (Preface to Plato)*. كتاب هاڤلوك مانجحش أوي وسط أساتذة الكلاسيكيات، لكن الباحثين في مجالات تانية كتير زي الفلسفة والأنثروبولوجيا والنقد الأدبي اهتموا بيه جدًا، والسبب إن هاڤلوك ادعى في الكتاب دا ادعاء جديد وغريب شوية، هو إنه فلسفة أفلاطون كلها كانت بتعبر عن تحول حصل في العقل اليوناني بسبب اختراع الكتابة، وإنها مستحيل تتفهم غير باعتبارها كذلك. فيعني إيه الكلام دا بقى، وما علاقته بشحتة كاريكا وبالذكاء الصناعي؟ (بجد برضه)

هاڤلوك بيبدأ من ملاحظة ناس كتير أوي كتبت فيها قبله وبعده وحاولت تفسرها، وهي ليه أفلاطون كان بيكره الشعراء؟ ليه كتب إنهم لازم يتطردوا من الجمهورية، وليه كتاباته بشكل عام مليانة استهانة بيهم وتقليل من شأنهم؟ في الحقيقة الموضوع دا بيبدأ من قبل أفلاطون كمان، هتلاقيه واضح عند هيراقليطس مثلًا اللي كان عايز هوميروس وأرخيلوخوس (من كبار الشعراء الإغريق) يتضربوا ويتطردوا، فإيه بالظبط مصدر النزعة المضادة للشعر في الفلسفة اليونانية؟

عشان نفهم دا، هاڤلوك بيقول لنا إننا لازم نفهم وظيفة الشعر في عالم مافيهوش كتابة. صعب جدًا علينا في العصر الحالي إننا نتخيل العالم وهو من غير كتب. معظمنا بيتعامل مع الكتابة على إنها معطى مسلم بيه، لكن العالم قبل الكتابة كان مختلف جذريًا عن العالم بعدها لسبب بسيط. احنا بنعيش في العالم وإحنا عارفين إن فيه معرفة بشرية واسعة جدًا متسجلة بالكتابة، لو احتجناها هنرجعلها ببساطة، وعن طريق الكتب وغيرها من الوثائق المعرفة دي بتتخزن وتتنقل من جيل لجيل. لكن في غياب الكتب، ازاي المجتمع ممكن يفضل محافظ على مجموعة من المعارف المشتركة الضرورية لإدارة الحياة الاجتماعية، وينقلها من جيل لجيل؟

الإجابة ببساطة إنه في غياب الكتب فالمعرفة دي لازم تبقى محفوظة بالطريقة الوحيدة المتاحة، اللي تسمح للإنسان إنه يستدعيها من دماغه مباشرة، وفي الحالة دي بيكون الشعر هو الحامل الأمثل للمعرفة الجمعية لإن حفظه سهل نسبيًا. الشعر القديم كله موزون بدقة ومقفّى، وعادة بيعيد تدوير حكايات وصور مألوفة مرة بعد التانية. عشان كدا مثلًا لو قريت المعلقات الجاهلية هتلاقي إن فيه تداخل كبير بينها في الموضوعات والنظام، لإن القالب بيسهل الحفظ، سواء كان قالب شكلي في صورة بحر وقافية وتتابع محدد لتيمات القصيدة، أو المحتوى نفسه بياخد شكل قوالب بتتفك وتتركب بطرق جديدة لكن مش جديدة أوي.

وعشان كدا برضه الإلياذة والأوديسة بيكون فيهم أحيانًا معلومات مفصلة مش ضرورية للحبكة، زي مثلًا مشهد أوديسيوس وهو بيبني السفينة خطوة خطوة، وهو مشهد تفصيلي أكتر من اللازم لو حد بيقراه بعقلية حديثة، على أساس إن المعلومات دي المفروض تكون في كتب الهندسة، مش الشعر، لكن طبعًا أيام هوميروس ما كانش فيه كتب هندسة، كان فيه شعر بس، وبالتالي هو دا المكان الوحيد اللي ممكن المعرفة دي تتحفظ فيه.

الكتابة في الحالة دي تقنية ثورية، لأنها بتشيل من على المخ البشري عبء الحفظ وفك وتركيب القوالب، وتفرغه لممارسة أنشطة عقلية جديدة تمامًا. تخيل إن معارفك كلها كانت عبارة عن قوالب لغوية محفوظة وأمثال شعبية وحكايات، وفجأة بقى ممكن تكتب، تحط الكلام قدامك على الورق وتقعد تقراه بالراحة وبالترتيب، وتحلله، من غير ما تضطر تبقى حافظ المعرفة دي في شكل تتابع معين تستدعيه بالذاكرة. ممكن تقرا المعرفة دي من الأول أو من الآخر أو من أي حتة، لإنها كلها كدا كدا موجودة ويمكن استدعاء أي جزء منها في الوقت اللي تحتاجه.

نتيجة التحول دا كانت ثورة للعقل نفسه، فجأة بقى ممكن أتعامل مع الكلمات باعتبارها مفاهيم، لإن كل كلمة ممكن يبقى ليها تعريف مكتوب أرجعله وقت الحاجة، وبعدين أتعامل مع المفاهيم دي بإني أحركها بالشكل اللي يعجبني، وأرتبها على أي نظام أنا محتاجه، من غير قيود ليها علاقة بالذاكرة. النتيجة إني هكون بمارس فك وتركيب برضه، لكن على مستوى مكثف جدًا، هو مستوى المفهوم المجرد.

لكن فيه فرق نوعي كبير كمان. لو أنا بفكر بالمفاهيم المجردة، فأنا فجأة هكتسب القدرة على إني أفهم العالم باعتباره «نظام» أو «بنية»، مجموعة من العناصر اللي بتربطها مجموعة معقدة من العلاقات، دا كان أصعب بكتير قبل الكتابة، وكان أسهل إني أتخيل العالم باعتباره «حكاية» أو تتابع من الصور، لإن هي دي اللي أقدر أحتفظ بيها وأنقلها، عشان كدا معظم التفسيرات القديمة للوجود عبارة عن حكايات، اللي احنا بنقول عليها دلوقتي أساطير عشان نميزها عن المعرفة «العلمية». لكن الفكرة إن المعرفة العلمية دي ما كانش ممكن تخيلها أصلًا في عالم مافيهوش كتابة، الأساطير في العالم دا كانت تفسيرات فعلية للعالم، لأنه أي حاجة تانية كانت خارج إمكان التصور أصلًا. الكتابة هي اللي سمحت للفلاسفة إنهم يفكروا في العالم باعتباره نظام، مش بس باعتباره حكاية سردية.

بالمعنى دا فهجوم أفلاطون على الشعر كان انتصار للعقل الجديد، الكتابي، على العقل الشفاهي، لأن الشاعر الغنائي اليوناني كان هو مصدر المعرفة في مجتمع اليونان الأقدم، والمعرفة طبعًا مصدر للشرعية وبالتالي مصدر للسلطة. دلوقتي إحنا بنتعامل مع الشعر على إنه مصدر للترفيه، لكنه ما كانش كدا طول التاريخ. مع اختراع الكتابة، بدأ قطاع جديد من الفاعلين السياسيين يظهر للوجود، كان عايز يأسس سلطة جديدة بشرعية مختلفة، معتمدة على نظام مختلف وثوري لإنتاج المعرفة وإدارتها ونقلها.

الكتابة والسلطة

من المهم التأكيد تاني على إنه مفيش تناقض تام بين الكتابة والشفاهة، الواحد فيهم مش بيلغي التاني، وأبسط مثال هو إن كتابة أفلاطون نفسها أخدت شكل محاورات، وفي الفقرة المقتبسة في أول المقال فيه جمل اعتراضية كتير ليها طابع شفاهي، كإنه بيتكلم، «بالتأكيد»، «نعم»، «هذا حق»، إلخ، فالحقيقة إن كتابة أفلاطون بالقياس للتطورات اللاحقة عليه بعد كدا ممكن تكون شفاهية جدًا كمان. لو عايز تتخيل الكتابة المنضبطة أوي وفق معايير العقل الكتابي فكر في نصوص القانون مثلًا.

والكلام دا برضه مش معناه إن شحتة كاريكا بيعبر عن نمط وجود سابق على الكتابة، هو طبعًا بيكتب وبيقرا عادي، لكن كلامه كان مثال كويس للطريقة اللي شكل التفكير بيها ممكن يكون مختلف لو انت عايش في مجتمع تأثير الشفاهة فيه أعلى من تأثير الكتابة، ودي حاجة لسة موجودة لحد دلوقتي بكثافة، ومرتبطة عادة بالطبقات اللي بنقول عليها «شعبية»، ودا مالوش علاقة برضه بدرجة الثراء الفعلي لأفرادها، قد ما ليه علاقة بمتطلبات العالم الاجتماعي بتاعهم، وبحياتهم اليومية.

وبرضه الموضوع مالوش علاقة بالذكاء خالص، لإن احنا ماعندناش مقياس للذكاء يشمل التفكير الشفاهي أصلًا، فمثلًا معيار الذكاء الأشهر (IQ) مصمم لاختبار قدرتك على تشغيل عقلك الكتابي، يعني قدرتك على تحليل المفاهيم والتجريدات والتعامل معاها، في حين إن الثقافة الشفاهية بتميل للتفكير بالسرد وبالأمثولة.

وعشان كدا برضه الطبقات والمجتمعات اللي بتعتمد أكتر على التناقل الشفاهي للمعرفة بتكون مشهورة بنوع معين من البلاغة، الطبقة المتوسطة المتعلمة بتحب تتناقله وتتندر عليه. الوضع دا بالضرورة بيطرح سؤال التراتبية. البلاغة الشعبية مسلية للطبقة المتوسطة اللي بتشوفها غريبة ومضحكة بعض الشيء لأنها جاية من موقع معين في علاقات قوى اجتماعية محددة، الكتابة فيها بتحتل المركز، والسلطة فيها كتابية بالكامل،** وجوا التراتبية دي الثقافة الشفاهية تبدو كأنها ظاهرة طريفة، لكنها مش مزعجة للمثقف النهارده زي ما كانت مزعجة لأفلاطون، اللي كان بيحارب سلطتها عشان ينقلب عليها.

أحيانًا المثقفين بيحاولوا يعبروا عن انحيازاتهم ناحية الطبقات الشعبية بالدعوة للكتابة بالعامية، زي مانا بعمل هنا كدا، لكن الموقف دا نفسه مغلوط لأنه متخيل إن الفرق الحقيقي هو الفرق بين العامية والفصحى، في حين إن الفرق الأهم هو اللي بين الكتابة والشفاهة، ودا معناه إنه حتى العامية المكتوبة هتكون مختلفة عن العامية اللي الناس بتتكلم بيها، وإنه العامية نفسها سواء اتكتبت أو ماتكتبتش، دايمًا بتطور وهتطور علامات طبقية (class markers)، عشان تعكس التراتبيات الاجتماعية.

الوضع التراتبي دا حصل نتيجة انتصار المشروع السياسي للكُتَّاب على الشعراء من زمان أوي، وفي كل مكان في العالم تقريبًا. التوسع في استخدام الكتابة مرتبط دايمًا بصعود الإمبراطورية، لإن الكتابة بتوفر إمكانيات جديدة لحفظ المعلومات وتنظيمها، وبالتالي بناء البيروقراطية، اللي كان الكاتب بيحتل فيها موقع مركزي باعتباره مدير المعرفة، زي الكاتب المصري الشهير مثلًا، من اللحظة دي والكتابة وثيقة الصلة بالسلطة.

وحتى القرآن اللي بيعبر عن موقف متشكك من الشعراء برضه: «وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ۝ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ۝ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ»، كان جاي في وقت بيحصل فيه حاجتين بالتوازي: الأولى هي التوسع في استخدام تقنية الكتابة، والتانية هي صعود الدولة الإسلامية الأولى اللي هي شكل من أشكال الإمبراطورية الكلاسيكية، والاتنين طبعًا حصل معاهم تحولات جذرية على مستوى العقل، فهل يمكن فهم بعض مكونات الإسلام مثلًا زي ما هاڤلوك فهم أفلاطون، يعني باعتبارها تحول في الوعي نتيجة للكتابة؟

مستقبل الكتابة

طيب إذا كانت الكتابة مش معطى بديهي، وإنما حدث، وتقنية لتشغيل المعرفة والاستفادة بيها من قبل السلطة، بدأت في لحظة تاريخية معينة واستمرت، حتى لو استمرت فترة طويلة جدًا، إيه اللي ممكن يحصل لها في المستقبل؟

محدش يعرف طبعًا، أي حاجة هتكون تكهنات، لكن مش قادر أمنع نفسي هنا من إني أشاور على تحول معين بيحصل ببطء، ويمكن يكون ليه تأثير كبير، جايز يقدر يعمل ثورة في شكل العقل زي اللي عملتها الكتابة. التحول دا هو الدور المتزايد اللي بتلعبه «البيانات الضخمة» (big data) مع الذكاء الصناعي في إنتاج معرفة جديدة غير متصورة من داخل تقنية الكتابة.

الفكرة في البيانات الضخمة إنك مستحيل تقراها، ولو افترضنا إنك قعدت قريت ملايين المعلومات البسيطة المترتبة في هيئة جدول ضخم جدًا، برضه مستحيل تعرف تلاقي بينها أي علاقات باستخدام دماغك، عشان توصل منها لأي استنتاج، لكن الكمبيوتر بيعرف يعمل دا. فكر مثلًا في التجربة دي: في 2017 كان الموت بسبب جرعة مخدرات زايدة هو السبب الأول للموت العرَضي في أمريكا، أكتر حتى من حوادث الطرق، وبعض الباحثين في مجال البيانات الضخمة قرروا يتدخلوا.

الباحثين دول جمعوا معلومات كتير جدًا من شركات التأمين ومعاها معلومات من منشآت طبية وصيدليات، واكتشفوا إن فيه 742مؤشر يقدروا يتوقعوا منهم إذا كان حد معرض إنه يموت بجرعة زيادة ولا لأ. المؤشرات دي مافيش بينها وبين استخدام المخدرات أي علاقة ضرورية أو منطقية أو ليها معنى بالنسبالك.

يعني مثلًا لو كان حد من منطقة معينة، وبيزور دكاترة في تخصص معين عدد معين من المرات في وقت معين، فدا ممكن يكون مؤشر على إنه ممكن يموت بجرعة مخدرات زايدة. طيب إيه العلاقة؟ محدش عارف. البيانات الضخمة كتقنية جديدة لإدارة المعرفة بتخلي مهارات الكتابة غير مهمة، لإنك أولًا مش هتعرف تقرا البيانات، وثانيًا مش هتعرف تفهم العلاقات بينها، كل الموضوع إنها بتأسس ارتباط ضروري وانت بتاخده زي ما هو وانت ساكت. إيه ممكن تكون نتيجة حاجة زي كدا على العقل؟ ماعنديش فكرة.

لما بنتكلم عن بياناتنا وخصوصيتنا معظم الناس بتفكر في شركات التسويق والدعاية الموجهة، لكن الأهم بكتير من دا هو إنه عند نقطة معينة من تطور البيانات الضخمة وقدرة الذكاء الصناعي إنه يتعامل مع المساحات الشاسعة دي من المعلومات المخزنة ويستخرج منها «معرفة جديدة»، فيه حاجتين هيكونوا بيحصلوا بالتوازي برضه: إمكانيات هائلة لبناء بيروقراطيات فائقة الكفاءة ما كانش ممكن تصورها قبل كدا، وعلاقة جديدة بتربط العقل بالمعرفة. عشان كدا مهم إنه الإنسان يحذر مما يأمل، وفي وقت عمالين نبني فيه مدن ذكية، والتقنية الرقمية بتتداخل مع الإدارة بشكل ما كانش معروف قبل كدا، النوع دا من التساؤلات قد يكون ضروري: أي تحولات نوعية ممكن تحصل في علاقة المعرفة بالسلطة؟ وأي عقل جديد ممكن يتشكل نتيجة التحولات دي؟ وإيه مستقبل تقنياتنا الأقدم لإدارة المعرفة؟


* الكلاسيكيات هي دراسة مختلف جوانب الحضارتين اليونانية والرومانية، تاريخهم وفلسفاتهم وآدابهم، وكل ما يتعلق بالعصر «الكلاسيكي» عمومًا، اللي هو في التاريخ الأوروبي بييجي بعد العصور القديمة وقبل العصور الوسطى.

** دا طبعًا عكس فكرة دريدا إن الصوت الحي فضل ليه الأولوية على المكتوب، لكن دريدا كان بيتكلم في الميتافيزيقا مش في تقنيات إدارة المعرفة، ودا موضوع مختلف، الاتنين مش بينفوا بعض.