واقعة الوجهة الميت والانتحار حبًا

قصتان لياسوناري كاواباتا

من مجموعة «قصص بحجم راحة اليد»، ترجمة لين دونلوب للإنجليزية

ترجمة: سامح سمير

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه

كاواباتا عن britannica

واقعة الوجه الميت

«من فضلك، تعال لكي تراها. هذا ما آلت إليه. أوه، كم كانت تريد أن تراك مرة أخرى»، قالت حماة الرجل، وهي تقوده في عجالة إلى الحجرة. التفت جميع الجالسين حول فراش زوجته نحوه في وقت واحد.

«من فضلك، تعال وألقِ نظرة عليها». قالت له أم زوجته مرة أخرى وهي ترفع الغطاء القماش عن وجه زوجته.

ثم تكلم هو فجأة رغم إرادته. «لحظة واحدة فقط. هل لي أن أراها على انفراد؟ هل يُمكن أن تذهبوا وتتركوني معها هنا في الحجرة؟»

وإذ أثارت كلماته تعاطف أهل زوجته، فقد غادروا الغرفة بهدوء، وأغلقوا الفاصل المنزلق وراءهم.

رفع الغطاء الأبيض عن وجه زوجته، الذي تيبست ملامحه، بفعل الموت، في تعبير ينم عن الألم. كانت وجنتاها غائرتين، وأسنانها، التي حال لونها، ناتئة من بين شفتيها، وقد ذبل لحم جفنيها والتصق بحدقتي عينيها. وتجمد الألم فوق جبينها بفعل توتر واضح للعيان.

جلس لوهلة بلا حراك، يحدق من أعلى إلى هذا الوجه الميت، والقبيح. ثم وضع يديه المرتعشتين على شفتي زوجته، وحاول أن يغلق فمها. أغلق شفتيها بالقوة، لكنهما انفتحتا برخاوة بمجرد أن رفع يديه عنهما. أغلق فمها مرة أخرى، فانفتح مجددًا. وجعل يكرر هذا مرة تلو الأخرى، دونما أية نتيجة عدا أن الخطوط المتصلبة حول فم زوجته بدأت ترتخي.

ثم شعر بعاطفة جياشة تتصاعد في أطراف أنامله، فراح يُدلك جبينها في محاولة لتخفيف أمارات الجزع والتجهم التي تكسوه، حتى شعر بالحرارة تسري في أنامله. فجلس مرة أخرى ساكنًا بلا حراك، وهو يتطلع من أعلى إلى الوجه الجديد.

جاءت أم زوجته وشقيقتها الصغرى. «لعلك متعبًا من السفر بالقطار. فلتتفضل بتناول طعام الغداء والحصول على قسط من الراحة...أوه!» فجأة، انهمرت الدموع على وجنتي الأم. «الروح البشرية شىء مُرعب. فهي لم تستطع أن تموت بالكامل إلى أن عدتَ أنت. ياللعجب. كل ما فعلته هو أنك ألقيتَ عليها نظرة واحدة، وعلى الفور ارتخت ملامحها تمامًا... حسنًا. الآن، هي بخير».

بعينين صفيتا بفعل جمال ليس من هذا العالم، حدقت شقيقة زوجته الصغرى إلى عينيه، اللتين اصطبغتا بمس من الجنون. ثم انفجرت، هي الأخرى، في البكاء.


الانتحار حبًا

استلمت المرأة خطابًا من زوجها. كان قد مر عامان منذ أن هجرها بعد أن شعر بالنفور تجاهها. وقد وصلها خطابه هذا من مكان ناءٍ.

«لا تدعي الطفلة تلعب بالكرة المطاط. فصوت تواثبها وارتطامها بالأرض يتناهى إلى سمعي، ويضرب سويداء قلبي».

أخذت المرأة الكرة المطاط من ابنتها ذات التسعة أعوام.

ومرة أخرى، وصلها خطاب جديد من زوجها، من مكتب بريد آخر غير ذلك الذي وصلها منه خطابه الأول.

«لا تدعي الطفلة تنتعل حذاءً وهي ذاهبة إلى المدرسة. صوت خطواتها يتناهى إلى سمعي ويدهس قلبي».

فبدلًا من الحذاء، ألبست الأم ابنتها صندلًا طريًا مبطنًا. فبكت الطفلة وامتنعت عن الذهاب إلى المدرسة.

ومرة أخرى، جاءها خطاب جديد. ورغم أن زوجها بعث به بعد شهر واحد فقط من الخطاب السابق، إلا أن خط يده بدا فجأة مثل خط يد شيخ مُسن.

«لا تدعي الطفلة تأكل في وعاء من الخزف. الصوت يتناهى إلى سمعي، ويحطم قلبي».

فبدأت المرأة تُطعم ابنتها بعودي الطعام خاصتها، كما لو كانت في الثالثة من عمرها.  ثم تذكرت تلك الأيام الجميلة التي قضاها زوجها بصحبتها حين كانت الطفلة لا تزال في الثالثة من عمرها بالفعل. ذهبت الطفلة إلى الخزانة بنفسها وأخذت منها إناء طعامها، فانتزعته الأم منها وقذفت به على صخرة في الحديقة، فتناهى إلى سمعها صوت قلب زوجها وهو يتحطم. ارتفع حاجباها على حين غرة. وألقت بإناء طعامها على الصخرة. ألم يكن هذا صوت تحطم قلب زوجها؟ أخرجت مائدة الطعام الصغيرة وألقت بها في الحديقة. ماذا عن هذا الصوت؟ ألقت بجسدها كله على الجدار وجعلت تخبط عليه بقبضتي يديها. ثم قذفت بنفسها على الحاجز الورقي مثل رُمح، فاخترقته ونفذت منه إلى الناحية الأخرى بخطى متعثرة.

وماذا عن هذا الصوت؟

«ماما، ماما، ماما».

جرت الطفلة نحوها وهي تبكي، فصفعتها المرأة على وجهها. أوه، اسمع هذا الصوت أيضًا!

ومثل صدى لهذا الصوت، وصلها خطاب جديد من زوجها، بُعث به من مكتب بريد أخر في مكان ناءٍ جديد.

«لا تُصدرا أي صوت على الإطلاق. لا تفتحا أو تُغلقا أية أبواب أو حواجز منزلقة. لا تتنفسا. ولا تدعا، أنتما الاثنتان، أي صوت يصدر حتى عن ساعات الحائط».

«أنتما الاثنتان، أنتما الاثنتان، أنتما الاثنتان». انسابت دموع المرأة وهي تهمس بتلك الكلمات. ثم كفت الاثنتان تمامًا عن إصدار أي صوت. امتنعتا إلى الأبد عن إصدار أي صوت حتى ولو كان خافتًا لا يُسمع. بكلمات أُخرى، فارقت الأم والابنة الحياة.

والعجيب، أن الزوج رقد بجوارهما، وفارق هو أيضًا الحياة.