خاتمة كتاب "الروح في العمل: من الاستلاب إلى الاستقلال الذاتي"

لفرانكو (بيفو) براردي

ترجمة أحمد حسان

* فرانكو بيراردي هو كاتبٌ فيلسوف ماركسي وناشط سياسي في مجال وسائط الاتصال، شارك في إنشاء ريكومبينانت (Rekombinant, www.rekombinant.org)، وهو فضاء افتراضي للتواصل غير الرسمي والنشاط الإعلامي والسياسي، وهو أيضًا مؤلف كتب كثيرة، كتابه الأخير هو المجيئ الثاني The Second Coming. نشرته دار بولتي (2019). تركز أعماله على دور اﻹعلام وتكنولوجيا المعلومات في تشكيل الرأسمالية النيوليبرالية.

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه


تولُّد الاكتئاب الراهن

يمكن قراءةُ انهيار الاقتصاد الكوكبي على أنه عودةٌ للروح. فالآلة المكتملة للأيديولوجيا النيوليبرالية، القائمة على التوازن العقلاني للعوامل الاقتصادية، تتهاوى حطامًا لأنها كانت مبنيةً على الافتراض المعيب بأن الروح يمكن اختزالها إلى مجرد العقلانية. والجانب المظلم للروح ــ الخوف، والقلق، والهلع، والاكتئاب ــ طفا أخيرًا إلى السطح بعد أن خيَّم طوال عقدٍ في ظل الانتصار المبالغ في إطرائه والأبدية الموعودة للرأسمالية.

وفي هذه الخاتمة الموجزة أودّ أن أبحث معنيين مختلفين لكلمة اكتئاب depression (أ).

بهذه الكلمة نعني نوعًا خاصًا من المعاناة العقلية، لكن كذلك الشكلَ العام للأزمة الكوكبية التي تُظلِمُ الأفقَ التاريخي لعصرنا. ليس هذا تلاعبًا بسيطًا بالألفاظ، وليس استعارةً فحسب، بل تضافرُ وتفاعل عيوبٍ نفسية وسيروراتٍ اقتصادية.

في عام 2000، شهدت السوق الأمريكية تأثيرات إنتاجٍ ـ مفرط في المجال الاقتصادي ـ المعلوماتي. بعد انهيار الدوت كوم(ب)، وتحطم شركات كبرى مثل وورلدكوم WorldCom، وإنرون Enron وغيرهما، غيّرت الرأسمالية الأمريكية مسار تطورها، وأفسح اقتصادُ الإنتاج الافتراضي المجالَ لاقتصاد الحرب. بفضل الحرب، بدأ الاقتصاد من جديد، لكن تكلفة العمالة واصلت الانخفاض وكان النمو قائمًا في الحقيقة على توسّع الدَين الخاص والعام. لم تنقضِ أزمة الإنتاج ـ المفرط، وأخيرًا ظهرت من جديد عام 2008، بعد أن أطلقت أزمة الديون العقارية الثانوية subprime أفظع الانهيارات المالية.

يجب فهم أحداث الكساد الاقتصادي depression والاكتئاب النفسي depression في نفس السياق: فهما مترابطان ليس فقط لأنهما يغذّيان بعضهما، بل كذلك لأن نظرية التحليل النفسي لديها ما تُعلِّمه للمفكرين الاجتماعيين، ويمكن للعلاج النفسي أن يقترح طرقًا بالغة الفائدة لسيرورات التحول الاجتماعي.

تقوم الإيديولوجيا النيوليبرالية على أساس فكرة أن الاقتصاد يمكن تصوره كنسقٍ متوازن من التوقعات العقلانية والاستثمارات العقلانية. لكن في الفضاء الاجتماعي ليست كل التوقعات عقلانية، وليست كل الاستثمارات "اقتصادية" بالمعنى الحسابي، العلمي. فالرغبة تدخل في السيرورة، واللاوعي يتحدث من وراء ستار كل مشهد استثمار، وكل فعل استهلاكٍ وتبادل اقتصادي.

لهذا السبب أصبح التوازنُ الكامل المفترض للسوق فوضىً كارثية.

كانت النشوة والمنافسة والحيوية متضمّنة جميعها في ديناميات سنوات صعود السوق. تم إنكار الهلع والاكتئاب، لكنهما كانا يعملان دومًا. والآن يعاودان الظهور ويزعجان التدفق المعتاد لإكساب القيمة الرأسمالي. 

والسميورأسمالية، التي هي إنتاج وتبادل أشياء سميوطيقية، طالما استغلت الروح كقوةٍ إنتاجية وكذلك كساحة سوق. لكن الروح غير قابلةٍ للتوقّع أكثر بكثير من قوة العمل العضلية التي كانت تعمل في خط التجميع.

في سنوات اقتصاد البروزاك كانت الروحُ سعيدةً باستغلالها. لكن لم يكن ذلك ليدوم إلى الأبد. ظهرت "متاعب الروح" لأول مرة في آخر سنوات عقد الدوت كوم، حين تم الإعلان عن قيامةٍ ـ تكنولوجية تحت اسم قملة الألفية. كانت المخيلة الاجتماعية تمتليء بالتوقعات القيامية بحيث خلقت أسطورة انهيارٍ ـ تقني كوكبي موجةً مذهلة عبر العالم بأسره. لم يحدث شيءٌ ليلة الألفية، لكن النفس الكوكبية ترنّحت للحظةٍ على حافة الهاوية.

في تلك الأيام، كان آلان جرينسبان Alan Greenspan يتحدث عن الحيوية اللاعقلانية، كي يؤكد التأثيرات الخطيرة للاضطرابات العاطفية في مجال الأسواق المالية. لكن هذه الاضطرابات لم تكن حادثًا، ظاهرةً مؤقتة عارضة: بل كانت تأثير الاستغلال ـ المفرط لطاقتنا السيكولوجية؛ كانت ضرراً جانبيا، النتيجةَ التى لا يمكن تجنّبها للروح في العمل. وفي الحقيقة، من المستحيل تجنّب انتشار العاطفية، من المستحيل تجنّب تأثيرات الأمراض النفسية حين يتم إخضاع الطاقات العصبية لقوة العمل الإدراكيتارية لمشابهةٍ ـ معلوماتيةٍ لا تنقطع.

 تجسّد الخوف من كسادٍ في ربيع عام 2000، حين تعرّض الاقتصاد الافتراضي فجأةً للتهديد نتيجة الانهيار الذي أصاب سوق الأوراق المالية للتكنولوجيا ـ المتقدمة. انفجرت فقاعة الدوت كوم واهتز الاقتصادُ الكلي بعمقٍ لدرجة أن شائعات الكساد بدأت تنتشر في كل أنحاء العالم.

 لكن كيف تعالج كسادًا/اكتئابًا؟

هل ستحاول شفاءه بالأمفيتامينات، بعلاج صدمةٍ بأدويةٍ نفسيةٍ عقلية psychotropic منشّطة؟ لن يفعل ذلك سوى طبيبٍ أحمق، لكن لسوء الحظ تصادف أن مثل هذا الشخص يجلس حقًا في المكتب البيضاوي للبيت الأبيض، ووصف جورج دبليو بوش علاجًا بالأمفيتامين على هيئة حربٍ وتخفيضاتٍ ضريبية للأثرياء. أصدر بوش دعوةً للتسوّق، وسهّل فعليًا زيادةً غير مسبوقةٍ في الدَين الخاص والعام.

وفي نفس الوقت، جرى شن حملةٍ في كل أنحاء العالم ضد الذكاء الجماعي، وضد حرية البحث العلمي، وضد المدارس العامة.

على المدى الطويل، لن يعمل علاجٌ للاكتئاب/الكساد يقوم على أساس تحفيزِ النشوة، وعاجلاً أو آجلاً سينهار الكيانُ العضوي المكتئب. أعدَّ التشديدُ على أنماط الحياة التنافسية والاستثارةُ الدائمة للجهاز العصبي الانهيارَ النهائي للاقتصاد الكوكبي الذي يتفتح الآن تحت الأعين المذهولة للبشرية.

كان المثل الأعلى النيوليبرالي عن التوازن الكامن بين مختلف مكوّنات النسق الاقتصادي نظريةً مَعِيبة لأنها لم تأخذ في الاعتبار التأثيرات النسقية للعقل الاجتماعي. ومن هنا تأرجح الاقتصادُ الثنائي القطب من النشوة إلى الهلع، وهو الآن يترنح على حافة كساد/اكتئاب عميق.

فيما يتجاوز معرفتنا 

الاقتصاديون والسياسيون منزعجون: يسمونها أزمة، ويأملون أنها ستتطور مثل الأزمات الكثيرة السابقة التي اعترضت الاقتصاد في القرن الماضي لكنها انقضت، تاركةً الرأسمالية أقوى.

 أظن أن هذه المرة مختلفة: فليست أزمة، بل الانهيارُ النهائي لنسقٍ دام خمسمائة عام.

أنظر إلى المشهد الحالي: القوى العالمية الكبرى تحاول إنقاذَ المؤسسات المالية، لكن الانهيار المالي قد أصاب النسق الصناعي بالفعل: الطلبُ ينخفض، وفقد الملايين وظائفهم. ومن أجل إنقاذ البنوك، تجد الدولة نفسها مضطرةً لأخذ المال من دافعي ضرائب الغد، وهذا يعني أن الطلب سينخفض أكثر في السنوات القادمة. يتدهور الإنفاق العائلي، وبالتالي سيضطر قدرٌ كبير من الانتاج الصناعي الحالي إلى التوقف.

في مقالٍ نشر مؤخرًا في صحيفة إنترناشيونال هيرالد تريبيون International Herald Tribune ، كتب المحافظ ـ المعتدل ديفيد بروكس David Brooks:

"يزعجني أننا نعملُ فيما يتجاوز بكثيرٍ معرفتنا الاقتصادية".

هذه هي المسألة بالضبط: فتعقيدُ الاقتصاد الكوكبي يتجاوز بكثير أي معرفةٍ وحكمٍ ممكن.

عند تقديم خطة أوباما للإنقاذ يوم 10 فبراير 2009، قال وزير الخزانة الأمريكي، تيموثي جايثنر Timothy Geithner:

"أود أن أكون صريحًا. هذه الإستراتيجيةُ الشاملة ستكلّف مالًا، وتتضمن مخاطرةً، وتستغرق وقتًا. سيكون علينا أن نُعدّلها عند تغيّر الظروف. سيكون علينا أن نجرّب أشياء لم نجربها أبدًا من قبل. سنرتكب أخطاء. سنمر بفتراتٍ ستسوءُ فيها الأمور والتقدم غير متكافيء أو متقطّع".

رغم أن هذه الكلمات تُظهر الأمانة الفكرية لجايثنر، والاختلاف المؤثر للطبقة الأمريكية القائدة الجديدة بالمقارنة مع جماعة بوش، فإنها تشير باتجاه انهيارٍ حقيقي في الثقة السياسية بالنفس.

المعرفة السياسية والاقتصادية التي ورثناها عن الفلسفة العقلانية الحديثة لا جدوى منها الآن، لأن الانهيارَ الراهن هو تأثيرُ التعقيد اللانهائي للإنتاج اللامادي وعدم اتساق أو عدم كفاءة الذهن العام حين يُواجَه بإطار الحكم الرأسمالي والملكية الخاصة.

الكاوس Chaos (أي درجةٌ من التعقيد تتجاوز قدرةَ الفهم الإنساني) يحكم العالم الآن. الكاوس يعني واقعًا يبلغ من التعقيد حدًا يتجاوز إمكان اختزاله إلى نماذج فهمنا المعيارية الحالية. النموذج المعياري الرأسمالي لم يعد يمكن أن يكون القاعدةَ الكلية للنشاط الإنساني.

لا يجب أن ننظر إلى الانكماش الراهن من وجهة نظرٍ اقتصادية فحسب. يجب أن نراه كنقطة تحوّلٍ أنثروبولوجية ستُغيِّر توزيعَ موارد العالم والسلطة العالمية. لقد جرى تمثلٌ داخلي عميقٌ للنموذج القائم على النمو، حيث أنه تخلّل الحياة اليومية، والإدراكات الحسية، والاحتياجات، وأساليب الاستهلاك. لكن النمو قد انقضى ولن يعودَ أبدًا، ليس فقط لأن الناس لن يتمكنوا أبدًا من دفع الدَين المتراكم خلال العقود الثلاثة الماضية، بل أيضًا لأن الموارد الفيزيقية الكوكبية قاربت على النفاد والعقل الاجتماعي على حافة الانهيار.

الكارثة والتولّد ـ التشكّلي morphogenesis  

لا يمكن تعريفُ السيرورة الجارية بأنها أزمة. الأزمة تعني نزع ـ البنينة وإعادة ـ البنينة لكيانٍ عضوي قادرٍ رغم ذلك على الحفاظ على بنيته الوظيفية. ولا أعتقد أننا سنرى أي إعادة ـ تكيّف للبنية الكوكبية الرأسمالية. لقد دخلنا سيرورةً كبرى للتولّد ـ التشكلي الكارثي. النموذج المعياري الرأسمالي، القائم على الربط بين العائد وأداء العمل غير قادرٍ على أن يؤطّر (سميوطيقيًا واجتماعيًا) الشكل الراهن للذهن العام.

في الثلاثينات ارتكزت فرصة الصفقة الجديدة New Deal (ج) على توفّر الموارد الفيزيقية وإمكانية زيادة الطلب والاستهلاك الفرديين. وكل هذا قد انقضى. فالكوكب يفرغُ من الموارد الطبيعية والعالم متّجه صوب كارثة بيئية. والمنحنى الهابط الاقتصادي والانخفاض في أسعار البترول يُغذّيان نضوبَ واستنفاد الموارد الكوكبية.

وفي نفس الوقت لا يمكننا التنبؤ بأي ازدهارٍ في الاستهلاك الفردي، على الأقل في المجتمعات الغربية. ومن هنا فمن العبث ببساطة أن نتوقّع نهايةً لهذه الأزمة، أو سياسةً جديدة للتشغيل الكامل. لن يكون هناك تشغيلٌ كاملٌ في المستقبل.

الانهيار في الاقتصاد الكوكبي ليس فقط تأثيرًا لانفجار الفقاعة المالية. بل هو أيضا وأساساً تأثيرٌ لانفجار فُقاعة العمل. لقد ظللنا نعمل أكثر مما ينبغي خلال القرون الخمسة الماضية، هذه هي الحقيقة البسيطة. تضمّن العمل كثيرًا جدًا التخلّي عن وظائف اجتماعيةٍ حيوية وتسليعًا للغة، والمشاعر، والتعليم، والعلاج، والرعاية ـ الذاتية.

المجتمع لا يحتاج المزيدَ من العمل، ولا المزيد من الوظائف، ولا المزيد من المنافسة، على العكس: نحن بحاجةٍ إلى خفضٍ كبير في زمن العمل، إلى تحريرٍ هائل للحياة من المصنع الاجتماعي، حتى نُعيد نسج نسيجِ العلاقة الاجتماعية. إنهاءُ الارتباط بين العمل وبين الدخل سيتيح إطلاقًا هائلًا للطاقة للمهام الاجتماعية لن يعودَ يُمكنُ إدراكهُ كجزءٍ من الاقتصاد ويجب أن يصبح مرةً أخرى أشكالًا للحياة.

بينما ينكمش الطلبُ وتُغلق المصانع، يعاني الناسُ من نقص النقود ولا يمكنهم شراء ما يحتاجونه للحياة اليومية. هذه حلقةٌ شريرة يعرفها الاقتصاديون جيدًا جدًا لكنهم عاجزون تمامًا عن كسرها، لأنها الطيّة المزدوجةُ المُقدَّرُ للاقتصاد أن يُغذّيها. لا يمكن حلُّ الطيَّةِ المزدوجة للإنتاج ـ المفرط بوسائل اقتصادية، بل فقط بتحولٍ أنثروبولوجي، بالتخلي عن الإطار الاقتصادي  للدخلِ مقابلَ العمل. فلدينا في آنٍ واحد زيادةٌ مفرطة في القيمة وانكماشٌ في الطلب. نحتاج بصورةٍ عاجلة إلى إعادة توزيعٍ للثروة. وفكرة أن الدخل يجب أن يكون المكافأة على الأداء هي دوجما يجب أن نتخلّص منها تمامًا. لكل شخص الحق في تلقّي كمية النقود الضرورية للبقاء. وليس للعمل شأنٌ بذلك.

ليست الأجورُ مُعطىً طبيعيًا، بل هي نتاجُ صياغةٍ ثقافيةٍ نوعية للمجال الاجتماعي: فربطُ البقاء والإخضاع بسيرورة الاستغلال كان ضرورةً للنمو الرأسمالي. ونحن الآن بحاجةٍ للسماح للناس بتحرير معرفتهم، وذكائهم، ومشاعرهم. هذه هي ثروة اليوم، وليس العمل القسري بلا فائدة. وحتى تتحرّر غالبيةُ البشرية من الارتباط بين الدخل والعمل، سيظل البؤس والحرب هما معيار العلاقة الاجتماعية.

كيف تشفي اكتئابا/كسادا؟  

رغم أن فيليكس جواتاري وجيل دولوز نادرا ما استخدما كلمة D"" [اكتئاب depression]، إن كانا قد فعلا على الإطلاق، فإنهما يقولان أشياء مثيرة جدًا للاهتمام في هذا الموضوع في كتابيهما الأخيرين، كاوسموسيس Chaosmosis، وما الفلسفة؟ ففي الفصل الختامي لـما الفلسفة؟ يتحدثان عن الكاوس. الكاوس، بتعبيرهما، يرتبط كثيرًا بتسارُع دائرة السميوطيقا وبزيادة سُمك القشرة ـ المعلوماتية. فتسارع العالم المحيط من العلامات، والرموز، والمشابهة ـ المعلوماتية يُنتج الهلع، كما ذكرتُ أنا فعلًا في الأجزاء السابقة من هذا الكتاب. الاكتئاب هو إخمادُ الرغبة بعد تسارعٍ مُصابٍ بالهلع. حين لا تعودُ تستطيع فهمَ تدفق المعلومات الذي يحفز عقلك، فإنك تميل إلى ترك مجال الاتصال، مُعيقًا أي استجابةٍ ذهنية ونفسية. لنعد إلى اقتباسٍ استخدمناه بالفعل:

"ليس ثمة ما هو أشدُ إيقاعًا للأسى من خاطرٍ يهربُ من نفسه، من أفكارٍ تتطاير، تختفي ولم تكد تتشكَّل، وقد تآكلت فعلا نتيجة النسيان أو .ترسَّبت إلى أخرى لم نعد نتملّكها"

لا يجب أن ننظر إلى الاكتئاب على أنه مجرد مرض، بل أيضًا على أنه شكلٌ من المعرفة. يقول جيمس هيلمان James Hillman أن الاكتئاب هو حالةٌ فيها يواجه العقلُ المعرفةَ بعدم الدوام والموت. المعاناة، عدم الاكتمال، الشيخوخة، التحلُّل: هذه هي الحقيقة التي يمكنك أن تراها من وجهة نظرٍ اكتئابية.

في مقدمة ما الفلسفة؟ يتحدث دولوز وجواتاري عن الصداقة. يقترحان أن الصداقة هي الطريقةُ للتغلُّبِ على الاكتئاب، لأن الصداقةَ تعني تشارُكُ معنى، تَشاركُ رؤيةٍ وإيقاعٍ مشترك: نغمة قرار مشتركة (ريتورنيللو ritournelle) برطانة جواتاري.

في كاوسموسيس يتحدث جواتاري عن "الفهم التولّدي ـ المتنافر للذاتية":

"في العالم بين ـ الشخصي للرُضَّع، استكشف دانييل ستيرن Daniel Stern  بصورةٍ بارزة التشكلات الذاتية قبل ـ اللغوية للرُضّع. يُبين أنها ليست على الإطلاق مسألة ‘مراحلٍ’ بالمعنى الفرويدي، بل مستوياتٌ لاكتساب الذاتية تُبقي على نفسها في توازٍ خلال الحياة. إنه بذلك يرفض التولّد ـ النفسي المبالَغ فيه للعُقد الفرويدية، التي تم تقديمها على أنها ‘الكليّات’ البنيوية للذاتية. وفضلًا عن ذلك يُشدد على الطابع عبر ـ الذاتي بصورةٍ كامنة لخبراتِ الرضيع المبكرة"

تفرُّد التولد ـ النفسي محوريٌ في رؤية جواتاري التحليلية ـ الفصامية. ويتضمن هذا أيضا تفرُّد السيرورة العلاجية.

"إنها ليست ببساطةٍ مسألةَ إعادةِ صياغةِ ذاتيةِ المريض ــ كما وُجدت قبل الأزمة الذهانية ــ بل مسألةُ إنتاجٍ فريدٍ من نوعه... فهذه العُقد تقدّمُ للناس بالفعل إمكانياتٍ متنوعة لإعادةِ تركيبِ جسمانيتهم الوجودية، للخروجِ من طرقهم المسدودةِ التكرارية، وبطريقةٍ معينة لإعادة اكتساب ذاتيةٍ لأنفسهم."

هذه السطور القليلة يجب قراءتها، في اعتقادي، ليس فقط كبيانٍ علاجي ـ نفسي بل أيضا كبيانٍ سياسي.

هدف التحليل الفصامي ليس، بكلمات جواتاري، إعادةَ تثبيتِ المعيار الكلي في سلوك المريض، بل إكسابه ذاتيةً، مساعدته أن يصبح واعيا باختلافه، منحه القدرة على أن يكون مفيدًا بكونه مختلفًا وبإمكاناته الفعلية.

عند التعامل مع اكتئاب ليس المشكلة هي إعادة الشخص المكتئب إلى السواء، إعادة دمج السلوك في المعايير الكلية للغة الاجتماعية الاعتيادية. الهدف هو تغيير بؤرة انتباهه الاكتئابي، إعادة ـ تبئير، نزع موطنية العقل والدفق التعبيري. الاكتئاب يقوم على تصلُّب نغمة قرار المرءِ الوجودية، على تكرارها الحواذي. الشخصُ المكتئب عاجزٌ عن الخروج، عن ترك نغمة القرار التكرارية ويظل يعودُ مرة أخرى إلى المتاهة.

وهدفُ المحلِّل الفصامي هو منحهُ إمكانية رؤية مشاهد أخرى، تغيير بؤرته، فتح دروب جديدة للخيال.  

وأنا أرى تماثلًا بين هذه الحكمة التحليلية ـ الفصامية وبين مفهوم كون Kuhn عن تحوُّل النموذج المعياري الذي يحتاج أن يحدث حين تدخل المعرفةُ العلمية لغزًا. في كتاب بنية الثورات العلمية (1962) يُعرِّف كون النموذج المعياري بأنه "كوكبة من المعتقدات تتشاركها جماعةٌ من الناس". يمكن إذن النظر إلى النموذج المعياري على أنه نموذجٌ يتيح فهم منظومةٍ معينة من الحقائق. والثورة العلمية في رؤية كون هي خلق نموذجٍ جديد يلائم الواقع المتغيِّر أفضل من النماذج المعرفية epistemic الأسبق.

كلمة "إبستيمه episteme" في اللغة اليونانية تعني الوقوفَ أمام شيء: النموذج المعياري المعرفي epistemic  هو نموذج يتيح لنا أن نواجه واقعًا. النموذج المعياري هو جسر يمنح الأصدقاء القدرة على عبور هاوية اللا ـ وجود.

التغلب على الاكتئاب يتضمن بعض الخطوات البسيطة: نزعُ توطين نغمة القرار الحواذية، وإعادة التبئير، وتغيير مشهد الرغبة، لكن أيضا خلقُ كوكبةٍ جديدة من المعتقدات المشتركة، الإدراكُ المشترك لبيئةٍ نفسيةٍ جديدة وبناء نموذج جديد للعلاقة.

يقول دولوز وجواتاري أن الفلسفة هي العلم الذي يتضمن خلق مفاهيم. وبنفس الطريقة، يجادلان بأن التحليل الفصامي هو العلم الذي يتضمن خلق مدركاتٍ حسية ومشاعر من خلال نزع توطين الأطر الحواذية.

في الوضع الراهن، يجب تطبيق التحليل الفصامي كعلاجٍ سياسي: فالاقتصاد الثنائي القطب يسقط في اكتئابٍ عميق. وما حدث خلال العقد الأول من القرن يمكن وصفه بتعبيراتٍ مرضية ـ نفسية، بتعبيرات الهلع والاكتئاب. الهلع يحدث حيث تبدأ الأشياء في التدويم حولنا بسرعةٍ مفرطة، حين لا نعود نستطيع التقاط معناها، قيمتَها الاقتصادية في العالم التنافسي للتبادل الرأسمالي. الهلع يحدث حين تتجاوز سرعةُ وتعقيد التدفق المحيط من المعلومات قدرةَ العقل الاجتماعي على فك الشفرة والتنبؤ. في هذه الحالة تسحب الرغبةُ استثماراتها، ويُفسح هذا الانسحاب الطريقَ للاكتئاب.

وها نحن هنا، بعد تصدُّع الرهونات العقارية الثانوية subprime والانهيار الكوكبي التالي.

فماذا الآن؟

لا يمكن حل الانهيار الاقتصادي بأدوات الفكر الاقتصادي، لأن التصور الاقتصادي هو المشكلة في الحقيقة وليس الحل.

 التناظر الصارمُ بين الدخل والعمل، والسعي المتعصب للنمو، ودوجمات التساوق compatibility  والمنافسة: هذه هي السمات المولدة للمرض التي يجب أن تتخلص منها ثقافتنا الاجتماعية، إذا أردنا الخروج من اكتئابنا. في الخطاب السياسي السائد، يعني التغلب على اكتئابٍ/كساد إعادةَ إطلاقِ ديناميات النمو والاستهلاك: هذا ما يسمونه "التعافي". لكن هذا سيكون مستحيلًا لأن الدَين الجمعي لا يمكن تسديده ولأن الكوكب لا يمكنه تحمُّل مرحلةٍ جديدة من التوسع الرأسمالي. اقتصاد النمو هو ذاته السُّم. ولا يمكن أن يكون الترياق.

على مدى السنوات العشر الأخيرة، ظل الأنثروبولوجي الفرنسي سيرج لاتوش Serge Latouche يتحدث عن نزع ـ النمو décroissance كهدفٍ سياسي. لكن نزع ـ النمو الآن حقيقةٌ واقعة: فحين ينخفض الإنتاجُ القومي الكلّي في كل مكان، تتهاوى أقسامٌ كاملة من النسق الصناعي وينهار الطلبُ، ويمكننا القول أن نزع ـ النمو لم يعد برنامجًا للمستقبل. فنزع ـ النمو قائمٌ.

المشكلة هي أن الثقافة الاجتماعية ليست مستعدة لذلك، لأن تنظيمنا الاجتماعي قائمٌ على فكرة التوسع الذي لا ينتهي للاستهلاك، وقد تشكّلت الروحُ الحديثة بواسطة مفهوم الخصخصة وبتأثيرات الزيادة التي لا تنتهي للاستهلاك.

يجب إعادةُ النظر في ذاتِ مقولة الثروة: ليس فقط مفهوم الثروة، بل إدراك كون المرء ثريًا. فالمماهاة بين الثروة والقدرة الشرائية عميقة الجذور في النفس والوجدانية الاجتماعيتين. لكن فهمًا مختلفًا للثروة ممكن، فهمًا لا يقوم على الامتلاك، بل على المتعة. أنا لا أفكر في تحوّل تقشّفي في الإدراك الجمعي للثروة. بل أعتقد أن المتعة الحسية ستظل دائمًا أساس الرفاه. لكن ما المتعة؟ ساوت الثقافة الانضباطية للحداثة بين المتعة والتملّك. وخلقَ الفكرُ الاقتصادي الندرةَ وخصخص الحاجة الاجتماعيةَ، حتى يُتيح سيرورةَ التراكم الرأسمالي. وهنا يكمن مصدر الاكتئاب الراهن.

سيرورة العلاج التي لا تنتهي 

لا يجب أن نتوقع تغيّرًا سريعًا في المشهد الاجتماعي، بل بالأحرى ظهورًا بطيئًا لميولٍ جديدة: ستهجر جماعاتٌ نوعية مجالَ الاقتصاد المتهاوي: سيتخلّى المزيدُ والمزيد من الأفراد عن البحث عن وظائف وسيبدأون في خلق شبكاتِ بقاءٍ خارجَ ـ الاقتصاد.

سيتغيّر ذاتُ إدراكِ الرفاه والثراء في اتجاه التقشفِ والحرية.

ستُتيح هذه الثورةُ الثقافية التي تمسُّ الحاجةُ إليها نزعَ ـ خصخصة الخدمات والسلع. لن يحدث هذا بطريقةٍ مُخطّطةٍ ومنسجمة. بل سيكون تأثيرَ انسحابِ أفرادٍ منفردين وجماعاتٍ نوعية منفردة وخلقِ اقتصادٍ قائم على اقتسامِ الأشياء والخدمات المشتركة وعلى تحريرِ الوقت للثقافة، والمتعة، والمشاعر.

إن مماهاةَ الرفاهيةِ بالملكية الخاصة مُتجذّرةٌ بعمق بحيث لا يمكننا أن نستبعد بشكلٍ مطلق إمكانَ الإضرار بشكل همجي بالبيئة الإنسانية. لكن مهمّة الذهنِ العام هي هذه على وجه الدقة: أن يهربَ من ذُهان التشكك، أن يخلقَ مناطق للمقاومة الإنسانية، أن يُجرّب أشكالًا مستقلة ذاتيًا من الإنتاج القائم على نماذج التكنولوجيا ـ الراقية/ الطاقة المنخفضة، أن يُسائل الناسَ بلغةٍ علاجيةٍ أكثر من كونها سياسية.

في القادم من الأيام، ستكون السياسةُ والعلاجُ شيئًا واحدًا. سيشعر الناسُ باليأسِ والاكتئاب والهلع، لأنهم لا يستطيعون التعاملَ مع اقتصاد ما بعد ـ النمو وسيفتقدون هويتَنا الحداثيةَ المتلاشية. ستكون مهمتُنا الثقافية أن نرعى هؤلاء الناس ونعتني بصدمتهم ونريهم الطريقَ للسعي إلى التوافق السعيد المتاح. ستكون مهمتنا هي خلق مناطق اجتماعية للمقاومة الإنسانية، مناطق للعدوى العلاجية. لن تختفي الرأسمالية من المشهد الكوكبي، لكنها ستفقدُ دورَها الشامل، المعياري في تشكيلنا السميوطيقي، ستصبح واحدًا من الأشكالِ الممكنة للتنظيم الاجتماعي. ولن تكون الشيوعيةُ أبدًا مبدأَ إضفاءٍ جديدٍ للطابعِ الكلي، بل واحدًا من الأشكال الممكنة للاستقلال الذاتي عن حكم الرأسمالية.

في الستينات، نشر كاستورياديس Castoriadis  وأصدقاؤه مجلة كان عنوانها: الاشتراكية أو الهمجية.

لكنك ستتذكر أن دولوز وجواتاري، في الريزومة Rhizome (د)، مقدمة كتاب ألف مسطح، جادلا بأن أداة الفصل disjunction  (أو . . . أو . . . أو) هي على وجه الدقة الصيغةُ السائدة للميتافيزيقا الغربية التي نحاول نسيانها. ويعارضان نموذج أداة الفصل هذه بمقاربة وصليةconjunctive :

"الريزومة ليس لها بدايةٌ أو نهاية، بل إنها دومًا مُنتصفٌ، فيما بين الأشياء، وجودٌ بيني، إنترميتزو intermezzo. الشجرة انتماءٌ، لكن الريزومة تحالفٌ، تحالفٌ فحسب. تفرض الشجرةُ فعلَ ‘يكون’، لكن نسيجَ الريزومة هو أداةُ الوصل، ‘و . . . و . . . و . . .’ أداةُ الوصل هذه تحمل من القوة ما يكفي لتهزّ وتنزعَ جذور الفعل ‘يكون’ [. . .] لتؤسس منطق الـو، لتُطيح بالأنطولوجيا، لتستغني عن الأُسس، لتُبطل النهايات والبدايات."

لا يجب النظرُ إلى سيرورة الاستقلال الذاتي باعتبارها تساميًا Aufhebung، بل علاجًا. بهذا المعنى، فإنها ليست إضفاءً للطابع الكلي ولا يُقصدُ منها أن تدمّر أو تُلغي الماضي.

في خطابٍ إلى أستاذه، سيجموند فرويد، سأل المحلّلُ النفسي الشاب متى يكون ممكنًا اعتبارُ العلاج مُنتهيًا ويُقال للمريض، "أنت على ما يرام". فأجاب فرويد أن التحليل النفسي يكون قد بلغ هدفَه حين يفهمُ الشخصُ أن العلاج سيرورةٌ لا تنتهي.

الاستقلال الذاتي أيضا سيرورةٌ بلا نهاية.


هوامش المترجم:

أ. depression: تعني في آنٍ واحد اكتئابًا في علم النفس، وكسادًا في الاقتصاد.

ب. dotcom crash: كانت فقاعة مضاربة أي فترة مضاربة مفرطة في الولايات المتحدة أساساً فيما بين عامي 1994 و2000، وهي فترة نموٍ مفرط في استخدام الإنترنت.

ج: New Deal:: الصفقة الجديدة: سلسلة من البرامج، ومشروعات الأشغال العامة، والإصلاحات المالية، والضوابط الاقتصادية نفذها الرئيس الأمريكي فرنكلين روزفلت بين عامي 1933 و1936 استجابة لاحتياجات الإصلاح ومساعدة الاقتصاد على التعافي في أعقاب الكساد الكبير عام1930. كانت نتيجتها إصلاح وول ستريت، ومساعدة المزارعين والعاطلين وبرامج الضمان الاجتماعي.

د. rhizome: تعني rhizo شكلًا توليفيًا. ويصف مصطلح الريزومة شكلًا من النبات يمكنه أن يمتد من خلال نسقه الجذري تحت ـ الأرضي الأفقي الشبيه بالدرنة لينتج نباتات جديدة. وعند دولوز وجواتاري تمثل الريزومة نسقًا مفتوحًا من الكثرات دون جذور، ترتبط فيما بينها بطريقة غير شجرية على مستوى أفقي لا يفترض سلفًا لا مركزًا ولا تعاليًا. وطبيعة الريزومة هي طبيعة مصفوفةٍ متحركة مكونة من أجزاء عضوية وغير عضوية تشكل ارتباطات تكافلية ولا متوازية.