«الصرخة الأولى، أو لماذا يبكي الوِلدان: نظرية لترامب»

مقال: آرون شوستر

نُشر على E-flux

الصور من الناشر الأصلي

ترجمة: طارق عثمان

آرون شوستر: أستاذ الفلسفة بجامعة شيكاغو.

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الاخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


شبَّه العديدُ من النُقَّاد والصحفيين والمواطنين المعنيين طبعَ ترامب بطبع الطفل الرضيع. فهل هو أول رئيس رضيع في تاريخ الأمة، رئيس يتصرف في المكتب البيضاوي كـ«جلالة الرضيع» - إذا ما استخدمنا عبارة فرويد؟[1] في هذه المقالة، سأفصِّل القولَ، نظريًّا، في صِبيانية (طِفليّة) ترامب، وسأفتتحُها بتأملٍ عام حول سيكولوجيا الوليد وبكاء الرُضَّع، وبعدها سأفحص نظرية واحدة شيقة للغاية لبكاء الوِلدان، نظرية إيمانويل كانط.

قوى فظيعة

ببلوغه سنتين من عمره، يكون الرضيع العادي قد بكى نحو أربعة آلاف مرة.[2] وبمقدور الرضيع المصاب بالمغص أن يبكي لساعات بلا انقطاع، دافعًا بأبويه إلى حافة الجنون واليأس. ومن بين كل وجع القلب والمعاناة التي يخلفها بكاءُ الأطفال، ربما كان أسوأ كدر يتسبب فيه هو ذلك الكدر الذي يُدخِله على ممارسة الفلسفة، على التفلسف. فها هي إلويز، العاشقة الشهيرة، تشتكي إلى أبيلار،[3] قائلة: «من ذا الذي يمكنه أن يركز وهو يتفكر في النصوص المقدسة وفي الفلسفة ويكون قادرًا، في الوقت عينه، على تحمُّل بكاء الوِلدان، والمربيات اللواتي يحاولن إسكاته بالتهويدات، وضجيج الرجال والنساء الذي يروح ويجيء في أرجاء المنزل».[4] وفي هذا الوضع، يكون أمام الفيلسوف سبيل وحيد ممكن للانتقام: أن يحوِّل العائقَ المزعج الذي يعترض طريق التأمل الفلسفي إلى موضوع للنظر والتفكر، أن يحوِّل عويلَ الرُضَّع إلى مسألة نظرية.

لماذا يبكي الرُضع؟ يعزو المحلل النفسي الإنجليزي دونالد وينيكوت بكاءَ الرُضَّع إلى أربعة دوافع مميزة: الإشباع، الألم، الغضب، الأسى.[5] وربما كان الدافع الأول [الإشباع] أقل الدوافع الأربعة توقعًا: إن وينيكوت يشدد على أن البكاء مصدر لذة للرضيع، فمثله مثل أي نشاط حركي، يؤدي البكاءُ وظيفةً حيوية للرضيع (وهو ما يتفق مع رأي أرسطو إذ يقول: «مخطئون أولئك الذين يسعون إلى كبح بكاء الأطفال وصراخهم عالي الصوت، لأن البكاء والصراخ يساهمان في نمو الأطفال، ويمرنان أجسادهم إلى حدٍ ما. فإجهاد الصوت له تأثير مقوِّي مشابه للتأثير الذي يُحدِثه كتمُ النفس في أثناء المجهود العنيف»[6]). الدافع الثاني هو الألم، هذا الإعلان الصاخب عن وجع الجسد وكربه، الذي يُحدِثه الجوعُ غالبًا؛ فبالنسبة للرضيع، لا يُخْتَبر الجوعُ باعتباره رغبة إيجابية في الطعام وإنما أزمة حلَّتْ بالجسد، ألمًا ينبغي تسكينه. أما بكاء الغضب فيؤشر على التميُّز غيظًا، حيث يمتلئ الرضيع بالغضب إلى أن يتفجر بالعويل. ومهما كانت عسيرة هي السيطرة على رضيع غضبان، إلا أن وينيكوت يؤكد على الجانب الإيجابي للغضب: على الأقل الغضب يتضمن شيئًا من إيمان الرضيع بالآخر، باعتبار هذا الآخر قادرًا على الاستجابة للصرخات وتغيير الوضع الذي أثار السخط ابتداءً. فعبر صراخه، يُعْرِب الرضيعُ عن رغبةٍ في التغيير. إن رضيع لا يغضب هو رضيع قد خاب رجاؤه، رضيع بلا أمل، لم يبقَ له إلا أن يئن بصوت مكتوم أو يضرب رأسه في الجدار؛ وفي نهاية المطاف سيتوقف عن البكاء بالكلية ويغرق في صمت مطبق. وأخيرًا هناك البكاء بسبب الأسى والفقد، والذي يؤشر على نمو سيكولوجية الرضيع بقدر معتبر، فبينما الغضب غالبًا استجابة مباشرة للإحباط، يقتضي الأسى والحزن فهمًا أكثر تركيبًا لعلاقة الذات بالآخر، إنها دراما الارتباط والفقد بأجمعها. يمكن النظرُ إلى البكاء من جراء الحزن باعتباره إيماءة شعرية في الحدود الدنيا، ومن المحتمل أن يكون أحد منابع الموسيقى الأساسية: إنه محاولة لتعزية النفس، إنه أغنية حزينة يغنيها الرضيعُ لنفسه حتى يمنح فقدَه صوتًا، وحتى لا يبقى وحيدًا في مواجهة هذا الفقد.

هل يُمسِك هذا التصنيف للدموع بما على المحك فعلًا في عَويل الرُضَّع؟ إن الشيء الغائب عن تحليل وينيكوت، الدقيق والشامل على ما يبدو، هو الحس بكيف يمكن لبكاء الرضع أن يكون جنونيًّا، الحس ببعده المغالي والشيطاني حتى، الذي يدفع بأكثر التفسيرات السيكولوجية معقولية إلى نقطة الانهيار. فكما قال فِتجنشتاين ذات مرة: «من ينصت بتمعن إلى بكاء طفل سوف يعرف أن ثمَّة قوى نفسية، قوى فظيعة، تنام بداخله، قوى مختلفة عن أي شيء يُفترَض وجوده عادة. إنها غضب ضاري وألم وشهوة للتدمير».[7] هذه القوى الفظيعة والغامضة، «المختلفة عن أي شيء يُفترض وجوده عادة» كانت موضوعًا لمسلك آخر بأكمله من التنظير التحليلي النفسي، افتُتِح بفكرة فرويد دافع (غريزة) الموت (death drive)، واستوْعِب لاحقًا في تحليل ميلاني كلاين النفسي للأطفال، بتشديده على المخاوف والعدوانيات البدائية، على الهجمات والهجمات المضادة. وتلخص حنه سيجال رؤيةَ كلاين السريالية للصراعات النفسية التي تعتمل في الرضيع كالتالي:

«إن الرضيع الجائع الذي يمور غضبًا، ويصرخ ويرفس، ليتخيل أنه يهجم بالفعل على الثدي، يمزقه ويفجره، ويستشعر صرخاته التي تمزِّقه وتؤلمه بوصفها هجومًا مضادًا من الثدي الممزق. وبالتالي هو لا يختبر الجوع كرغبة وحسب وإنما هو يشعر بألم الجوع وبصرخاته كهجوم عدواني عليه».[8] 

لقد اشتهر عن فِتجنشتاين قوله: «لو كان بمقدور أسد أن يتكلم، لما كان بمقدورنا أن نفهمه».[9] لكن ماذا عن رضيع؟ لو كان بمقدور الرُضَّع أن يتكلموا، فهل سيكون بمقدورنا أن نفهمهم؟ هل سيتكلمون عن الأثداء المفترسة والقضبان المعتدية كما فعلتْ ميلاني كلاين؟ إذا كانت القوى الفظيعة الثاوية داخل الرضيع تتحدى الفهمَ الشائع، خالقةً فجوة بين عالم الطفل وعالم البالغين، فإن هذه القوى لا تُدحَر بالكلية بواسطة التربية والتعليم وإنما تظل موجودة، بطريقة أو بأخرى، بداخلنا. فخلف الدوافع الأكثر وضوحًا وصراحة، ما الذي نفهمه عندما يبكي بالغ أو ينوح أو ينفجر كالطفل غضبًا؟ ماذا لو، على سبيل المثال، فعل رئيس الدولة ذلك؟

شكوى الرضيع

أود أن أركز هنا على تفسير واحد لبكاء الرضيع، وهو تفسير مُضمَّن في نذر يسير من التعليقات الهامشية لإيمانويل كانط. فكانط قد وضع نظرية غريبة لكنها فاتنة لصراخ الرضيع، على أساس فلسفته الأخلاقية ومفهومه عن حرية الإرادة البشرية. فعند كانط، عندما يبكي الرضيع فهو لا يُمرِّن رئتيه، ولا يعبِّر عن ألم جسدي، ولا يعرب عن غضبه، ولا يأسى على فقيد. وإنما هو يصدر حكمًا، حكم على ظروف وجوده (غير العادلة). وعليه، ينبغي أن نضيف إلى قائمة وينيكوت للدموع صنفًا خامسًا: البكاء بسبب الظلم. يقول كانط: «إن الوليد الذي انتزع نفسه للتو من رحم أمه، يدخل العالم وهو يصرخ بعلو صوته، بخلاف جميع الحيوانات الأخرى، ببساطة لأنه يعتبر عجزه عن استعمال أطرافه إعاقة وتقييدًا، ومن ثمّ، هو يطالب على الفور بحريته (وهو التمثُّل الذي لا يمتلكه أي حيوان آخر)».[10] ويتابع كانط قائلًا:

«حقيقة أن شعوره بعدم الراحة لا يرجع إلى ألم جسدي وإنما إلى فكرة غائمة عن الحرية وإعاقتها، عن الظلم (أو إلى تمثُّل مُناظِر لهذه الفكرة) لتنكشف بعد شهور قليلة من الولادة بواسطة الدموع التي ترافق صراخه؛ إذ تؤشر الدموع على ضرب من الحنق يشعر به عندما يسعى إلى بلوغ أشياء معينة أو عندما يسعى عمومًا إلى تغيير وضعه ببساطة ويجد نفسه عاجزًا عن فعل ذلك. ــ هذا الباعث على نيل ما يريده واعتباره لكل عائق يقف في طريقه ضربًا من الإهانة يتجلَّى في نبره صوته، ويسفر عن خبثٍ تجد الأم أن من الضروري المعاقبة عليه، المعاقبة التي يَرُد عليها عادةً بصراخاتٍ أعلى. نفس الأمر يحدث عندما يتسبب هو في سقوطه. إن صغار الحيوانات الأخرى ليلعبون بما يتشاجر حوله البشر مبكرًا مع بعضهم البعض، ويبدو الأمر كما لو كان ثمة مفهوم للعدالة (متعلق بالحرية الخارجية) البشر مفطورين عليه، وليس شيئًا يكتسبونه تدريجيًّا».[11]

إن كانط يصور مشهد الطفل الباكي باعتباره ضربًا من المحاكمة. فبعد أن دُفِع به إلى العالم، يكتشف الوليدُ بسرعة أنه محبوس في شكل غير مريح وسيء التجهيز. إنه يفتقر للتحكُم الحركي، فأطرافه تسقط هنا وهناك، ولا يمكنه حتى أن يقف. إن الطفل عاجز، لكن ثمَّة، في الوقت عينه، إلماعة غامضة إلى وجود قوة بداخله، حس بحريته الداخلية. وهذا الوعي بالحرية يتأتى للرضيع تحديدًا من خلال المقاومة التي تعترض طريقها: فالشعور بالإعاقة هو الذي يلفت انتباه الرضيع إلى إرادته الحرة؛ إن الطفل يغدو مدركًا لحريته بقدر حرمانه منها. ولهذا فإن بكاء الرضيع ليس مجرد بكاء بسبب الوجع أو السخط وإنما هو شكوى حقيقية: إنه استنكار لوضع يعتبره الرضيع وضعًا ظالمًا؛ إن غضبه غضبٌ أصيل ومشروع. ولأن هذه الشكوى لا تتعلق بهذه الواقعة أو بتلك فحسب وإنما هي متعلقة بسوء حظ الرضيع عمومًا، فإن حكم الرضيع يبدو كما لو كان حكمًا ضد الوجود نفسه. لو كان بمقدور الرُضَّع أن يتكلموا، إذن، فقد يقولون، وبطريقة شبه إغريقية، «ليتني لم أولد هكذا!» لماذا تودَع حرية الإرادة في قطعة من اللحم عديمة الجدوى؟ هكذا ظلمُ أن يكون المرء قد ولِد. إن تجربة الرضيع الأصلية هي تجربة لعائق، لعقبة، لقيد، لـ«أنا لا أستطيع» حتى نلتف حول وصف هوسرل الفينومينولوجي للتجسد (embodiment) كـ«أنا أستطيع» أولانية (ربما هذا هو أصل الاعتقاد العتيق في أن الجسد سجن الروح). في واقع الأمر، أحد الأشياء القليلة التي يمكن للرضيع أن يقوم بها بشكل فعَّال هو الصراخ: وعليه، فالصراخ تعبير عن الحرية في شكل استنكار لانعدام الحرية. والآن، إن كانط ليعترف بأن الرضيع يفتقر إلى القدرات العقلية التي تمكنه من إصدار حكمٍ كهذا، لكنه يجادل بأن الدموع التي تبدأ في مرافقة الصراخ مع بلوغ الرضيع ثلاثة أشهر تقريبًا لتشهد على بزوغ وعي لديه بأنه قد غُبِن. يبدو الأمر، إذن، كما لو أن كانط قد تخيَّل الرضيعَ كبالغ صغير سيء الحظ، لكنه، ويا للمفارقة، بالغ قد تبين أنه أكثر طِفلية بكثير من أي طِفل (أو على الأقل من الطفل الذي يُدْرَس عادةً من قِبل علم النفس): إن الرضيع الكانطي غضوبٌ بشكل لا يُصدَق، مخلوق حانق ممتلئ بسخط أخلاقي متفجر. ويمكننا أن نوسع هذه الفكرة، متسائلين: ألا يمكن لحياة الرشد أن تكون إعادة عرض متواصلة لهذه المحاكمة، ترديدًا لتلك الشكوى، محاولة لتصفية حساب قديم وإثباتًا للـ«أنا أستطيع» في ضوء تلك الصفقة المجحفة الصادمة الأولى؟

لقد كتب فرويد عن افتقار الرضيع للحَوْل والقوة، الذي يجعله معتمدًا بالكامل، جسديًا وعاطفيًا، على الوالدين أو على من يرعاه. واستند جاك لاكان على سيكولوجيا الطفل في أيامه ليصف التكوين المُتخيَّل للأنا في مرحلة المرآة: يحقق جسد الرضيع المتشظي وغير المتسق درجة من السيطرة على نفسه من خلال النظر إلى الوحدة المرتقبة المنعكسة في المرآة. وعدَّل دولوز هذا الترتيب بتشديده على الموضوعات الجزئية (Partial Objects)[12] والجسد بلا أعضاء: يستجيب الجسد لتشظِّيه بخلق جسد ناعم أملس، خالٍ من الأجزاء المزعجة والمتمردة. ومنطلقًا من نفس الفكرة الأساسية المتعلقة بعجز الرضيع وافتقاره للحول والقوة، قدَّم كانط توصيفًا مُوجِزًا لنزاع من نوع مختلف، فرضيعه ممزقٌ بين لا جدوى جسده المحسوس من ناحية وحدسه السابق لأوانه بأن لهذا الجسد مهمة متجاوزة للحس على الناحية الأخرى. فعلى الرغم من أنه عاجز عن فعل ما هو أكثر من مجرد الرفس والصياح، إلا أن لديه وعيًا ضبابيًّا بنفسه ككائن عاقل حر في أن يبتغي ما يشاء. والتالي هو ما يمنح شكايته شدة خاصة:

«إن بكاء الوليد ليس صوتًا للوجع وإنما صوتًا للسخط والغضب المحتدم؛ ليس لأن شيئًا ما يؤلمه وإنما لأن شيئًا ما يُسخِطه: ومن المرجح أنه يريد أن يتحرك لكن عجزه عن فعل ذلك يُشعِره بأن قيدًا قد كبَّله وسلبه حريته».[13]

ومن بين أصناف وينيكوت، بكاء الطفل الكانطي أقرب إلى صنف البكاء من جراء الغضب، لكنه غضب بسبب الشعور بالظلم، الشعور بأنه قد سُلِب أو خُدِع. وهذا تحديدًا ما يجعل بكاءَ الرضيع ظاهرةً بشرية بكل وضوح. فعند كانط، الحيوانات ليست حرة وليس لديها حس بالظلم، وبالتالي فهي تلعب بانبساط وخلو بال، بينما البشر، عمليًّا، مؤكدين لذواتهم ومماحكين من البداية. وعلاوة على ذلك، هذه الحرية ليست شيئًا «يُكتسَب تدريجيًّا»، ليست مُكتسَبًا ثقافيًا، وإنما فطرة، جزء أصيل من بنية العقل البشري. إنها ما يحدد الطبيعة البشرية. وإذا كانت الثقافة تتألف من تشذيب الطبيعة البشرية وتنقيحها، من تطوير عقل الإنسان الفطري وحسه الأخلاقي (أو القدرة على القيام بالخير من أجل الخير)، فثمة أيضًا شيء في الطبيعة البشرية مقاومٌ للثقافة ومستعصٍ عليها، شيء يرفض المضي في سبيل الصلاح الأخلاقي. وعلى النقيض من الصورة المعتادة، هذا السخط (في الحضارة) ليس بناتج عن غرائز حيوانية جامحة (الجوع والجنس) تتأبى على الترويض والتربية، وإنما عن شيء بشري تمامًا: رغبة أشد جموحًا واتقادًا في الحرية. إن سورات غضب الرضيع تكشف عن الجانب المظلم للحرية البشرية. وكانط لم يتردد في الإشارة إلى «خبث» الرضيع (Bosartigkeit؛ وهو نفس المصطلح الذي استخدمه للإشارة إلى الشر الجذري في كتابه «الدين في حدود العقل وحده») بغرض تعيين إرادة الرضيع التي لا تريد إلا ما تريد، والتي لا تفعل إلا ما تريد، وتحمي نفسها بشراسة من أي مؤثر أو معيق خارجي. وهو ما يؤشر على اختلاف آخر مع تفسير وينيكوت لغضب الرضيع: إن الطفل الكانطي لا يطلب المساعدة وليس لديه أي إيمان بالآخر؛ إن ألمه ليس له أي عزاء ولا يمكن مواساته، لأنه لا يبحث عن العزاء والمواساة. وفي سورة غضبه، من شأن الرضيع أن يدمر الآخر لو كان بمقدوره فعل ذلك.

كانط برفقة ترامب[14]

كيف يمكن لما سبق أن يساعد على إنارة الأزمة التي تتكشف حاليًا في السياسة الأمريكية؟ إن ترامب غالبًا ما يُتهَم بأن سلوكياته صِبيانية: فهو نرجسي، حساس تجاه النقد، يفتقر للذوق واللياقة، مفتقر للمواجدة والتعاطف، ضيق الأفق، قاسٍ، لا يقرأ، ولا يستمع، لا يمكنه كبحَ نفسه عن مبادلة الإهانات ولا عن الانغماس في التفاهات، عاجز عن التحكم في نفسه؛ وتمامًا مثل طفل متطلب؛ يمكن بسهولة أن يؤثَر عليه ويُتلاعَب به أهل السلطة النافذون (ستيف بانون، بوتن). وتطالعنا الصحف عادة بعناوين من قبيل: «سورات غضب دونالد ترامب الصبيانية تهدد بتخريب رئاسته حتى قبل أن تبدأ»، «التسريبات القادمة من البيت الأبيض تشي بأن الرئيس ليس سوى طفل حائر لا يعرف شيئًا». ونشرت النيويورك تايمز عمودًا مُعنْوَنًا بـ«عندما يُقَاد العالم بواسطة طفل».[15] لعله ليس من قبيل المصادفة، إذن، أن يتبين أن الحظر المفروض على هجرة المسلمين إلى أمريكا هو حظر على الأطفال؛ لنتذكر الطفل ابن الخمس سنوات الذي احتجزه ضباط الهجرة بوصفه تهديدًا أمنيًا (لأن أمه كانت إيرانية الأصل)، أو الرضيع الذي كان مُجهَّزًا للخضوع لعملية جراحية ومُنِعَ من مغادرة طهران إلى الولايات المتحدة. ثمة شيء في شخص الرضيع قريب على نحو مقلق، مفرط القرب، من طبع ترامب النزق والعصبي. لقد صُوِّر ترامب كطفل يقود عربة صغيرة، وهي الصورة التي ألهمتْ الكتاب الساخر «الرئيس وعربة الطفل الكبير»؛ ورُسِم له بورتريه في فيلم الرسوم المتحركة الرضيع الرئيس (the boss baby). وفي شجاره المتواصل مع ترامب، قدم أرنولد شوارزنجر مؤخرًا تأويلًا لطيفًا: «أعتقد أنه واقع في غرامي»، قال حاكم الولاية السابق، مُحَولًا الرئيس بذلك إلى ذلك الصبي الصغير الخجول لدرجة تمنعه من أن يُعبِّر عن مشاعره تجاه فتاة سوى عن طريق شدها من ضفائرها، أو عن طريق كتابة تغريدات وضيعة لشوارزنجر في حالتنا هذه. أود هنا أن أفصل القول نظريًّا في صِبيانية ترامب، آخذًا في اعتباري ملاحظة فتجنشتاين حول القوى الفظيعة التي تعتمل في الرضيع، على ناحية، وبورتريه كانط لـ«طفل الحرية» البغيض، على الناحية الأخرى.

فمثل الرضيع الكانطي، الثائر غضبًا ضد جسده الأخرق ناقص النمو، يشتاط ترامب غضبًا من أي شيء يعيق حريته. وهو لا ينزعج فحسب وإنما يكون ملآنًا بإحساس عميق بالسخط الأخلاقي؛ فكل الذين يعارضونه غير منصفين، وألمه يُعبَر عنه بلغة الحق. وهو الأمر الذي بلغ ذروته في تصريحه، الأسخف من أن يُعلَّق عليه، بأنه «لا يوجد سياسي على مدار التاريخ، وأقولها بكل يقين، قد عومِل على نحو أسوأ وأظلم من النحو الذي عوملتُ به». لكن بخلاف الرضيع الكانطي، ليس جسد ترامب ما يعيقه أو ما يضطهده وإنما جسد الدولة الأكثر ثقلًا وتشظِّيًا: القوانين والمحاكم والدستور في المقام الأول، لكن أيضًا المسؤولون المُنتخَبون الآخرون والقادة العسكريين والاستخبارات ورؤساء الوِكالات المختلفة والـFBI وعلماء المناخ وخبراء الميزانية ومسربو المعلومات من الداخل، وما شابه ذلك، والبيروقراطية الفيدرالية بأكملها، ولا ننسى هوسه الطاغي وبعبعه: وسائل الإعلام الإخبارية (التي تُنعَت حاليًا بهذه السُبَّة الستالينية: «أعداء الشعب الأمريكي»). ومجموعة إلى بعضها، تشكِّل هذه العناصر المتفرقة الجسدَ السياسي الأخرق والمعيق لترامب. إذ تُصوَّر على أنها مُعيقات عديدة تقف في طريق إرادته التنفيذية الحرة. إنها الجسد الأخرق - أو «الغبي» حتى نستخدم لفظة مُحبَبة لترامب - المحبوسة فيه، ويا للأسى، إرادة الرئيس. فعند ترامب، الدولة الديمقراطية جسدٌ مُتشظٍّ، جسدٌ مُمزَّق ومُفتَت، تجميعة من أعضاء عديمة الجدوى مفتقرة للوحدة والسيادة التي يراها منعكسة في صورة ستيف بانون المثالية البديلة (إذا كان ترامب قد نأى بجانبه مؤخرًا عن بانون فهو قد فعل ذلك لكي يؤكد، تحت وطأة الغيرة، على هيمنته على أسوته/منافسه). ومع كل اهتياج على وسائل الإعلام، كل أمر تنفيذي، كل تغريدة حانقة، يُعبّر ترامب عن ازدرائه لهذا الجسد السياسي. إن غضب ترامب منصب على المؤسسات، كل المؤسسات، وصولًا إلى المؤسسة الأكثر جوهرية من بينها جميعًا: اللغة نفسها.

لنُعد صياغة قول فتجنشتاين سالف الذكر بكلمات أخرى: لو كان بمقدور ترامب أن يتكلم فهل سيكون بمقدورنا أن نفهمه؟ مقارنة بتلعثُمات جورج بوش الابن التي تصيب الحقيقة من حين لآخر - ولتتذكروا بعض من كلاسيكياته مثل: «أعداؤنا مبتكرون وأصحاب حيلة، وكذلك نحن. إنهم لا يكفون عن التفكير في طرق جديدة لإيذاء بلدنا وشعبنا، وكذلك نفعل»، أو «إنهم يستهينون بي، ويا لهم من مخطئين!» - تكشف خطبُ ترامب عن روحٍ سياسية طليعية على نحو غريب. ففي أثناء حملته الانتخابية، قال ترامب: «أنا أعرف الكلمات، بحوزتي أفضل الكلمات»، وعلى الرغم من أن هذا القول هو ضرب من التباهي بمهاراته الخطابية على ما يبدو، إلا أنه يُلمح إلى شيء أكثر ظُلمة. فـ«بحوزتي أفضل الكلمات» ليست مجرد تعبير عن العراقة التعليمية («لقد ارتدتُ واحدة من جامعات الصفوة») أو البراعة الخطابية (التي تدحضها كلماته على الفور - فببساطة، هذه هي أسوأ الكلمات للتعبير عنها). وإنما هي صياح غاضب مُوجَّه إلى اللغة، إن الدَور المستفز الموجود فيها بمثابة هجمة على المبدأ الأساسي المنظِم للخطاب السياسي أو لأي خطاب، وهو: للكلمات أهميتها. يبدو الأمر كما لو أن ترامب يحلم بلغة غير مُقيَّدة بالكلمات، كجسد غير مُقيَّد بالأعضاء أو كدولة من دون حكم القانون أو كرأسمال دون حدود ــ أي بفضاء رمزي زلق، مُفْرَغ من أي مضمون ذي معنى، وخالٍ من أية قيود. ولدينا الآن حتى اسم عَلم لهذا الفضاء الرمزي الشجاع الجديد، ذاك الذي ذكره ترامب في تغريده انتشرت حينئذ كفيروس، وهو: «covfefe».[16] والحال أن غلطة ترامب الإملائية هذه لتقدم ضربًا من الفرويديَّة المقلوبة: فعوضًا عن أن تكون زلة يسارع المرء إلى إنكارها لأنها تشير إلى حقيقة مزعجة، هي زلة يسارع المرء إلى الإقرار بها، وكله فخر، بغرض التوكيد على سيادته المطلقة على ما له معنى وما ليس له معنى، على المعقول وعلى الهراء، التوكيد على أنهما يجريان تمامًا وفق هواه.[17] ومن السخرية، أنه في هذا الكلام الـــــcovfefeـــــــي، المتألف من أفضل الكلمات، تتمتع لفظة «غبي» (stupid) بمكانة مرموقة، إنها سُبة تُستخدَم لنزع الشرعية عن الخصوم، هي لا تشير ببساطة إلى أنهم مخطئون وإنما إلى أنهم موجودون خارج عالم الصواب والخطأ، ومن ثمَّ ليسوا أهلًا لأن يُخَاض معهم في نقاش عقلاني. إن أحد الأشياء المثيرة للدهشة في ترامب هي التالي: بعيدًا عن الإفك والأكاذيب المحسوبة، والتي تتمتع على الأقل بميزة كونها تتظاهر بتأييد الحقيقة، ثمة عطالة الغباء وجموده، فالـcovfefe محصن ضد النقاش. «إن اللغة تتكلم»، هكذا يخبرنا الشعار الفلسفي الشهير. يتكثف في هذه العبارة تأمل بأكمله حول اللغة، تأمل مفاده أن اللغة تفلت من قبضة الأنا. إننا نستعمل اللغة، لكننا لا نستعملها أبدًا وفقَ الطريقة التي نختارها بالضبط؛ إذ علينا أن نخضع إلى قواعدها ومعانيها، إنها تشكلنا حتى ونحن نستعملها. لكن هنا، في حالة ترامب، «اللغة لا تتكلم» وإنما «اللغة تُنصت - تُنصت لي! أنا سيد الكلمات». الأمر الذي يمكن له أن يعني شيئًا واحدًا: تفسُّخ اللغة وتفكُّكها في العموم. فاللغة والحقيقة والواقع الرمزي ينبغي أن تصير كلها مادة لدنة في يد السيد ليعيد تشكيلها وفق هواه. لكن هذه اللدانة تكشف في عين الوقت عن تصلُّبٍ وتكرارٍ مبتذل، بما أن كل الخطابات قد اختُزِلتْ عمليًّا في وظيفة واحدة: تمجيد الذات. إن الكلمات ينبغي أن تخدم ترامب تمامًا كما يفعل اسمه. ومن هنا البناء التدريجي المضحك والمرعب في آن لواقع جديد قائم في ما بعد الحقيقة، واقع مُشكَّل من فرمانات غير مقروءة (ستيف بانون)، وخطابات مُشوَّهة ومُلتبسة (شون سبايسر)، وحقائق بديلة (كيليان كونواي). وفي نهاية المطاف، يمكن أن توجد كلمة واحدة هي أفضل الكلمات على الإطلاق: «ترامب» نفسه كاسم ماركة، كعلامة تجارية.

يصف تزفتان تودوروف «تفسير كانط الغريب لصرخة الوليد الأولى» على النحو التالي: «إذا كان الوليد يصرخ فإنه لا يفعل ذلك ليطلب ما هو ضروري للحياة والوجود؛ وإنما ليحتج على اعتماديته على الآخرين. فكذات كانطية، يولد الإنسان وهو يتوق إلى الحرية».[18] عادة ما يُفهَم صراخُ الرضيع على أنه طلب للعون؛ إنه استجداء، طلب، نداء، شكل أولي من التواصل نابع من ضغوط الحياة وضرورياتها. لكن كانط يقلب هذا المنظور رأسًا على عقب. فأولًا، صراخ الرضيع ليس طلبًا للعون، وإنما هو صراخ يكشف عن عجز الآخرين. إنه يضع تحت الضغط هذا الآخر الذي لا يعرف كيف يستجيب لخبث الرضيع أو كيف يتعامل معه. هل يتجاهل المرءُ الرضيع (إستراتيجية أوباما الوالدية تأمل أن يهدأ الرضيع بنفسه)، أم يستهيم حول قتله (انظر إلى العديد من اليساريين المهتاجين والمحبطين)، أم يرثي حاله كمهزوم على يد الرضيع (دموع وينيكوت الحزينة التي تمنح صاحبها العزاء)، أم ينظم احتجاجًا جماعيًا ضده (الاحتجاجات الجماهيرية الواعدة)؟ وثانيًا، ليس للصراخ، في الأساس، علاقة بـ«ما هو ضروري للحياة والوجود»، إنه ليس مرتبط على نحو جوهري بالحاجات الحيوية، وإنما هو يعبر عن مقت الذات لاعتماديتها على غيرها وعن إصرارها غير المشروط على فعل ما تشاء. ولهذا يمكن لسورات غضب الرضيع أن تكون مزعجة للغاية: فبينما قد تحرضه حادثة بسيطة أو إخفاق بسيط، إلا أن سخط الرضيع يلامس المطلق. (وهنا نجد سمة أخرى لترامب: أي انتكاسة أو إهانة يمكنها أن تثير جام غضبه). ولكن ما المطلق بالنسبة إلى الرضيع؟ أن يكون كائنًا مستقلًا بالكامل، مستغنٍ عن كل شيء، ومُحررًا من كل القيود والمعوقات (فكلمة مطلق تفيد، في معناها التمثيلي، قطع أو حل الروابط). أن تتخلص من كل العوائق وألا تعتمد على أي أحد كي تحقق إرادتك: إنه حلم بالاستقلال التام، وهو ما قد يعني، كما فهم كانط، «أن تعيش مُشتَتًا في البرية» في «حالة حرب مستمرة» (يا له من استيهام fantasy  تدميري، ملآن بالغضب والآلم).[19] ولأن جسد الرضيع عديم الكفاءة هو مصدر بؤسه، تُعتبَر الحركة مركزية في هذه الرؤية: إنه يتمنى أن يكون غير مثقل، مُحررًا من القيود، أن يتحرك بيسر وحرية، أن ينساب كتيار.

وتلفت فكرةُ المطلق هذه أنظارَنا إلى وجهة أخرى مثيرة للاهتمام: ليست سمات ترامب الصبيانية هي التي تتطلب انتباهًا نقديًا، وإنما الطريقة التي يجسد بها استيهامًا طِفليًّا بعينه. ففي عالمنا ثمة شيء واحد يتطابق مع استيهام الحرية المطلقة هذا: المال. وهكذا بالضبط حلل نورمان براون، في 1958، البنية السيكولوجية للرأسمالية: الرأسمالية تستميل وتستغل الاستيهام الطفلي حول الاستقلال والاستغناء، الاستيهام النابع من عجز الطفل البيولوجي واعتماده الملآن بالقلق على والديه من أجل رعايته وحفظ حياته. فلأنه عالق أساسًا في علاقة سلبية تمامًا مع الآخر، يكون الرضيع عرضة لخطر الفقد والانفصال والموت. ولكي يهرب من هذا الوضع غير المحتمل، يُشيِّد في داخله عالمًا استيهاميًّا خاليًا من الفقد ومن الاعتماد على الغير، مُنَصِّبًا نفسه سيدًا على عالمه الخاص هذا ــ لكن لقاء ذلك يتعين عليه أن يتحمل التكلفة التالية: غَمْس نفسه في الذنب والدَين، الجهد النفسي ذي الثقل الساحق المطلوب للحفاظ على وهم التحكم والسيطرة. إن رضيع كانط، في احتجاجه على اعتماديته على الغير، هو سلف رضيع فرويد، الذي يفر من الاعتمادية والعجز  ملقيًا بنفسه في أحضان العُصاب. وفقًا لبراون، الاستيهام الطفلي بامتياز هو استيهام الطفل حول أن يكون مُسَبب نفسه، والد نفسه، حافظ نفسه. وفي شكله الأكثر أولية، هذا الاستيهام الذي «ينشأ في سني الرضاعة لكنه يُنشِّط ويحرِّك مجملَ التاريخ البشري» هو: «تمنِّي المرء أن يكون أبًا لنفسه»؟[20] (وإذا كان هذا الاستيهام وثيق الصلة بالرأسمالية، فلأن المال يمثل دورة إنتاج الذات في شكلها المطلق، وهو ما أطلق عليه ماركس «إنماء رأس المال لنفسه»). ولو كان ثمة شيء واحد يُلح عليه ترامب وبفخر عارم هو أنه رجل صنع نفسه بنفسه، شخص قد نجح بفضل مواهبه الطبيعية وليس بأي حال من الأحوال بفضل ثروة أبيه وعلاقاته. فبحسبه، هو مُسَبب نفسه، أبو نفسه، وغير مدين لأي أحد. والوجه الآخر لهذه الاستقلالية المُستهامة هو الاحتياج اللازب إلى التقدير وتبجيل الذات: رغبة لا تنقطع في أن يُمتدَح المرءُ على لسان الآخرين. وبذلك يشخص ترامب اكتمال مثال التفوق النيوليبرالي، الذي لا يدل، في نهاية المطاف، على شيء سوى نفسه: على خواء أفضل الأشياء وأعظمها. وفي واقع الأمر، لو كان ثمة ما هو عظيم في ترامب فسيكون التالي: الطريقة التي استغل بها عُصابه الطفلي ورفعه إلى مرتبة الاتساق المهيب. فعوضًا عن أن يحطمه عصابه وينهكه، حوَّله إلى منجنيق يرمي به كل من سواه: عرض رخيص يُقدَّم بالإكراه في شتى أنحاء العالم. يقول عن نفسه: «العرض هو «ترامب»، وتذاكره مباعه بالكامل في كل مكان، أنا أستمتع بتأديته وسأظل أستمتع، وأظن أن معظم الناس يستمتعون به كذلك».[21]

لكن إذا كان ترامب هو الاستيهام الطفلي بامتياز ، فمن البالغ الراشد إذن؟ في النظام السياسي لأيامنا هذه، السياسي البالغ الرشيد هو ذلك المنتمي ليسار الوسط أو يمين الوسط، فصيح اللسان، الحساس أخلاقيًا، والعقلاني للغاية؛ سياسي ملآن بحكمة الإذعان لما هي عليه الأشياء ــ حتمية التقشُّف، والعولمة، واللامساواة، والحرب السرمدية تحت قناع السلام ــ لكنه مُترَعٌ أيضًا بأمل مشكوك فيه في مستقبل أكثر إشراقًا. وفي عين هذه الطبقة السياسية، ليس ترامب سوى طفلًا سوقيًا نزقًا سيء الطباع. وانتصاره المؤقت عليهم لا يدل، عندهم، ببساطة على نكوصٍ وعودةٍ إلى العهود المظلمة. وإنما عوضًا عن ذلك يميط اللثام عن الجانب السفلي القبيح للنظام الذي دعموه هم أنفسهم وخدموه لردح من الزمن. إن ترامب يرمز إلى الدمج بين الرأسمال الخاص وسيادة الدولة، بحيث تصير الدولة في نهاية المطاف جزءًا من ماركة ترامب - الديمقراطية الأمريكية هي شرائح لحم (ستيك) ترامب الجديدة مشوية حتى التفحُّم في منتجع مارالاجو الشهير في شاطئ النخيل - ومنصة باتساع العالم يؤدي عليها عرضه الواقعي المتواصل. من ذا الذي لا يود أن يصرخ؟ لكن هنا يتعين علينا أن ننأى بأنفسنا عن جوقة النقاد المستنكرين لصبيانية ترامب: فالمشكلة مع بورتريه رئيس الولايات المتحدة كطفل روضة هي أنه يقول بكل يقين إن النخب الموجودة هم، وهم وحدهم، البالغون الراشدون الحقيقيون. فهذا الضرب من السخرية الراضية عن نفسها أحد الأشياء التي أعاقت الديمقراطيين في أثناء الانتخابات، والتي أثبت ترامب أنه مُحصَّن من أذاها بشكل مثير للدهشة؛ لكن كوميديا سياسية حقيقية في المقابل، هي التي من شأنها أن تتجاوز الانقسامات السياسية، وتجمع من يُسَمون بالوسطيين المستنيرين والواقعيين يمينيي التفكير مع أهل البلد والشعبويين السوقيين. وبعبارة بسيطة، إن ما يكشف عنه ترامب الرضيع هو غياب فكرة صالحة للنضج السياسي اليوم، والحاجة الملحة لاختراع رُشد لسياسات القرن الواحد والعشرين. ثمَّة درس مزدوج هنا: إياك أن تستهين بترامب بوصفه بالطفل، لكن كن أيضًا حذرًا من عجرفة أولئك الذين يعتبرون أنفسَهم البالغين الراشدين.


[1] His majesty the baby

عبارة لفرويد في بحثه «في النرجسية»، ذكرها في معرض توصيفه لمعاملة الوالدين المفتونين بطفلهما له، جاعلين منه مركز الكون، وخالعين عليه كل صفات الكمال. وهي المعاملة التي يتأولها فرويد بوصفها إسقاطًا لاستيهاماتهما النرجسية على طفلهما. (م).

[2] Tom Lutz, Crying: A Natural and Cultural History of Tears (New York: W.W. Norton, 1999), 160.

[3] إلويز وأبيلار، أشهر عاشقين جادت بهما القرون الوسطى (القرن الثاني عشر). إلويز، فتاة فرنسية، في أوائل العشرينيات من عمرها، تعيش في كنف عمها فلوبير، أحد إكليريكيّ نوتردام باريس، اشتهرت في ربوع أوروبا بتبحرها في اليونانية واللاتينية والعبرية، وبيير أبيلار لاهوتي وفيلسوف مدرسي فرنسي كان يُشار إليه بالبنان حينئذ. وطمعًا في مزيد العلم، رغبت إلويز أن تتلمذ على يد أبيلار، وبطريقة أو بأخرى، صار أبيلار يعطيها دروسًا «خصوصية» في بيت عمها، لكنهما سرعان ما وقعا في الغرام، وعوضًا عن أن يدرسا أرسطو راحا يتضاجعان بحماس، حتى حملت إلويز من فيلسوفها، الذي دفع بها إلى أهله ليرعوها إلى أن تضع حملها. لكن العم المطعون في شرفه لم يهدأ إلا بعد أن خصي الفيلسوف، ودفع بابنة أخيه إلى دير لتعيش راهبة إلى الأبد، وبعد إخصائه، اتجه أبيلار للرهبنة بدوره، لكن بالطبع لم يضعهما في نفس الدير. وعلى مدار عشرين سنة راحا يكتبان لبعضهما رسائل محمومة، حُفظت وطبعت. والنص المستشهد به من واحدة منها. (م).

[4] Abelard and Heloise, The Letters and Other Writings, trans. William Levitan (Indianapolis: Hackett Publishing, 2007), 71.

[5] Donald Winnicott, Why Do Babies Cry? chap. 9 in The Child, The Family, and the Outside World (Cambridge, MA: Perseus, 1964/1987), 58-68.

[6] Aristotle, Politics, in Complete Works, vol. 2, ed. Jonathan Barnes, trans. Benjamin Jowett (Princeton: Princeton University Press, 1984), book 7, chap. 17, 1336a.

[7] Ludwig Wittgenstein, Culture and Value, ed. Georg Henrik von Wright, trans. Peter Winch (Oxford: Blackwell, 1998), 4.

[8] Hanna Segal, Introduction to the Work of Melanie Klein (London: Karnac, 1973), 13.

[9] Wittgenstein, Philosophical Investigations, trans. G. E. M. Anscombe (Oxford: Blackwell, 2008), 190.

[10] Immanuel Kant, Anthropology From a Pragmatic Point of View, in Anthropology, History, and Education, eds. Gunther Zoller and Robert B. Louden, trans. Robert B. Louden (Cambridge: Cambridge University, 2007), 369.

[11] bid., 369- 370fn.

[12] أي الموضوعات (الجزئية كالثدي، القضيب، الفم ...إلخ في مقابل الموضوعات الكاملة والكلية) التي تتوجه إليها الدوافع والرغبات. ودولوز وجتاري يعيبان على التحليل النفسي الفرويدي وما بعد الفرويدي حتى (كلاين ووينيكوت) تقديمه الموضوعات الكلية على الجزئية. (م).

[13] Ibid., 423fn.

[14] عنوان الفقرة مستوحى، على الأرجح، من عنوان نص  جاك لاكان: كانط رفقة ساد. (م).

[15] David Brooks, When the World Is Led by a Child, New York Times, May 17, 2017.

ردّ اثنان من علماء النفس على المقال بالمجادلة عن أن هذه المقارنة مجحفة ومهينة بحق الأطفال؛ إذ علينا ألا نحمّل خبث ترامب وعدوانيته ما لا يحتملان بأن نعتبرهما سلوك الأطفال الطبيعيين. وبقدر ما هو مقنع هذا الرد السريع، إلا أنه من الممكن لهذه المقارنة أن تكون كاشفة عندما يحيل المرء إلى شخص الطفل الأكثر ظلمة وشيطانية الموجود عند كانط وفتجنشتاين والتحليل النفسي في مقابل ذلك الموجود في سيكولوجيا النمو المعاصرة.

[16] نص التغريدة هو: «despite the constant negative press covfefe». والكلمة المعنية غلطة كتابية بالطبع، لكنه تركها من دون تصويب إلى أن طارت في الآفاق. (م).

[17] على ذكر الفرويدية المقلوبة، يمزح سلافوي جيجك قائلا بأن ترامب يقدم هيجيلية مقلوبة: كل الناس ترتدي باروكة تشبه الشعر الحقيقي، إلا ترامب شعره الحقيقي يشبه الباروكة. (م).

[18] Tzvetan Todorov, Life in Common: An Essay in General Anthropology, trans. Katherine Golsan and Lucy Golsan (Lincoln: University of Nebraska, 2001), 5-6.

[19] Kant, Anthropology From a Pragmatic Point of View, 369.

[20] Norman O. Brown, Life Against Death: The Psychoanalytical Meaning of History (Middletown, CT: Wesleyan University Press, 1958), 285.

[21] Glenn Paskin and Donald Trump, Interview with Donald Trump, Playboy, March 1990.