قراءة «صورة الفنان» في شبابي

مقال كارل أوفه كناوسجارد

عن النيويورك تايمز مايو 2016

ترجمة: هاشم حلس

كارل كناوسجارد أديب نرويجي لقى احتفاءً نقديًا وجماهيريًا واسعًا بعد نشر سيرته الذاتية سداسية الأجزاء، «كفاحي»، التي تُرجمت إلى 35 لغة.

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه


جيمس جويس، عن the wire

يصادف هذا العام (2016) الذكرى المئوية لنشر رواية «صورة للفنان في شبابه». إن منشأ هذه الرواية طويل وملتوٍ، فقد بدأ جويس كتابتها في عام 1904، كما أن طريقها للعظمة كأحد الأعمال الرئيسية في الأدب الغربي لم يكن قصيرًا كذلك. تحدثت القراءات النقدية آنذاك عن «الهوس الشفهي» و«وحل المجاري الكريهة»،[1] وهي تعليقات قد تبدو غريبة على قارئ اليوم. يبدو الصراع الذي يدور في عقل شخصية الرواية الشابة هو الجزء الأكثر جذبًا فيها، وذلك على الرغم من كونه الجانب الذاتي من الرواية. ما ظهر في الرواية غير مسبوق في ذلك الوقت، يبدو لنا الآن مألوفًا تمامًا، ولكن ما بدا مألوفًا في ذلك الوقت، يبدو لنا لا مثيل له الآن.

على النقيض من كل الروايات المنشورة عام 1916 تتميز رواية جويس بأنها حيوية، وذلك لأنه سعى جاهدًا لأن يبني شكلًا جديدًا للتعبير، لغة تنتمي حقيقةً إلى القصة التي أراد أن يرويها عن الشخصية الشابة ستيفن ديدالوس وسنواته السابقة في دبلن، تلك السنوات التي كانت الفرادة عنوانها وسؤال «ماذا يشكل الفرد؟» قضيتها الأكثر أهمية.

المرة الأولى التي سمعت بها عن جيمس كنت في الثامنة عشرة من عمري، أعمل كنائب أستاذ في منظمة صغيرة في الجنوب النرويجي، كما كنت أرغب في أن أصبح كاتبًا. دفعني هذا الطموح إلى الاشتراك بصحيفة أدبية، وفي أحد الأعداد التي وصلتني على البريد كان هناك سلسلة من المقالات عن روائع الحداثة، ومن بينها رواية جيمس جويس «عوليس» التي نشرها بعد ست سنوات من «صورة الفنان»، والتي تتحدث أيضًا عن شخصية ستيفن ديدالوس.

أثارت كلمة الحداثة مفهومًا غامضًا عن الآلات، وشيئًا مستقبليًا ولامعًا، وعندما قرأت في بداية الكتاب عن المكان الذي يسكن فيه ستيفن ديدالوس، تخيلت ما يشبه القلاع المُبرَجة في العصور الوسطى، ولكن مع سيارات ومطارات من عشرينيات القرن العشرين، ومكان مأهول بشبان صغار يتحدثون فيه عن أعمال باللاتينية واليونانية، بكلمات أخرى: شيء بعيد تمامًا عن العالم الذي أقيم فيه، بالأرصفة وزوارق الصيد، ومرتفعاته شديدة  الانحدار، ومحيطاته الجليدية، والصيادين وعمال المصانع، وبرامج التلفاز، وأنظمة السيارات الصوتية.

رغبت بالابتعاد عن ذلك، أردت الكتابة، وعزمت على قراءة هذا العمل العجيب، لكي أرى نوره الساطع علي. مثّل الأدب بالنسبة لي مكانًا مختلفًا، وكان تصوري عن عوليس مشوبًا بالكتب التي قرأتها مسبقًا، حيث يجد شطح الصبا متنفسًا في روايات جول فيرن الخيالية، أو كلاسيكيات أدب التهور مثل رواية «الكونت دي مونتي كريستو»، و«الفرسان الثلاثة»، و«إيفانهو»، و«جزيرة الكنز». عوالم متخيلة عشت فيها نصف حياتي، ومثلت هذه العوالم جوهر الأدب بالنسبة لي. كنت أعتقد أن الأدب في مكان بعيدٍ عني، ولذلك ربطت هذا بفكرة أخرى كانت لدي، وهي أن أي شيء ذي معنى يوجد في المركز، وأن في المركز فقط يحدث ما هو مهم، وأن كل شيء حدث في محيط المركز أو خارجه —حيث شعرت أنني أقطن— لم يكن ذا أهمية ولا يستحق الكتابة عنه، وبذلك انتمى التاريخ والأدب والحقيقة لآخرين.

بعد ثلاث سنوات كنت أقرأ في مكتبة جامعة بيرجن رواية «عوليس» باللغة الإنجليزية، وكنت في ذلك الوقت قد تجاوزت الرحلة الأدبية الطفولية والشابة، وكان مفهومي الساذج عن جوهر الأدب قد نضج، ولكن استمرت فكرة أنه انتمى لآخرين: لأولئك الذين امتلكوا الموهبة والمعرفة واحتلوا المركز.

لم أربط «عوليس» بعالمي الخاص أبدًا، لم أربطها بالشبان الصغار الذين يجلسون في المكاتب حولي —على الرغم من أن أحد مقاطع الرواية تدور في مكتبة وبين طلاب— ناهيك عن الشوارع المرصوفة بالحصى في الخارج، والبوابات والأزقة، ونوافذ المتاجر، والألواح، والمظلات، وعربات الأطفال، ومعاطف المطر والسترات الشتوية. لا، لأن عوليس تحدث في اللغة، والواقع الذي وصفته الرواية حدث في أرض الحداثة: في أعماق قارة الأدب.

قرأتها وكأني عالم أحافير يستخرج ويشق عن تمثال تذكاري قديم، طبقة بطبقة، قطعة بقطعة، ساعيًا بذلك إلى خلق شيء شامل من هذه القطع، قمت بذلك متذكرًا دونيتي ومحدوديتي في علاقتي مع هذه الرواية. كان الأمر أشبه بتعثرِ أحمقٍ ببقايا مدينة طروادة مع محاولته أن يفهم ما قد وجد.

كان لدي واجب جامعي بكتابة شيء عن رواية «عوليس»، وذلك ما دفعني لأن أقرأ كتب جويس الأخرى، ومن بينها روايته الأولى «صورة الفنان في شبابه»، ويا إلهي كم كانت مختلفة! إن عوليس تُبعثر، وصورة الفنان تُجمّع، وبينما تصف عوليس يومًا واحدًا في مدينة واحدة، فإن صورة الفنان تصف عشرين عامًا في حياة أحدهم، بالإضافة إلى أن عوليس تضخم الإبداع اللغوي والتجارب المرحة، أما صورة الفنان فتتضخم بـ.. ماذا؟ بالمزاج. حتى الآن، بعد 27 عامًا من أول قراءة للرواية ما زالت أمزجتها تعود إلى: مباني المدرسة الممطرة في وقت الغسق، وأصوات الأطفال المحيطة، والصدمة المكتومة لقدم تضرب كرة، والقوس الثقيل للكرة في الهواء الكئيب، ورائحة الليل البارد في المصلى وهمهمة الصلاة، وتجمع العائلة سويًا يوم عيد الميلاد، منتظرين العشاء أن يُقدم، واشتعال النار في الموقد بالشموع المضاءة فوق الطاولة، والترابط والصراعات بين الناس الذي يجلسون حولها. الأب الذي يتحدث إلى غريب في البارات ويقول لهم نفس القصص في كل مرة، والممرات الضيقة التي تتجمع فيها العاهرات، ومصابيح الغاز الصفراء، ورائحة العطر، وقلب ستيفن ديدالوس المرتجف، والعصافير وقت المساء متجمعةً فوق المكتبة، أجسام مظلمة على خلفية السماء الرمادية المزرقة، وأصوات صيحاتهم «حادة وواضحة وناعمة تتساقط مثل خيوط ضوء من حرير انفك من بكرات طنانة».

إن صورة الفنان رواية تشكيلية، رواية عن بلوغ سن الرشد، ربما تكون الأولى من نوعها في الأدب الإنجليزي. تعالج الرواية موضوع الهوية، أو بمعنى أوضح: الطريقة التي تظهر بها الهوية والأحداث التي تشكلنا وتجعلنا ما نحن عليه. هذه الظروف متشابهة إلى حد ما بالنسبة إلى الجميع، نولد في عائلة، ونتجلى لأنفسنا وللآخرين استنادًا إلى الطريقة التي تعاملنا بها العائلة وترتبط بنا. نتعلم لغة، وعلى الرغم من أنها لا تنتمي إلينا وحدنا وأنها مشتركة بين جميع أفراد مجتمعنا، ولكننا من خلالها نعبر عن أنفسنا وعن كل ما يدور حولنا، وتأتي مع اللغة الثقافة والتي —أعجبتنا أم لم تعجبنا— نصبح جزءًا منها. تتسع دوائرنا، ونبدأ المدرسة، وتصبح عملية تنشئتنا الاجتماعية أكثر رسمية، فنتعلم عن اللغة، والثقافة، والمجتمع، وتضاف إلى هويتنا في العائلة طبقة جديدة، وهي الهوية الوطنية. يظهر ستيفن ديدالوس وينشأ كابن أيرلندي كاثوليكي، ولأسرة من البرجوازية الصغيرة، ينشأ داخل هذا لينطلق في النصف الثاني من الرواية معارضًا كل هذه التصنيفات. يرفض القومية الأيرلندية، ويرفض دينه الكاثوليكي، كما يرفض الطبقة الوسطى، ويصر على أنه ليس ابنًا لأحد.

يحدث المشهد الرئيسي في الكتاب عندما يتمشى ستيفن مع صديقه كارنلي ويكشف له أنه تشاجر مع والدته في الصباح حول الدين، وذلك لأنه رفض تلقي القربان المقدس. لم يعرف كارنلي المشكلة في ذلك: «بالطبع بإمكانه أن يفعل ذلك من أجل والدته، بغض النظر عن عدم إيمانه»، ولكن ستيفن حازم حول المسألة. «لن أخدم»، يقول ستيفن. «لكن لم لا؟» هذا سؤال الرواية الأكثر أهمية، والإجابة هي الرواية في كليتها الفنية. لسنا مجرد العصر الذي نعيش فيه، ولسنا مجرد لغتنا أو العائلة التي ننتمي إليها، أو ديننا، أو بلدنا، أو ثقافتنا. نحن ذلك وأكثر، بقدر ما يواجه كل فرد منا ويرتبط بكل هذه التصنيفات. ولكن مما يتكون هذا الفرد بالضبط؟ ما طبيعته؟ كيف نُمسك به ونصفه؟ كيف نتصوره عندما تكون الأدوات التي تحت إمرتنا هي على وجه التحديد أدوات عصرنا، ولغتنا، وديننا، وثقافتنا؟

إن «صورة الفنان» مغامرة في داخل هذا الجزء من هويتنا، هذا الجزء الذي لا توجد لغة له حتى الآن، مغامرة السبر في الفراغ بين ما ينتمي للفرد وحده وبين ما ينتمي لنا جميعًا، تستكشف تحولات العقل، والمزاجات والمشاعر الحالية كما تتدفق بصورة عمياء بهذه الطريقة أو تلك، ويفكر في اللامفكر فيه، وفي الحضور البارز للروح، ذلك الجزء الذي يظهر عندما نتحمس ويسقط عندما نخاف أو نيأس.

إن «صورة الفنان» عن ذلك، عن روح رجل صغير، وما يجعل رواية جويس سحرية وأدبية في الأساس أن سبره لما ينتمي للفرد وحده —وما يميز فرادة ستيفن ديدالوس في عقل جيمس جويس— هو كذلك سبر لما هو فريد في كلٍ منا. الأدب ليس حكرًا على الآخرين، كما أنه لا يعرف مركزًا، ويعني ذلك أن مركزه هو أي مكان يوجد فيه. فقط من خلال رفض الخدمة كما فعل ستيفن، يمكن للفنان أن يفعل ذلك: اخدم. فقط من خلال «لا» يمكن لكتاب مثل «صورة الفنان في شبابه» أن يظهر للوجود، وفقط من خلال «لا» يمكن لكتاب مثل «عوليس» أن يتوصل إلى خاتمته: «ونعم قلت نعم سأرضى نعم».


[1] الحديث هنا عن حقيقة وصف جيمس جويس لأقذر الروائح على مدار الرواية، فلا يتوقف جويس عن إعطاء توصيفات الرائحة للأماكن والأشياء. أما عن أساس هذه الانتقادات فهي تنطلق من الجو العام السائد في رواية بدايات القرن العشرين، فلم يكن آنذاك وصف القذارات من روائح أو أماكن موضوعًا أدبيًا، ولذلك فقد عيب على جويس هذا الميل الغريب في وقته لوصف غير اللائق.