موسوعة الملل | الفيتو

مقال لحسين الحاج

المقال خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.


عن موقع libcom

"الحرية دايما هي حرية الاعتراض"

~ روزا لوكسمبورج 

"مش لاعب!".. عندك سهرة ألعاب في البيت، وأنت والشباب محتارين بين تمن تسع ألعاب وعايزين كلكم تلعبوا بس مش متفقين لسه هتلعبوا إيه، وكل ما تحاولوا تتفقوا على لعبة يطلع واحد منكم ولا اتنين يقولوا إنهم ما بيحبوش اللعبة ديّة ويقول "مش لاعب!". إما تاخد القرار بما إنك صاحب البيت (قرار فردي) أو تصوتوا على كل لعبة حسب اﻷفضلية (قرار أغلبية) أو تعملوا قرعة على لعبة (قرار عشوائي) أو تتوافقوا فعلاً على لعبة (قرار جماعي). دلوقتي المشكلة ما بقتش هنلعب إيه، المشكلة بقت هنقرر إزاي هنلعب إيه. ودا مستوى أعلى من القرار (تصويت على طريقة التصويت)، والمفاجأة إن ممكن نفس الخيارات تنطبق  على قرار طريقة التصويت كمان! 

مشكلة طريقة اتخاذ القرار في المجموعات والمجتمعات هي واحدة من أهم المشكلات في علم السياسة. سهل جدًا بما إنك صاحب البيت تتدخل بحسم وتقول "إما نلعب طرنيب أو تروحوا"، بس ﻹنك خايف من عواقب قرار زي دا، زي إن حد يقفش ويمشي زعلان أو إن رأيك ما يلاقيش قبول عند اﻷغلبية فيتجاوزوك ببساطة، فأنت على اﻷقل مش هتتخطى الخطوة اﻷولى وتستنى لحد ما يتفقوا على الطريقة. لو صوتوا على اختيارك، هتنوبهم في اختيار اللعبة (قرار بالنيابة) والمسألة تتحسم، لكن دلوقتي اﻵراء بينكم بعد استفتاء استطلاعي (straw vote) مقسومة بالتساوي بين إنهم ياخدوا قرار اللعبة باﻷغلبية أو ياخدوا القرار العشوائي عن طريق عمل قرعة. بس الحقيقة إن على الرغم من إن القرار العشوائي أنزه من قرار اﻷغلبية ومش بالضرورة أقل حكمة منه، ﻹن القرعة مافيهاش أكثرية بتكسر عين أقلية، وقانون الحظ زي العدالة أعمى ما بيفرقش بين حد والتاني، بس يفضل إن اﻷصوات مقسومة بالنص، وفي الحالة دي الطريقة اﻷسلم هي إنكم تتوافقوا على الطريقة اللي هتقرروا بيها هتلعبوا إيه، ورجعنا مكان ما بدأنا!

وبما إن مفيش بُد من التوافق، خلينا نتكلم شوية عنه.

التوافق عادة ما كانت عملية اتخاذ قرار عفوية مبنية قاعدة أساسية واحدة، وهي لزوم موافقة كل أعضاء جماعة ما على رأي مقترح ما عن طريق مناقشته بالتفصيل لحد ما تنتهي باﻹجماع عليه. ودايمًا كان فيه مبادئ بتضمن سلامة العملية دي.

التوافق مش زي التصويت الملزم، ﻹن لما جماعة ما بتستخدم التصويت الملزم على القرارات، فهي كلها بتوافق على اللي اﻷغلبية العددية بتوافق عليه. وبالتالي دايمًا يحق للأغلبية إنها تمارس سلطتها على اﻷقلية. لو الجماعة دي ملتزمة باستقلالية اﻷفراد وحريتهم، فهي مش بتدي حد (أو أغلبية) الحق في فرض سلطته على التانيين، وعشان كدا روح التوافق مبنية على مبدأ إن كل صوت يستحق يتسمع، وأي قلق مبرر. لو كان فيه اقتراح خلى عدد من اﻷعضاء أو حتى شخص واحد غير راضي بطريقة ما، لازم يكون فيه سبب وجيه لعدم رضاهم، ولو تجاهلوهم يبقى اﻷغلبية بترتكب غلط في حقهم. فبدل ما يحاولوا يضيعوا وقتهم في إقناع القلقانين أو الرافضين بقبول شيء مش عايزينه، ممكن نتخلى عن واحد من الخيارات أو كل الخيارات وندور على حل جديد، حل "توافقي" يرضي كل اﻷطراف، ﻹن العالم مش "إما أو"، لكنه فيه احتمالات مالهاش نهاية. القرارات التوافقية بتتطلب خيال مفتوح في التعامل مع المشكلات بدل من استعمال العنف (سواء كان عنف أقلية قوية أو أكثرية عددية)، ﻹن العنف دايما بيوصلنا لخيارات فقيرة وضيقة في أغلب اﻷوقات. سي تي بتلر، مؤسس منظمة اﻷكل بدل القنابل Food Not Bombs اﻷناركية، بيقول في مقدمة دليله اﻹرشادي عن التوافق، "إذا كانت الحرب هي الحل العنيف للنزاع، يبقى السلام مش اختفاء النزاع، وإنما القدرة على حل النزاع بدون عنف".

التوافق بيبدأ لما مسؤول الاجتماع بيجمع كل اﻵراء المقترحة حوالين قضية أو مشكلة معينة، وبيتم مناقشتهم كلهم عن طريق سماع رأي كل عضو في كل رأي، من غير ما يكون فيه رد فعل قاسي أو متسرع، فبدل ما يقول عضو "أنا ضد الرأي في المبدأ"، بيقول "أنا قلقان من الاقتراح دا، ﻷن…". التعبير عن القلق بيسمح بتعديل الاقتراح عشان يعالج القلق. لو القلقان (أو القلقانين) حسوا إن قلقهم لسه ما بردش بالتعديل، أو إن اﻷغلبية الساحقة متحمسة لاقتراحها، ممكن يحيدوا نفسهم بإسقاط صوتهم أو "يطلعوا بره القرار"، يعني ما يشاركوش في تنفيذ القرار دا تحديدًا من نشاط الجماعة وما يتحملوش تبعاته بأي حال. أما لو كان عندهم اعتراض قوي على الاقتراح ﻹنه راح يأثر فيهم بصورة مباشرة أو يغير من مبادئ الجماعة، فساعتها ممكن يستخدموا حق الفيتو (حق الاعتراض أو عرقلة الاقتراح).

تعميم الفيتو / الاعتراض على اﻷعضاء هو اﻹثبات الوحيد إن التوافق مش مجرد إجماع أو ما يتحولش لمجرد صناعة الموافقة Manufacturing Consent (بتعبير إدوارد هيرمان ونعوم تشومسكي)، وبالتالي يصبح التوافق الحر هو حل التعارض اﻷبدي بين الفرد والمجتمع، أو زي ما بيقول الفيلسوف اﻷلماني ماكس شتيرنر هو "اتحاد اﻷنانيين"، ﻹنه ما فيهوش أي تضحية بالمصلحة الشخصية عشان مصلحة المجموع. الفرضية اﻷساسية هي إن كتير من القرارات قابلة للتعديل بالشكل اللي يناسب الجميع، وحتى لو ما كانتش قابلة للتعديل فهي مش بالضرورة بتتعارض مع المبادئ المؤسسة للجماعة. استخدام الفيتو بيدي كل عضو قوة عظيمة في التأثير على القرارات اللي بتاخدها الجماعة، لو كان العضو دا ضد اقتراح ما بصورة كافية في نظره للاعتراض عليه، فغالبًا هو مدرك للعوامل اللي ضروري على الجماعة إنها تبص فيها بصورة مفصلة أكتر، وعشان كدا لازم استخدام الفيتو يكون نادر وفيه حذر شديد. 

بعض الناس شايفة إن مشكلة التوافق إنه بيحتاج وقت أطول من عملية التصويت الملزم، ومستحيل تطبيقه في الجماعات الكبيرة، ببساطة ﻹنه مفيش وقت لسماع كل عضو، وبالتالي كفاءة المجموعة وفعاليتها بتضيع قدام استقلالية الأفراد. لكن فيه طرق للتغلب على المشكلة دي. أولها هي الاستفتاء الاستطلاعي، بحيث إن الاقتراحات اللي مالهاش شعبية كبيرة ممكن تتركن على جنب والاهتمام يروح للاقتراحات المقبولة أكتر. عادة الطريقة دي بتستخدم عشان يتعرف نبض المجموعة رايح في أنهي اتجاه. تاني طريقة إن الجماعات الكبيرة بيكون عندها مسؤوليات كتيرة عادةً، وممكن المسؤوليات تتصنف وتتقسم على مجموعات أصغر حسب اهتمام كل عضو في الجماعة، وكل مجموعة يكون عندها حرية التوافق على قراراتها لوحدها وبتبلغه لبقية المجموعات وبتستعين بيهم إذا استدعت الحاجة.

وبالنسبة للسهرة إياها فالحل بسيط، في اﻵخر مش معنى إن حد من الشباب قال "مش لاعب" إنه معترض على إن الباقيين يلعبوا، وحتى لو المبدأ اﻷساسي إن الكل لازم يلعب، ممكن الوقت يتقسم على اﻷلعاب اللي اﻷغلبية متفقة عليها أكتر ويتناوبوا عليها فورة بعد فورة.