موسوعة الملل | الليبرتارية
مقال لحسين الحاج
المقال خاص بـ Boring Books
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.
بعد ثورة يناير 2011، انتشر السؤال عن معنى الليبرالية بسبب مقطع فيديو لداعية سلفي من حزب النور اﻹسلامي قرر يشهر فيه بأنصار الدولة المدنية بإنهم عايزين يقلعوا أمه الحجاب، ومن يومها حصل ارتباط شرطي بين معنى الليبرالية وقلع الحجاب. الواقعة اتحولت لنكتة على لسان الناس من ناحية، ومن ناحية تانية ظهرت محاولات جادة من جانب الليبراليين لاستغلالها في شرح الليبرالية بعيدًا عن مسألة قلع الحجاب أو لبسه. الغريب إن مفهوم الليبرالية قديم في مصر قُدم الحياة البرلمانية على اﻷقل، لكن الليبراليين أيامها ما كانوش بيقولوا على نفسهم "ليبراليين" وإنما أنصار المذهب الحُر أو اﻷحرار، وبعد انقلاب الظباط "اﻷحرار" في 1952 المفهوم كله راح في طي النسيان لسنين طويلة.
بس إذا كانت الليبرالية (مذهب الحرية) وردت على مصر، فالليبرتارية (مذهب التحررية) ما وردتش على اﻹطلاق بأي معنى من المعاني. لو الليبرالية هي الحرية (سواء كانت سياسية أو اقتصادية) تحت حماية الدولة، وفي دا يتفق أغلب الفلاسفة المؤسسين لنظرية العقد الاجتماعي بداية من هوبز لروسو ولوك، فالليبرتارية هي الحرية بدون ضمانة الدولة. أساس فكرة الليبرتارية هي الرفض المطلق لمبدأ الدولة في ضمان حرية المجتمع (اليسار) أو اﻷسواق (اليمين). الليبراليين شايفين إن قوانين الدولة قادرة على حماية الحريات المدنية، والليبرتاريين من ناحية تانية شايفين إن الحرية ما هي إلا عملية "تحرر" مستديمة طول الوقت وإن محاولات حمايتها هي ببساطة محاولات للحد منها، وكل تقليص لسلطة الدولة انتصار لمبدأ الحرية، واللي هي فكرة مركزية في الفلسفة السياسية الغربية.
مذهب التحرر مش مجرد اشتقاق لفظي عن مذهب الحرية، حتى لو كان الجذر واحد فعلًا. التحرر بالمعنى اﻷخلاقي "الليبرتين" libertine أسبق من التحرر بالمعنى السياسي أو الاقتصادي، وبتتبنى مذهب اللذة في أكتر أشكاله تطرفًا. الانحلال اﻷخلاقي التام كان وضع اجتماعي سائد بين طبقات كتيرة في فرنسا وإنجلترا قبل هيمنة الرأسمالية الصناعية وبالتالي المحافظة الفيكتورية في القرن التسعتاشر، واللي صورها الماركيز دو ساد في رواياته الجنسية العنيفة في أواخر القرن التمنتاشر وأوائل التسعتاشر، واحد من رواد التحررية اﻷخلاقية libertinism.
تاريخيًا في نفس الوقت اللي قدم الفيلسوف اﻹنجليزي جون ستيورات مل تصور ليبرالي عن علاقة الدولة بالحريات العامة بنشر كتابه "عن الحرية"، كان فيه أناركي شيوعي فرنسي اسمه جوزيف ديجاك Joseph Déjacque بيطلع جريدة اسمها "الليبرتاري". فكرة الليبرتارية عند ديجاك شايفة إنها بتمد خط الحرية السياسية على استقامته لحد النهاية، شيء أفكار مِل ما جرؤتش توصل إليه على اﻹطلاق وبسببها وقع في تناقضات زي إنه برر للعنصرية والاستعمار لما قال إن الاستبداد هو الشكل الشرعي الوحيد من الحكم الصالح في التعامل مع البرابرة (غير اﻷوروبيين).
إيه النهاية؟ لحد وقت طويل كانت التحرر الليبرتاري هي حرية المجتمع من الدولة في الاتجاه اليساري، يعني إلغاء الملكيات سواء كانت عامة (تابعة للدولة) أو خاصة (تابعة ﻷفراد حقيقيين أو اعتباريين) وتحويلها لملكيات تعاونية أو مجمعنة أو مشاعات مفتوحة -ودي اللي كارل ماركس عرّفها بإنها المستوى التاني من الشيوعية بعد مرحلة حكم البروليتاريا، لكن في عز هيمنة نموذج دولة الرعاية الاجتماعية بشكله الاشتراكي في الشرق والديموقراطي في الغرب، وخضوع اقتصادات العالم لسيطرة الدول القومية في القرن العشرين، دخل على الليبرتارية اتجاه معاكس جديد وهو الخصخصة الكاملة لكل شيء بما فيها نظم العدالة والقوانين بدون الحاجة للدولة، ودا كان اتجاه جذري تمامًا حتى بالنسبة لمدرسة شيكاجو الاقتصادية اللي أسست نظريات الليبرالية الجديدة / النيوليبرالية في الوقت نفسه.
الفرق بين الليبرتارية اليمينية والليبرالية الجديدة إن التانية لسه متمسكة بدور الدولة في ضمان استمرار اﻷسواق وحماية الملكيات الخاصة بلا أي دور إنتاجي أو رعاية اجتماعية للمواطنين. الاقتصاديين بيسموا الدولة دي "دولة الحد اﻷدنى" أو "دولة إنفاذ العقود" أو "دولة الحراسة الليلية"، إنما الليبرتارية اليمينية رافضة أي وجود للدولة من أساسه. المنظر اﻷناركي الرأسمالي ديفيد فريدمان -ابن الاقتصادي النيوليبرالي ميلتون فريدمان- بيقول إن اختلافه مع النيوليبراليين قايم على ثقتهم في دور الدولة في إنتاج القوانين، وهو شايف إن إنتاج القوانين مش مشكلة أسهل من إنتاج العربيات (السلع الكمالية) أو اﻷكل (السلع اﻷساسية)، فلو كانت الدولة مش كفؤة في نظرهم ﻹنتاج العربيات أو اﻷكل، ليه متوقعين كفاءتها في إنتاج نظام قضائي من خلاله السوق بينتج اﻷكل والعربيات؟
اﻷناركيين الرأسماليين شايفين إنهم ممكن يحققوا المجتمع التحرري إما من خلال وكالات دفاع خاصة اللي ولايتها القضائية بتتكون من ملكيات مستخدميها الحرة، وحيث إن كل القوانين معمولة بعقود خاصة، فالقانون المطبق معتمد على أطراف التعاقد ووكالات الدفاع اللي بتمثلها، أو ممكن تحقيقه من خلال شركة واحدة خاصة بتوفر الحماية للمجتمع بما فيها الشرطة والخدمات القضائية. وبالتالي، فيه احتكار مناطقي للشركة، لكن بس من خلال اختيار طوعي من المجتمع واضح ومتحدد عن طريق تأجير اﻷرض ليهم.
الليبرتاريين اليساريين بيقولوا إن الصفة الحقيقية اللي مفروض تتقال على الليبرتاريين اليمينيين إنهم "ملكيين" Propertarian من كتر تقديسهم لحق الملكية الخاصة لدرجة تبريرهم للعبودية الطوعية. اﻷناركي الشيوعي ديفيد جريبر شاف إن محاولة عمل اقتصاد سوق بدون جيوش وشرطة وسجون راح تنتهي بسرعة في شكل أبعد ما يكون عن الرأسمالية، واستخدم ﻹثبات كلامه تجربة فكرية بسيطة اسمها "حكاية الجزيرة المقسومة" حكاها في كتابه "مشروع الديموقراطية". الحكاية بتقول إن الحياة على الجزيرة دي بتنقسم بين مجموعتين كل مجموعة فيهم بتاخد حصة من مواردها قد المجموعة التانية بالظبط وبيتم الاتفاق بينهم على كدا، المجموعة اﻷولى بتعيش في نظام اقتصادي بيسمح ﻷعضاء معينين بإنهم يتملكوا كل الموارد اللي في حصة مجموعتهم، في حين إن الباقيين ما لهمش منها أي حاجة وما يقدروش ياخدوا منها حاجة إلا عن طريق إنهم يشتغلوا عند أصحاب الموارد في مجموعتهم. أما المجموعة التانية مش بس بتخلق نظام اقتصادي يضمن توزيع عادل للموارد بينهم ويكفل الوسائل الضرورية من العيش بدون شروط، إنما كمان بترحب بأي وافدين من المجموعة اﻷولى للعيش بينهم زيهم. هنا يظهر السؤال: إيه اللي يخلي المحرومين في المجموعة اﻷولى يشتغلوا عند أصحاب الموارد وما ينضموش للمجموعة التانية؟ وبالتالي أصحاب الموارد هيتحرموا من خدمهم وعمالهم في وقت قصير، وهيبقى قدامهم خيارين: إما إنهم هيضطروا يعملوا صفقة مرضية مع خدمهم وعمالهم عشان يكملوا معاهم، ودا معناه إنهم هيفقدوا احتكارهم للموارد وبالتالي هيبقوا مجتمع مساواتي، أو يضطروا يخدموا نفسهم ويشتغلوا لروحهم، وبالتالي هيبقوا برضه مجتمع مساواتي.
في رأي ديفيد جريبر وأناركيين كتير زيه مفيش سوق بدون دولة ومفيش دولة بدون سوق، لكن فيه مجتمعات بدون أسواق ودول، ودا معنى التحرر الحقيقي.