حالة الطبيعة أم حالة الفلسفة؟
مقال لحسين الحاج
خاص بـ Boring Books
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.
***
سيرة ذاتية غير معترف بها
في عام 2014 التحقت بمعهد القاهرة للعلوم واﻵداب الحرة الشهير باسم (سيلاس)، ودرست من بين مساقاتها اﻹلزامية مساقًا بعنوان «الفكر الاجتماعي والسياسي: مدخل إلى الفلسفة السياسية»، كان ضمن المواد الدراسية التي قرأتها في مساق الفكر الاجتماعي والسياسي فصلًا حول المبرر الفلسفي للدولة. قدم الفصل تصور ثلاثة من رواد الفلسفة السياسية (هوبز وروسو ولوك) لما أسموه بـ «حالة الطبيعة»، وهي تجربة فكرية تتلخص في تخيل لما كانت عليه حياة الناس قبل ظهور الدولة.
كان يمكن أن يصبح لهذه التجربة مصداقية لدي لو كنت علمت أن أيًا منهم عاصر مثل هذه التجربة حقًا، لكنها تظل تجربة فكرية متخيلة، فلم يحدث لهوبز أو روسو أو لوك أن عاشوا في مجتمعات ما قبل نشوء الدولة pre-state societies، بل أنهم نظّروا جميعًا للدولة الحديثة بعد توقيع صلح فستفاليا عام 1648 الذي يقر مبدأ سيادة الدول اﻷوروبية القُطرية، ولا تكتسب هذه التجربة بالطبع أية مصداقية بما عاصره هوبز من فوضى سياسية في موطنه أثناء الحرب اﻷهلية اﻹنجليزية (1642 - 1651)، ﻷنها لم تكن حربًا بين أنصار الدولة وأعدائها اﻷناركيين. يقول بوب بلاك في مقالة «إلغاء العمل»:
«لنتأمل الحالة المبكرة للإنسانية بدون حكومة أو ملكية، عندما كنا نجوب في الأرض جامعين وصيادين، حَدَس هوبز أن الحياة كانت قبيحة وقاسية وقصيرة، وافترض آخرون أن الحياة كانت صراعًا لا ينقطع للبقاء، حربًا مستعرة ضد طبيعة قاسية وضد الموت والكوارث الطبيعية في انتظار سيء الحظ أو أيًا من كان غير كفؤ للصراع من أجل البقاء، كان هذا في الحقيقة إسقاطًا على خوفهم من انهيار السلطة الحاكمة فوق مجتمعات لم تعتد الحياة بدونها، كإنجلترا هوبز أثناء الحرب الأهلية. واجه مواطنو هوبز بدائل أخرى للمجتمع بينت أساليب أخرى للحياة - في أمريكا الشمالية خاصة - لكن تطبيق تلك التجارب كان بعيدًا عن أن يتم استيعابها… مثل كل النظريات الاقتصادية والاجتماعية، كانت نظرية هوبز وورثته سيرة ذاتية غير معترف بها في الحقيقة».
كان على الفلسفة السياسية الغربية أن تنتظر طويلًا إلى أن تجد أول منظر حقيقي لمجتمع بلا دولة، وهو ويليام جودوين، وهو أمر ذو دلالة مهمة، ﻷن جودوين أسس أناركيته الفلسفية على نفس اﻷسس التي أسس بها هوبز عقيدته الدولتية، لكن جودوين انتهى إلى عكس ما انتهى إليه هوبز ألا وهو ضرورة اﻷناركية. كان جودوين من الفلاسفة القلائل الذي قادوا أفكار التنوير إلى نتائجها المنطقية حقًا.
ربما علينا مراجعة أنثروبولوجيا هؤلاء الفلاسفة قبل أن نسلم بصحة حكمهم على حالة الطبيعة، أي المجتمع اﻹنساني بدون دولة.
إصلاح الخطأ اﻷنثروبولوجي بخطأ آخر
هل يذكرنا مصطلحي «أنثروبولوجيا» و«حالة الطبيعة» بفلسفة أحد ما؟ بالطبع! كارل ماركس وفريدريك إنجلز! ربما لا يعلم كثيرون ذلك، لكن ماركس وإنجلز كانا قارئين جيدين للبحوث اﻷنثروبولوجية الصادرة أثناء حياتهما، وإلا كيف كان لهما أن يتحدثا عما أسموه بالمشاعية البدائية! لقد اعتبر ماركس شيوعية المستقبل نموذجًا مستخرجًا من أقدم مراحل التاريخ، فقد قدمت بحوث العالم اﻷنثروبولوجي اﻷمريكي لويس هنري مورجان حول حياة قبائل إيراكوي في أمريكا الشمالية لماركس وإنجلز صورة ملهمة لما يجب أن يصبح عليه المجتمع الشيوعي بعد تحلل المجتمع الرأسمالي، إذن لم تكن حياة البدائيين قبيحة وقاسية وقصيرة كما وصفها هوبز!
النظر إلى التاريخ من أجل القدرة على استبصار المستقبل! بالطبع هذا ما اقتضته الفلسفة الهيجلية (والماركسية من بعدها) بعد أن قدمت تصورًا فلسفيًا شاملًا للتاريخ اﻹنساني مُقامًا على أسس التطور الجدلي، لكن كيف كان لنا أن نعرف حقًا تاريخ اﻹنسانية قبل عصر الكتابة والتدوين؟ لننظر إذن إلى سيرة طفولة الإنسانية المدونة في البحوث اﻷنثروبولوجية لما تبقى من صور الحياة البدائية في المستعمرات خارج أوروبا، فإن كان البدائيون لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، يجب على اﻷوروبيين أن يحملوا عنهم تلك المهمة، ويصلحوا الخطأ اﻷنثروبولوجي الذي ارتكبه فلاسفتهم في القرنين الثامن والسابع عشر. هكذا تنقض رؤية الماركسية للمجتمعات التاريخية اﻷولى عرى تجربة حالة الطبيعة التي ترى أن الإنسان ذئب أخيه اﻹنسان، ومن ثم تستطيع أن تتجاوز معضلة الفلسفة السياسية الممثلة في سؤال الدولة عن طريق ثورة شيوعية تنتقل بنا نحو مجتمع إنساني واحد بلا دولة مرة أخرى.
أين مكمن الخطأ إذن؟ في النظرة اﻷنثروبولوجية للمجتمعات التاريخية اﻷولى باعتبارها مجتمعات ما قبل الدولة، أي أنها لم تعرف الدولة بعد، وأنها لولا الاستعمار لظلت تنعم بالبراءة السياسية لقرون أخرى مديدة. يدعم هذه النظرة اﻷنثروبولوجية التصور الهيجلي التقدمي عن مقايضة «البكارة بالمهارة» في التطور الجدلي، ويدعم التصور الهيجلي التقدمي رؤية اﻷوروبيين ﻷنفسهم باعتبارهم واقفين على أعلى درجات سلم الحضارة. قدم اﻷنثروبولوجي الفرنسي بيير كلاستر في سبعينيات القرن الماضي ومن بعده علماء أنثروبولوجيون آخرون مثل جيمس سي سكوت نظرة جديدة لتلك المجتمعات باعتبارها مجتمعات ما بعد الدولة post-state societies، ويعني ذلك أن تلك المجتمعات عرفت فكرة الدولة لكنها لم تشأ أن تؤسس لنفسها دولة، إما لاستحالة الشروط البيئية أو لاستحداثها تقنيات اجتماعية تسمح لها بتفادي نشوء الدولة. يقول بيير كلاستر في حوار معه:
«لنقل إن المجتمع البدائي هو مجموعة من اﻷدفاق المتحركة، أو بتعبير مجازي آخر آلة مع أجهزتها، المجتمع البدائي يرّمِّز، أي يراقب بشدة ويتحكم في جميع اﻷدفاق، جميع اﻷجهزة، إنه يتحكم في ما يمكن أن نسميه دفق السلطة، يحصره في داخله ولا يسمح له بالخروج، ﻷن خروجه يعني أن اللقاء سيتم بين الزعيم والسلطة، وهنا سنكون إزاء الصورة الدنيا للدولة، الانقسام اﻷول للمجتمع (بين من يحكم ومن يطيع). وهذا ما لا يسمح به المجتمع البدائي الذي يتحكم في الجهاز المسمى بالزعامة». (مجلة اﻷسطورة المضادة - العدد التاسع - باريس، 1975 - ترجمة محمد الحاج سالم)
يبحث فلاسفة اﻷنوار في حالة الطبيعة عن النموذج المعياري الذي يقبل القياس عليه كي يستنبطوا مبرر وجود الدولة أو الرغبة في العودة إلى اللادولة، ولم يكن هناك نموذج أفضل لديهم من نموذج اﻹنسان اﻷول (في رؤية هوبز الفردانية) أو البشر اﻷوائل (في رؤية ماركس الاجتماعية)، ﻷن فيهما يستطيعون أن يروا خط بداية اﻹنسانية التي انشغلت فلسفة اﻷنوار بتفسيرها دائمًا.
عود على بدء
أرى بعين الخيال،
تنين هوبز يصرخ في العالمين:
اجتنبوا حالة الطبيعة!
بينما يهمس شبح ماركس فينا:
لنعد إلى حالة الطبيعة
(عبر الدولة الثورية ودون أن نفقد ارتقاءنا الحضاري)!
وأراني واقفًا بينهما أفكر:
ما من طبيعة في اﻷصل كي نجتنبها أو نعود إليها.