بروست والتخلُّص من الزمن: أن تصنع صندوق دنيا جديدًا من خشب ورد العالم القديم
مراجعة لكتاب: مارسيل بروست والتخلص من الزمن لجيرمين بريه
مراجعة: أحمد الزناتي
نُشِرتْ المراجعة في جريدة «أخبار الأدب» أغسطس 2020
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.
في دنيا الأدب أعمال نقدية أو سيَريَّة مكتوبة عن نصوص وروائيين، لكنها من فرط عذوبتها وصدقها تسمو إلى مرتبة تكاد تنافس العمل الأدبي نفسه. الأمثلة كثيرة: كتاب «حياة دون كيخوته وسانشو» لميخيل دي أونامونو، وكتاب أندريه جيد عن «دوستويفسكي»، وما كتبه عبد الرحمن بدوي عن «ريلكه»، ومن بينها أيضًا هذا الكتاب المهم «مارسيل بروست والتخلُّص من الزمن» للباحثة الفرنسية الأمريكية جيرمين بريه، الصادر عن دار الرافدين، بترجمة ممتعة للمترجم العراقي الراحل نجيب المانع. في المقدمة التي كتبها الروائي البريطاني أنجوس ويلسون، يقول إن كتاب الآنسة بريه مُصاحِب قَيِّم لقراءة رواية «بَحْثًا عن زمن مفقود» لبروست، ربما باعتباره أداةً استرشادية أو بوصلة تُعين القارئ على تلمُّس طريقه في شِعاب الملحمة الروائية الوعرة. الكتاب مكوَّن من تسعة فصول، تبدأ بالعالم البروستي، وتنتهي ببروست الروائي. وبين الأول والأخير، رحلة طويلة لإضاءة شوارع بروست المعتمة.
يبدو أن المؤلفة قد نالتها عدوى اتساع الرؤية من بروست، فأخرجت عملًا غزير المادة والأفكار تتعذَّر الإحاطة بجوانبه في سطور، لذلك سأحاولُ في هذه الإضاءة الكشفَ عن بعض الجوانب التي استرعَتْ انتباهي في تناول بريه للرواية من ناحية، والإشارة إلى بعض النقاط المتصلة برؤية بروست نفسه للفن الروائي، ودور الكاتب إزاء فـنه من ناحية أخرى.
في البداية، تضع المؤلفةُ يدها على جانبٍ مهم لدى قراءة «الزمن المفقود»، وهو أن عالَم بروست من السعة والثراء بحيث يصعُب على أي قارئ تلمُّس دروبه بسهولة، وهو ما يُفسِّر سبب استخراج الشُرَّاح -حسب وصفها- موضوعًا واحدًا، من ضمن عشرات المواضيع، ليعاملوه باعتباره كيانًا مستقلًا (شخصيًا أرى في الجزء الأخير من الرواية «الزمن المُستعاد»، وتحديدًا في آخر 40 صفحة منه، درسًـا بـلـيـغًا في الكتابة، وتأبينًا روائيًا لحُلمٍ لم يكتمل).
يرى بروست أن الدور الأساسي للعمل الفني هو الإدراك المباشر للتجربة الإنسانية ثم إيصالها إلى القارئ. ينعي بروست على الكُتَّاب النأيَ عن تجربتهم الذاتية الخاصة بسبب كسلهم الذهني أو عدم الدقة اللغوية، فيقول إننا نفسد تجاربنا الشخصية بسبب فساد التعبير اللغوي، فنشكل حياتنا وأفكارنا على نحوٍ مغاير لما أحسسنا به، لعجزنا عن التعبير عنه بدقة.
تنتقل المؤلفة إلى نقطة ثانية هي ضمير السَرْد. رواية «الزمن المفقود» مرتبطة لا شك بحياة مُؤلِّفها، بحيث أن كل الأحداث التي رواها انطلقتْ من أحداثٍ واقعية، لكن أصالة فن بروست تكمن في أنه كان يمارس دور الإله الكلي القدرة، فضمير المتكلم ليس أكثر من فرد من بين عشرات الأفراد. يُقَال إن بروست قال لأندريه جيد ذات مرة: «تستطيع أن تقول كل شيء شريطة ألا تقول أنا مطلقًا»، وهو ما يمثِّل تناقضًا ظاهريًا، تزيله المؤلفة في ما يتلو ذلك من تحليل ممتع جدير بالقراءة. نقطة أخرى تشير إليها بريه، هي خطورة وضع اسم بروست مكان اسم الراوي (وهو خطأ شائع: التوحيد بين المؤلِّف والبطل المتكلِّم)، لأن مارسيل بروست يتحدث من خلال الراوي، لكن الراوي أحيانًا يتحدَّث عن نفسه، ولو فحصنا حياة بروست وروايته لأمكننا معالجتهما بوصفهما كيانيْن مستقليْن.
تصف بريه رواية «بحثًا عن زمن مفقود» بأنها حكاية حياة الراوي يرويها متذكرًا، ورغم أنها تبدو دفاعًا عن النفس، فإن حياته تبدو انتصارًا حقيقيًا، وحين كان بروست طفلًا كان يَحلُم بإنجازاتٍ معينة، وفي النهاية يحتضن حُلمًا غامضًا، هو أن يصير كاتبًا عظيمًا.
كيف يمكن استعادة الزمن الضائع؟
عبقرية بروست في أنه خلق عالمًا غريبًا لا يعرفه البطل، فالرجل المستلقي على الفراش يحمل داخله عالمًا ضائعًا ومنسيًا فكيف إذن للراوي/ البطل أن يستعيده؟ يستطيع أن يستعيده عبر التعثُّر عليه تعثُّرًا عَرضيًا (عبر رائحةٍ ما، أو عبر مذاق كعك المادلين، أو صوت جرس كنيسة كومبريه، إلخ) أو ربما التمشية في شارع قديم، أو التعثُّر عرضًا في ألبوم صور عائلي أو كتاب طفولة مُغبَّر بغبار الدروب الأولى. يفكر الراوي أنه ربما يكون كاتبًا إذا اكتشف العالَمَ الداخلي الموجود داخله، وهذا جوهر القصة كلها، وأظنه جوهر أي قصة في الدنيا. فحين يذوق الراوي كعك المادلين في المشهد المعروف تعود كومبريه إلى وعيه بكل كيانها، وهي عودة لا تشوهها التحوُّلات ولا نكبات الذاكرة، تعود «غضَّة نقيَّة من تلوُّث الذكر ورجس الحسرة»، لو استعرتُ تعبير إدوار الخراط في مجموعة «أمواج الليالي».
تذهب المؤلفة إلى أن «الزمن الضائع» قصة نجاح، لا النجاح الدنيوي العادي، ولا تحقُق الذات في عمل أو مكانة اجتماعية أو أدبية، فهذه قمامة إلى البحر، غبار على حذاء بروست. أنا الذي هو أنا. النجاح الحقيقي هو إنهاء كتابة الرواية الأهم في حياته، العبور من «الزمن المفقود» إلى «الزمن المستعاد» (الجزء الأخير)، والإخفاق في الوصول إلى ذلك الهدف من شأنه أن يهدم أي معنى لحياته. راوي بروست مرتبط ارتباطًا وثيقًا بعالَمه الخاص- شأنه شأن أي فنان حقيقي في ظني-، فيطوِّر بروست قصةَ الراوي من صورٍ عنيدة التكرار لأناس وأماكن معينة في حياته، تعيش في ذاكرته وبذلك تهرب من النسيان.
نقطة أخرى جذبت نظري في كلام بريه، وهي رغبة بروست الدائمة في أن تتطابق الحقيقة مع عالمه المُتخيَّل، فالبندقية وسوان ودوقة غيرمانت ينبغى أن تُشابه الصور التي وفَّرتْها له الكتب والأحلام، وكأن هذا هو تصوُّره عن الأدب، الأدب الذي يُجْهِز على الواقع ويُطوِّقه من كافة النواحي، أو ربما كان يقول: حياتي هي الرواية التي أكتبها، لا الحياة المكتوبة عليَّ.
في فصل آخر، تكلمتْ بريه عن موضوع الحب في الرواية، فتصفه بالموضوع المهم الذي يشغل مساحات واسعة في شخوص بروست وتأملاتهم. الراوي مشغول دائمًا بالحب، في طفولته وفي مراهقته وفي فُتوَّته. الحب في رأسه ضبابي، يتماهى مع الروايات والأشعار التي يقرأها، مُشَرَّب بـــسِــمَةٍ غامضةٍ سريَّةٍ خالدة. وإذا أردنا أن نحكم على أفعال الراوي من غير ذِكر تأثير الحب فيها، فإننا نجد أفعاله غير مُبرَّرة، مثل تسكُعاته الطويلة في الشانزلزيه، التمشية في شوارعٍ مجاورة لبيت سوان والشوارع المحيطة ببيت آل غيرمانت. الأرجح أنه يفتش عن شيءٍ ما، لكنه لا يبوح به أبدًا. ترى المؤلفة أننا لا يمكننا فهم مشاوير المشي الطويلة بمعزلٍ عن تحقيق حلم السعادة الذي تـَعِدُ به كلمةُ الحب، منتهيةً إلى نتيجةٍ طريفة فحواها أن الحب البروستي لا يقصد ذاتًا بعينها، هو حـب مفقود كالزمن، الحب البروستي تائه وفقًا لتعبير بريه. أظن أن الراوي لم يكن يبحث عن حبيبة بعينها، ولا إلى أنثى بشحمها ولحمها. ربما كانت مجرد صورة يُطاردها لا أكثر، تورية، معنى قريب يُراد به آخر بعيد، متهيئًا اللحظة التي يمسك فيها بطريدته، لا لشيء إلا ليقوم بمطاردتها مجددًا.
في الفصل الثامن، بعنوان «الفن والأخلاق والسعادة»، تتكلم بريه عن دور الفنان/ الكاتب. يرى بروست أن الفنان مستودع لحقيقةٍ ما، ويتعيَّن عليه أن ينقلها إلى الخارج. وتحقيقًا لذلك عليه أن يأخذ نفسه بالشدة، فتوجُّـسه من الموت يمنحه إحساسًا بقيمة حياته في التعبير عن هذه القيمة/ الفكرة/ الشعور، ويتحوَّل العملُ الفني ليصير لونًا من ألوان التطهير والطرد والخلاص من هذه الفكرة المُضْنِية، وتبلغ الفكرةُ حدودَها القصوى حين يعزم السارد على أن يكون كاتبًا، فيتملكه هوسٌ بفكرة التكفير والخلاص المُشَرَّب بقطراتٍ صوفيَّة مُخلِصة للأدب.
يحمل الفصل الأخير عنوان «بروست الروائي»، وهو فصل مهم في اعتقادي للمهتمين بالكتابة الروائية، أحبُّ أن أنقل منه الفقرات التالية:
«بروست يعتقد بأن الشرط الوحيد الأساسي لكل عمل فني هو أن يوجب الفنان على نفسه إبقاء الاحساس باللغز المتضمن في كل حياة نابضًا بالحيوية في داخله. والفنان هو الرجل الذي لم يسمح للستار الكثيف من العادة أن ينزل ويُسدَل بينه وبين الحياة».
«الفنان لا يقوم بغير الملاحظة ونقلها».
«الفنانون يرَون الله مهما يتخذ من وسائل تخفيه عن الأبصار».
«إذا كان الفنان يسعى لإنتاج عمل، فمَردّ ذلك أنه لا يمتلك طُــرقًا أخرى ليرينا بها الله».
«العمل الفني يوحي على نحو مستديم الإصرار بوجود حضور غامض وراء كل شيء ندركه، ولا يُـفسِّر بروست طبيعة الحضور الغامض، ذلك أن التفسير بحد ذاته محطمٌ لها».
«الأسلوب بالنسبة إلى الكاتب ليس قضية من قضايا التقنية، بل قضية من قضايا الرؤية».
*
طالما شغلتْ بالي عبارةٌ غامضة قرأتُـها يومًا عند صمويل بيكيت، تقول: «بروست ذاكرته ضعيفة». لم أفهم آنذاك ما الذي قصده بيكيت ولا كيف يُقال ذلك في حق قنَّاص الزمن الضائع. يقرأ الإنسانُ أولًا، ثم يأتي المعنى لاحقًا. بعد قراءة كتاب بريه، أقتربُ من تأويل جُملة بيكيت. هي كلمة مدح لا قدح، فلو كانت ذاكرة بروست قويَّةً مثل صندوقٍ أسود يحتفظ بكل شيء كما جرى على أرض الواقع، لأخرج لنا في أفضل الأحوال فيلمًا تسجيليًّا أو ألبوم صور ضخمًا عن حياته. عبقرية بروست أنه صنع صندوق دنيا جديدًا من خشب ورد العالَم القديم، أعاد فيه خلقَ عالَمـه المفقود، عـبـر مصادفةٍ لعبت خلالها الذاكرة «لعبتها»، لعبتْ شوطًا واحدًا فقط، وتركت بقية المباراة لخياله وأحلامه.