اختار الصحفي والناقد الإنجليزي روبرت مَكروم قائمتين لأفضل مائة عمل سردي وأفضل مائة عمل غير سردي باللغة الإنجليزية، وكتب مقالًا يخص كل عمل منهم. نترجم في هذه السلسلة بعض هذه المقالات.
جين إير لشارلوت برونتي (1847)
مقال روبرت مكروم
ترجمة: مريم ناجي
نُشر بموقع الجارديان 9 ديسمبر 2013
الترجمة خاصة بـBoring Books
تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.
«كان من المُتعذر علينا أن نتنزهَ سيرًا ذلك اليوم».
بدايةً من سطرها الأول الساحر حتى نهايتها الشهيرة: «وتزوجت بهِ، أيها القارئ»، تُحكِمُ شارلوت برونتي قبضتَيها على عنق الجمهور بسردٍ مَحبوك ذي طابع مباشرٍ عظيم. على طول صفحات الرواية، يكون لصوت جين إير تأثيرٌ طاغ؛ فلا يقوى القارئُ على مقاومة رغبته في قَلبِ الصفحة التالية، والتالية...
في إنجازٍ استثنائي وخارق في الرواية الإنجليزية، ومع استعارة الحَميميّة الخاصة بأسلوب الرواية المكتوبة على هيئة يومياتٍ ورسائل، المُميز للقرن الثامن عشر، عثرتْ شارلوت برونتي على طريقةٍ تحظى من خلالها باهتمام القارئ من خلال عملية مشاركةٍ خاصة ومكثَّفة مع جمهورها؛ فنصبحُ نحن والكاتبة وجين إير فردًا واحدًا. ولهذا السبب، تكتسبُ برونتي الحق في أن تُلقب برائدةِ رواياتِ الوعي الداخلي. أضف لذلك أسلوبًا نثريًا للبساطة الخالية من التنميق، وستجدُ بين يديكَ الرواية الڤيكتورية التي سحرتْ جيلها؛ حتى وقتنا الحالي، لن ينسى أبدًا الكثير من القراء لحظةَ ما وطأت أقدامهم في العالم الغريب والموحش لهذا الكتاب الباهر.
يبدأ سحر رواية جين إير بشارلوت برونتي نفسها؛ بدأتْ في كتابة روايتها الثانية (بعدما رُفضَ نشر روايتها الأولى، رواية «الأستاذ») في أغسطس 1846. انتهت منها في غضون عامٍ واحد، وكُتِب معظمُها في حالةٍ من الانفعالٍ المُتأجِّج. ولهذا السبب، سحرت جمهور القراء. قالت ابنة «وليام ثاكري» أن الرواية (التي كانت مُهداةً إلى والدها) «دفعت لندن بأكملها إلى النقاش والقراءة والتفكير». وقالت عن نفسها إنها كانت «مُنجرفةً في زوبعة لم تأتِ في حلمٍ ولا في خيالٍ حتى الآن».
تعودُ جذور سحر برونتي لثلاثة عناصر أساسية. أولًا، الرواية مَسْبوكة في قالب «المُذكّرات» بدايةً من العنوان حتى الغلاف، وهو أسلوبٌ مُستقى من «روبنسون كروزو» لصاحبها دانيال ديفو (العمل الثاني في قائمة مكروم للأعمال السردية). لكن المغامرة التي تُقدِمها الروائية مغامرةٌ داخلية؛ تُصوِّر جين إير التنقيب الملِّح لرَاوِيتِها عن الهوية. جين -الفتاة التي تخفق في تذكُّر والديها، والتي تفتقر لمكانٍ آمن في هذا العالم باعتبارها يتيمة- تنطلق في رحلة بحثٍ عن «ذاتها»، وهي امرأةٌ شابة ومُضطَهدة.
وفي ما يتعلق بهذا، تمتلك جين إير طابعًا مباشرًا صِرفًا، وشَبِقًا أحيانًا. لم تأنَف جين من «بروكلهورست» و«سانت جون ريڤرز» و«جون ريد» وحسب، بل كذلك كانت توَّاقةً للخضوع لـ«سيدها»، «مستر روتشيستر» البايروني.[1] كان عُنف الرجال تجاه النساء صريحًا في العديد من تعاملات جين مع ريڤرز وروتشيستر، ومن وجهة نظر القارئ الڤيكتوري، لا يُمكن التقليل من شأن الإثارة الناتجة عن هذا.
في النهاية، تعتبر رواية جين إير، التي توجِّه حديثها إلى «القارئ» على نحوٍ حثيث، روايةً شديدة الانغماس في الأدب الإنجليزي لدرجة أنها أصبحت مثل صدى صوتٍ لأعمالٍ سابقة. ففي صفحاتٍ قليلة من بدايتها، تظهر إشارات إلى: «الفردوس المفقود»، و«مارميون» للكاتب الأسكتلندي والتر سكوت، و«رحلات جاليفر» للكاتب جوناثان سويفت (العمل الثالث في قائمة مكروم للأعمال السردية).
كانت برونتي نفسها، ابنة قسيسٍ جائرٍ من شمال البلاد، على اِطلاعٍ واسع برواية «رحلة الحاج» لجون بونيان (العمل الأول في قائمة مكروم للأعمال السردية). بل أن النُقَّاد وصفوا المسيرة التي قطعتها جين إير كمحاكاةٍ مضاعفة خمس مرات لرحلة حج بونيان؛ تنطلق جين إير من قصر «جايتسهيد» إلى أعماق مدرسة «لوود»، ثم إلى الِمحَن الموجودة بقصر «ثورنفيلد» ومنزل «مارش إند (منزل مور)»، قبل الخلاص المحمود في منزل «فِرنديان». تُروى رحلة حج جين الروحية ببساطةٍ إنجيلية، مصحوبةً بحرفيةٍ مُتقنة.
كذلك قدمت رواية جين إير مجازات الرواية القوطية المتعارف عليها؛ يُعَد ثورنفيلد قصرًا قوطيًا، و«مستر روتشيستر» بطلًا ذا سماتٍ رومانسية قوطية. والمرأة المجنونة التي تعيش في العليّة تتحدث عن نفسها إن جاز التعبير. إضافةً لذلك، تُدرك برونتي القوة السردية لما أسمَتهُ «الاعتراف المُعلِّق»: عبارةٌ نسجتها في الفصل العشرين، ولم تتردد قط في إغواء القارئ وإغراقه بالآمال وتعذيبه بعدم تحقيقها.
حتمًا كان عام 1847 هو عام المعجزات في الرواية الإنجليزية؛ وصلت مخطوطة رواية جين إير إلى الناشر «جورج سميث» في أغسطس، وبدأ في قراءتها صباح يوم أحد. كتب عنها: «أسرتني القصة على الفور. قبل أن تَدق الساعة الحادية عشر، وصلت عربة حصاني عند الباب، لكنّي لم أقوَ على ترك الكتاب، وقبل أن أذهب للسرير تلك الليلة، كنت قد أنهيتُ قراءته».
غدت حركة النشر في أوّج حماسها في عام 1847 لدرجة أن توماس نيوبي -منافس «دار نشر سميث، إلدر، آند كو» (التي يُديرها جورج سميث)- قرر تقديم موعد إصدار مخطوطة «إيميلي برونتي» غير المنشورة. في ديسمبر 1847، وبينما كان القارئ الڤيكتوري لا يزال يستوعب الإثارة التي سببتها له جين إير، وجد نفسه مستغرقًا في التفكير في روايةٍ جديدة اسمها «مرتفعات وذرينج».
ملاحظةٌ على النص
يرتبطُ تاريخ نشر جين إير على نحوٍ وثيق بعودة شارلوت برونتي من بروكسل -عاصمة بلجيكا- في عام 1844. فوْرَ قراءتها لشِعر إيميلي، أقنعتْ آن وإيميلي أن يُرسلن مختاراتٍ من أعمالهن إلى ناشري لندن تحت أسماء مُستعارة: كيور وإليس وأكتون بيل، لكن لم تُكلَّل محاولتهن بالنجاح على الفور، ونُشِرتْ القصائدُ بشكلٍ مُستقل في النهاية. ثم في يوليو 1847، وافق «توماس نيوبي» على نشر رواية مرتفعات وذرينج. وقتئذ أرسلت شقيقتها الكبرى شارلوت روايتها الأولى، «الأستاذ»، إلى «دار نشر سميث، إلدر، آند كو»، ورفضت الدار نشرها لكن طلبتْ منها الاطلاع على أعمالٍ أخرى. حينها أرسلت شارلوت رواية جين إير التي لفتت انتباه جورج سميث، ثم نُشِرتْ بسرعةٍ فائقة في التاسع عشر من أكتوبر 1847 في ثلاث مجلدات خُطَّ عليها «تحرير/ كيور بيل». نُشِرتْ الطبعة الأمريكية الأولى عام 1848 عن طريق «دار هاربر آند براذرز» للنشر في نيويورك، ثم نُشِرتْ الطبعة البريطانية الثانية والمُهداة إلى «وليام ثاكري» عام 1850 مصحوبةً بفضيحةٍ محلية، حيث أن شارلوت برونتي لم تكن تعرف أن ثاكري قد أعلن أن زوجته قد جُنَّتْ.
[1] إشارةً إلى الشاعر الإنجليزي اللورد بايرون وكتاباته، تحمل معنى الرومانسي المتهكم من بين صفاتٍ أخرى.