قصة روسية أخرى
قصة: روبرتو بولانيو
ترجمة: سامح سمير
عن الترجمة الإنجليزية لـكريس أندروز
الترجمة خاصة بـBoring Books
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
ذات مرة، عقب محادثة مع صديق لي حول الطبيعة المراوغة للفن، روى أمالفيتانو حكاية سمعها في برشلونة، عن «جندي مستجد» (سورشي باللغة الإسبانية) في الفرقة الزرقاء الإسبانية، التي شاركت في الحرب العالمية الثانية إلى جانب وحدات الجيش الشمالي الألماني، على الجبهة الروسية، بالقرب من مدينة نوفوجرود على وجه الدقة.
كان هذا المجند المستجد رجلًا ضئيل الحجم، شديد النحافة، ذا عينين زرقاوين، انتهى به المطاف، بطريقة أو أخرى، في روسيا (فهو لم يكن ديونيسيو ريدريجو مثلًا، ولا حتى توماس سلفادور؛ وكان يؤدي التحية الرومانية حين يتعين عليه ذلك، لكن الحقيقة أنه لم يكن في أعماقه فاشيًا أو كتائبيًا.[1] وهناك، لسببٍ ما، بدأ أحدهم يناديه بـ«تشورش» على سبيل الاختصار: تعالَ هنا يا تشورش؛ أو: تشورش، افعل كذا أو كذا، وهكذا حتى استقرت الكلمة في ذهنه، في المنطقة المعتمة من ذهنه. وفي هذا الحيز الفسيح والمقفر، مع مرور الأيام والفزع اليومي، تحولت الكلمة بطريقة ما إلى «شانتر»، أي مُرتل. كيف حدث هذا، لا أدري. دعنا نقل فقط إن ثمة صلة ما كانت هاجعة منذ طفولته، بُعِثتْ مجددًا إلى الحياة، أو ذكرى مبهجة كانت تتحين الفرصة للعودة من جديد.
وهكذا، بدأ الأندلسي يرى نفسه مُرتلًا، ومكلفًا بأداء واجباته، رغم أنه لم تكن لديه أية فكرة واعية عما تعنيه هذه الكلمة، ولم يكن يعرف ما إذا كان المقصود بها قائد جوقة كنيسة أم كاتدرائية. لكن الغريب في الأمر أنه تحت تأثير نظرته لنفسه باعتباره مرتلًا، حوَّل نفسَه بصورة ما إلى مُرتل بالفعل. وفي أثناء شتاء 1941 الرهيب، تولى مسؤولية الجوقة التي كانت تشدو بترانيم عيد الميلاد، فيما كان الروس يمطرون الكتيبة 250 بهجماتهم. وهو يتذكر تلك الفترة باعتبارها أيامًا ملأى بالضجيج (ضجيج مكتوم، ومتواصل لا ينقطع)، وبهجة سرية، ومشوشة بعض الشيء. فقد كانوا يرتلون، لكن الأمر بدا كأن الأصوات تتأخر، أو حتى تستبق، حركات شفاه، وحلوق، وأعين المرنمين، الذين كثيرًا ما كانوا ينزلقون، في رحلاتهم القصيرة لكن العجيبة أيضًا، في ما يشبه صدعًا صامتًا.
أما الأندلسي فكان يؤدي واجباته الأخرى بشجاعة وإذعان، لكن مع الوقت تملكه شعورٌ بالمرارة. وسرعان ما أدى ضريبة الدم المستحقة عليه. فذات بعد ظهيرة، وبطريق الصدفة إلى حد ما، أُصيب بجرحٍ وأمضى أُسبوعين في المستشفى العسكري في ريجا، تحت رعاية سيدات ألمانيات، باسمات الثغر، ومتينات، ممن يتولين أعمال التمريض في الرايخ الثالث، ولم يستطعن تصديقَ لون عينيه. إضافة إلى ممرضات مُتطوِّعات من إسبانيا، غاية في القبح، لعلهن شقيقات خوزيه أنطونيو، أو زوجات إخوته، أو بنات عمومته من بعيد.
وحين سُرِّحَ الأندلسيُ، حدث التباسٌ كانت له عواقب وخيمة عليه. فبدلًا من إعطائه تذكرة إلى الوجهة المفروضة، حوَّلوا مسارَه إلى ثكنات إحدى كتائب الـ SS، تَبعد عن كتيبته بمسافة 200 ميل. وهناك، وسط الألمان، والنمساويين، واللاتفيين، والليتوانيين، والدانماركيين، والنرويجيين والسويديين، وجميعهم أطول وأقوى منه بكثير، حاول، بألمانيته الركيكة، أن يشرح لهم ما وقع من التباس، لكن ضباط الـ SS تجاهلوه. وبينما كانوا يحاولون استجلاء هذا الالتباس، أعطوه مكنسة وجعلوه يكنس الثكنات. ثم أعطوه دلوًا وخرقة لينظف أرضية المبنى الخشبي الضخم، مستطيل الشكل، حيث كانوا يحتجزون، ويستجوبون، ويعذبون سجناءً من كل الأنواع.
لم يستسلم الأندلسي لقدره استسلامًا كاملًا، لكنه راح يؤدي مهامه بضمير يقظ، ويرقب مرور الزمن في ثكناته الجديدة، حيث الطعام أفضل كثيرًا من السابق، وما من أخطار على الإطلاق، ذلك لأن كتيبة الـ SS كانت تتمركز في نقطة وراء الخطوط بمسافة آمنة، للتصدي لمن كانوا يسمونهم «الخارجين عن القانون». ثم حدث، في المنطقة المظلمة من ذهنه، أن أصبحت كلمة «تشورش» واضحة من جديد. فجعل يقول: أنا «تشورش»، جندي مستجد، وينبغي أن أتقبل قدري.
ورويدًا رويدًا، اختفت كلمة «شانتر». لكن في بعض فترات ما بعد الظهيرة، تحت السماء اللانهائية والتي كانت تفعم روحه بالحنين إلى سيفيلي، كان صدى الكلمة يتردد، ضائعًا في مكان ما في الماوراء. وذات مرة، سمع جنودًا ألمان يغنون، فتذكر الكلمة؛ وفي مرة أخرى، تناهى إلى سمعه صوتُ صبي يغني وراء أجمة، فتذكرها من جديد، بصورة أوضح هذه المرة، لكنه حين ذهب إلى الجهة الأخرى من الدغل، كان الصبي قد تلاشى.
ثم حدث ما كان مُقدَّرًا أن يحدث. تعرضت الثكنات للهجوم، وتم الاستيلاء عليها على يد كتيبة مدرعات روسية، لكن البعض يزعمون أنهم كانوا مجموعة من رجال المقاومة الشعبية. لم يستمر القتال سوى فترة وجيزة، حيث كان الألمان في وضع غير مؤاتٍ منذ البداية. وبعد ساعة، عثر الروس على الأندلسي مختبئًا في أحد المباني مستطيلة الشكل، ومرتديًا زي جندي مساعد في قوات الـ SS، ومحاطًا بقرائن على الفظائع التي ارتُكِبتْ في هذا المكان قبل وقت ليس بالطويل. ضُبِط متلبسًا، كما يُقال. ثم قيدوه بسيورٍ إلى قوائم ومسندي أحد الكراسي التي كان رجال الـ SS يستخدمونها في استجواب السجناء. وعلى كل سؤال كان الروس يلقونه عليه، كان يجيب بالإسبانية أنه لا يفهم شيئًا وأنه مجرد خادم بسيط في هذا المكان. وقد حاول أيضًا أن يقول هذا الكلام بالألمانية لكنه كان بالكاد يعرف أربع كلمات منها، ومن يستجوبونه لا يعرفون منها شيئًا على الإطلاق.
وبعد جلسة سريعة من الصفعات والركلات، ذهبوا لإحضار شخص يتحدث الألمانية، وكان يستجوب السجناء في زنازين أحد المباني المستطيلة الأخرى. لكن قبل عودتهم، سمع الأندلسي صوت طلقات نارية، وأدرك أنهم كانوا يقتلون بعض رجال الـSS، الأمر الذي قضى على كل أمل لديه في الخروج سالمًا من هذا المكان. لكنه، حين توقف إطلاق النار، عاد يتشبث بالحياة بكل ذرة من كيانه. وحين سأله الروسي الذي يعرف الألمانية عما كان يفعله هناك، وعن وظيفته ورتبته، حاول الأندلسي أن يشرح له بالإسبانية، لكن بلا جدوى. ثم فتح الروس فمه بواسطة كماشة، كان الألمان يستخدمونها في التعامل مع أجزاء أخرى من الجسم، وبدأوا يسحبون لسانه ويعتصرونه. دمعت عيناه من فرط الألم، فقال، أو بالأحرى صاح، «كونو»، أي «فَرْج». لكن بفعل الكماشة التي في فمه، تشوهت الشتيمة، وتحولت عبر صوته الأشبه بالعواء، من «كونو» إلى «كونست».
فحدق إليه الروسي الذي يعرف الألمانية في حيرة. كان الأندلسي يصيح: «كونست»، «كونست»، وهو يصرخ من الألم. تعني هذه الكلمة بالألمانية «فن»، وهذا ما سمعه الجندي الذي يعرف اللغتين، فقال: لا بد أن ابن العاهرة هذا فنان أو شيء من هذا القبيل. وعندها، انتزع الرجال الذين كانوا يعذبون الأندلسي الكماشة من فمه، ومعها قطعة صغيرة من لسانه، وانتظروا، وقد صعقهم هذا الاكتشاف للحظة من الزمن. كلمة «فن». الفن الذي يهدئ ثائرة الوحوش الضارية. وهكذا، مثل وحوش هدأت ثائرتها، التقط الروس أنفاسهم، وانتظروا إشارة من نوع ما، فيما الدماء تنزف بغزارة من فم الجندي المستجد مختلطة بلعابه، فبلعها وغص بها. لقد أنقذت كلمة «كونو»، بعد تحولها إلى «كونست»، حياته. وحين خرج من المبنى مستطيل الشكل، كان الوقت غسقًا، لكن الضوء وخزه في عينيه وكأنه شمس منتصف الظهيرة.
ثم نقلوه من المكان، مع السجناء المتبقين، وكان عددهم محدودًا. وقبل مضي وقت طويل، استطاع أن يروي حكايته على روسي يعرف الإسبانية، وانتهى به المطاف في أحد معسكرات الاعتقال في سيبيريا، بينما نُفِّذتْ أحكام الإعدام في الأشخاص الذين شاءت الصدفة أن يشاركوه مظلمته. وقد بقي في سيبيريا حتى الخمسينيات. وفي عام 1957، استقر في برشلونة. وأحيانًا، كان يفتح فمه ويروي بمرح حكاياته عن الحرب. وأحيانًا أخرى، كان يفتح فمه، لكي يرى كل من يطلب منه ذلك، مكان قطعة اللحم المفقودة من لسانه. لكن بالكاد كان يستطيع أحد أن يراها. وهو ما فسره الأندلسي بأنه مع مرور السنين بدأ اللحم ينمو من جديد. لم يكن أمالفيتانو يعرفه شخصيًا، لكن حين سمع قصته، كان الأندلسي لايزال يعيش في شقة حارس عقار في برشلونة.
[1] «كتائبي» أي من أنصار فرانكو- المترجم.