شارع يفضي إليها

قصّة لجون خايرو خونييليس

ترجمة أحمد محسن، عن الأسبانية

جون خايرو خونييليس John Jairo Junieles: كاتب وشاعر وصحفي كولومبي ولد عام 1970. يعد أحد أهم الأصوات الأدبية المعاصرة في كولومبيا. فاز بجوائز أدبية عديدة في الشعر، إلى جانب كتابته القصة القصيرة والرواية.

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


جون خايرو خونييليس، عن banrepcultural

هناك أشياء كثيرة أكرهها في نفسي، لكن ثمة شيء محدد أبغضه كثيرًا، رغم أنه أحيانًا يكون نافعًا: هوسي بالسير دائمًا بين ماءين، عدم تركيزي أبدًا في الحاضر لأن عقلي يشرد في البحث عن عوالم أخرى، مثل سمكة في حوض سمكٍ تحلم بالمحيط.

حين يكون الحاضر محادثة مملة بين صحفيين في عملي، أو خطاب مدير تحرير، تكون عادة الهروب هذه لوح نجاة. لكن حين يكون الحاضر لحظة سحرية ينكشف فيها الكون أمامك، كما في تلك اللحظة التي أمشي فيها في شارعٍ آخذًا بيد المرأة التي أحب، يكون هذا الهوس في غير محله. لا بد أن هذا ما تشعر به سمكة تتجول حرة في المحيط وهي تفكر أنها عالقة في حوض.

قد يبدو أمرًا تافهًا أن أسير ممسكًا بيد امرأة، لكن الأمر يتعلق بها هي. وهذه هي المرة الأولى التي تسمح لي فيها بهذا الفعل. أنا وهي في علاقة معينة تريد لها أن تبقى طي الكتمان. ربما تخجل من أمرنا. فهي تهتز في كل مرة تمر سيارة بيضاء لأن أباها لديه واحدة، وأنا أسأل نفسي ما المشكلة في أن يعرف والدها أنني أحبها وأنها تحبني؛ فبين حياتينا توازن كافٍ يسمح لهما بالسير معًا: فأنا لست وَحْشًا ولا مجرمًا مطاردًا في سبع دول، وهي ليست بجمال نيكول كيدمان.

في النهاية، كلما تأملت، لا أستطيع أبدًا معرفة ماذا يحدث. ولا ينبغي لي أن أفكر في هذا، بل أن أستمتع بالسير الذي ربما لن يتكرر. الإحساس بيدها ممسكة بيدي كأنها تشك أن أحد المارة سيعتدي عليها، لأنها تخاف الحشود، وهو خوفٌ مشترك بيننا. كما نتشارك أيضا حب السينما، وأشياء أخرى صغيرة. لذلك لا أفهم لماذا لا يمكن لرغبتنا أن تكون في العلن.

لا ينبغي لي أن أفكر بتلك الأشياء، بل أن أعيش الحاضر. فربما تفلت يدي في نهاية الشارع، وأفقدها من جديد. وحينئذ لا أملك ذكرى متماسكة بسبب شرودي، مثل سمكة بحرٍ تشعر طوال حياتها أنها عالقة في حوض حقيقي، دون أن تكون قد استمتعت بالبحر حين كانت فيه.

بدأ المطر الآن بطيئًا. اتخذنا من الجزء البارز من السقف غطاءً، ونحن على بُعد عشرين مترًا من آخر الشارع. ما زالت يدها في يدي. يدوّي صوت رعدٍ بعيد. أتذكّر طفلًا كان يخافه، ويختبئ تحت السرير. ذلك الطفل بعيد الآن، وقريب، لأنها هنا. لكن عقلي أيضًا في كوبا، حيث عرفت بائعة هوى ووعدتها أن أكتب إليها، وفعلت ذلك. طلبت منها أن تكتب لي. فعلت ذلك على ظهر رسائلي لأنه لا يوجد ورق في كوبا. أسأل نفسي إن كانت هذه الذكريات أهم من كوني تحت هذا السقف، أقضي معها ساعة المطر.

عليّ أن أطلب منها شرحًا، لكني أدور حول الموضوع باستمرار. فهي لم تؤكد مخاوفي قط، دائمًا لديها عذر أو نكتة لتهرب على طريقتي. إنها مثل سمكة في المحيط. لكنه لا يدهشها، وهي لا تخبره بشيء. لا تستمتع بذلك المحيط لأنها لم تعش قط في حوض.

يتوقف المطر قليلًا، نستمر في المشي. أسأل نفسي إن لم أكن أكثر أمانة مع نفسي إن فضّلت أن أكون مع من يشعر بالامتلاء إلى جواري، لكني لا أجرؤ أن أفلت يدها لأنني ربما أفقدها إلى الأبد، وأنا أحتاج إليها، وإن لم تكن مستعدة دائمًا لقبولي في حياتها.

إنني أحتاج أن أحلم أنها هجرت مخاوفها وتركت السيارات البيضاء تمر دون أن تعكّر مزاجها.

أرى شبابًا وفتيات لا يمسكون بيد بعضهم. قد يكون الأمر عاديًا لأنهم حين يريدون ذلك لا يكون هناك ما يمنعهم. وأسأل نفسي إن كان رفضها لذلك التواصل العلني طوال كل تلك المدة لتجهزني لبهجة الحصول عليه الآن. وأنني بدلًا من التفكير في ذلك الأمر كان عليّ أن أعيشه. يجب ألا أكون عقلي، ألا أكون سوى يدي التي بداخل يدها، ويدها التي تضمّ كالعُشّ يدي، لكن الشارع وإعلانات المحلات تسرق انتباهي.

يخلق عقلي روابط تأخذني إلى الجبال حيث عرفت عجوزًا لم يكن قد رأى البحر، ولم يكن مهتمًا برؤيته. حين حدثته عن البحر لم يندهش، قال لي إن الجبال التي يعيش بينها كانت تكفيه. فكرت أنه عجوز أحمق لرفضه التعرف على أشياء أخرى، لكن ربما كنت أنا الأحمق، وكان هو رجلًا حكيمًا. كان هو في حكمة الشجرة التي يكفيها كونها شجرة. كان مقتنعا أن الجبل مكان شاسع حتى أن الحياة لا تكفي لسبر أغواره، وأن تفكيره في عوالم أخرى غرور، وشكل من أشكال ترك الحياة التي ينتمي إليها من أجل المجهول.-كان ينتمي إلى الجبل، مصنوعًا من مادته، مثلما أنا مصنوع من سبل الهروب إلى أفكار لا يكون عليّ أن أقبل فيها أنني أسبب لها الخجل. لذلك أهرب من جوارها، مثلما في الوقت الحالي حين تحدثني وأنا لا أعلم بم أرد؛ لأنني لم أستطع سماعها. فقط أقول «نعم» محاولًا إخفاء تقوقعي، وتصدر هي إيماءة إحباط؛ لأنها تعرف أنني لم أسمعها. أسوأ ما في الأمر أنه بمرور الوقت لا يبقى سوى خطوات قليلة حتى نهاية الشارع.

غرقت هي في صمت شديد. بينما أنظر أنا بخوف إلى نهاية الشارع الذي يتقدم نحونا كحبل المشنقة. أتجرأ على سؤالها ماذا كانت تقول لي، لكنها قاسية، تبقى في صمتها، تستغل شرودي لتجعلني أعاني. قبل الوصول إلى الناصية بقليل أفلت يدها في ثانية تستمرُّ آبادًا من الدهشة على وجهها. يعود المطر فجأة، فندخل مقهى على الناصية ونتوجه إلى الطاولة التي في آخره.

تبدأ هي في البكاء دون أن تشرح لي لماذا. أحس بالذنب. أخبرها أن هذا ما تبحث عنه. أن تجعلني أشعر بالبؤس. وأنها نجحت في ذلك، فلتهدأ ولتَعِشْ انتصارها. تبكي أكثر. يرمقها بعض الأشخاص بأطراف أعينهم. تسألني حينئذ إن كنت حقًا أريد أن أسمع ما كانت تقوله قبل لحظات حين كنت أسبح نحو عوالم أخرى. أقول لها إن ذلك جل ما أريد. فتحكي لي أنها كانت تطلب مني ألا أفلت يدها، وأنها تود لو تستمر في السير بقية حياتها. أشعر داخلي بشيء يحرقني ويهرب من عينيّ.

أسألها لماذا لم تدعني أفعل ذلك من قبل. تجيبني أنها كانت تريد أن تسألني نفس السؤال: أنها كانت تشعر أنني دائما ما أفكر في أشياء أخرى حين أكون معها، أن ربما كان ذلك لأنني كنت أخجل من كوني معها. أقول لها إنني غبي فتخبرني أنها هي الغبية. أقول لها إن كلينا غبيّان، وأن هذا سبب جيد لنبقى معًا. فتبتسم.

أشعر أنني عشت مثل سمكة تظن أنها محبوسة في حوض في قاع البحر، تضرب بأنفها الحوض، لكنه لا ينكسر لأنه مجرد وهم. ثم تخرج إلى البحر الذي دائما ما كان هناك، وتلمسه برقّة. حينها أقبّلها، رغم أن السيارات البيضاء ما زالت تمرّ.