بحثًا عن حدائق أمهاتنا

نص لأليس والكر[1] (1972)

ترجمة: شهاب الخشاب

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


آليس والكر، عن WTTW

«وصفتُ طبيعتها ومزاجها الخاصين. حكيت أنهما يحتاجان إلى حياة أوسع للتعبير عن نفسيهما... أشارت إلى أن مشاعرها فاضت في طرق قد بددتها بدلًا من أن تتخذ مسارات صحيحة. تكلمتُ –بشكل جميل في ذهني– عن فن قد يولد، عن فن قد يفتح الطريق إلى نساء مثلها. طلبت منها أن تأمل في حياة باطنية وتصنعها استعدادًا لقدوم هذا اليوم... غنيتُ غنوة وعد، برعشة غريبة في صوتي».

- جين تومر Jean Toomer[2]، فصل «أڤي» (Avey) من رواية «كين» (Cane)

الشاعر متحدثًا إلى بائعة هوى تغفو أثناء حديثه –

 عندما سار الشاعر جين تومر في جنوب الولايات المتحدة في بداية العشرينيات، اكتشف شيئًا غريبًا – نساء سمراوات ذوات روحانية شديدة وعميقة ولا واعية إلى درجة أنهن لم يعين الثراء الذي يمتلكنه. تعثرن عمياوات عبر حياتهن – كائنات ذوات أجساد وصلت إلى تلك الدرجة من الاعتداء والتشويه، إلى تلك الدرجة من البهتان والاضطراب المتألم، حتى أنهن لم يعتبرن أنفسهن مستحقات للأمل. في التجريدات الغيرية التي تحولت إليها أجسادهن بالنسبة للرجال الذين استخدموها، أصبحن أكثر من «أشياء جنسية»، وأكثر حتى من مجرد نساء – أصبحن «قديسات». بدلًا من أن يُنظر إليهن كأشخاص سليمي العقل، أصبحت أجسادهن مزارات مقدسة – والذي جاز تصوره كعقولهن أصبحت معابد صالحة للعبادة. ألقت تلك القديسات المجنونات نظرهن تجاه العالم بتهور مثل الطائشات – أو بهدوء، مثل المنتحرات؛ و«الإله» الكامن في نظرتهن كان صامتًا مثل الصخرة الضخمة.

 مَن كن تلك القديسات؟ تلك النساء المجنونات المخبولات البائسات؟

 البعض منهن، بلا شك، كن أمهاتنا وجداتنا.

 وهكذا بدين لجين تومر في الحرارة الثابتة التي تميِّز جنوب الولايات المتحدة بعد عصر إعادة الإعمار post-Reconstruction[3] – فراشات رائعة وواقعة في شرك عسل خبيث، يكدحن حياتهن في فترة وزمن لا يعترف بهن إلا بوصفهن «بغلات العالم». لقد حلمن أحلامًا لا يدري بها أحد – ولا حتى هن، بأي صورة مُحكمة – ورأين رؤى لا يستطيع أحد أن يفهمها. تجولن أو جلسن في الغيطان، يدندن التهويدات إلى الأشباح، ويرسمن أم المسيح بالفحم على حوائط المحاكم.

 غصبن عقولهن على الهجر من أجسادهن، وسَعَت أرواحهن المكافِحة للارتفاع، مثل الزوبعات الهشة من الطين الأحمر الجامد. وعندما وقعت تلك الزوبعات كجسيمات مشتتة على الأرض، لم يعزهن أحد. بدلًا من ذلك، أشعل الرجال شمعًا ليحتفلوا بالفراغ الذي بقى، كما يفعل البشر عندما يدخلون فضاءً جميلًا إن لم يكن شاغرًا لإعادة أحد الآلهة إلى الحياة.

 أمهاتنا وجداتنا. البعض منهن. تحركن بإيقاع موسيقى لم تُكتب بعد، وانتظرن.

 انتظرن يومًا يُعترف فيه بالشيء غير المعروف الذي كان في باطنهن؛ ولكنهن خمنَّ في ظلامهن، بشكل أو بآخر، أنهن سيكُنَّ قد متن منذ دهر يوم كشفهن. إذن بالنسبة لتومر، مشين وحتى جرين بحركة بطيئة. فإنهن لن يذهبن إلى أي مكان فورًا، ولم يكن المستقبل في متناولهن بعد. وأخذ الرجال بأمهاتنا وجداتنا، «ولكن لم يحظين على أي متعة من ذلك». كان ولعهن وهدوئهن معقدًا إلى هذه الدرجة.

رقدن شاغرات ومُراحات كالحقول الخريفية بالنسبة لتومر، ولم يكن وقت الحصاد على مرمى البصر أبدًا – ورآهن يدخلن في زيجات بلا حب وبلا نشوة، وأصبحن عاهرات بلا مقاومة، وأصبحن أمهات لأطفال، ولا يشعرن بالرضا.

 إن جداتنا وأمهاتنا لم يكن قديسات، ولكنهن كن فنانات؛ دفعتهن منابع الإبداع التي لم يكن لها تصريف في باطنهن إلى جنون مخدر، ولو إنه مُستنزِف. كن مبدعات، وعشن حيوات من الإسراف الروحي، لأنهن كنَّ يتمتعن بثروة كبيرة من الروحانية –وهي أساس الفن– إلى درجة أن دفعهن الإجهاد النامي عن تحمل موهبتهن غير المستخدمة وغير المستحبة إلى الخبل. كان الفرط في تلك الروحانية يمثل محاولتهن المشجية لتخفيف الروح إلى حملٍ قد تستطيع أن تحمله أجسادهن المستهلكة مهنيًا والمغتصبة جنسيًا.

 ماذا كان يعني لامرأة سمراء أن تكون فنانة في زمن جداتنا؟ في زمن أمهات جداتنا؟ إنه سؤال ذو إجابة قاسية بما يكفي لتستوقف حركة الدم.

 هل كان لديك جدة جدة عبقرية ماتت تحت سوط أحد المشرفين البيض الجهلة والمنحرفين؟ أم كان المطلوب منها أن تخبز البسكويت لامرأة متشردة وكسولة تسكن بجوار المستنقعات، بينما كانت روحها تصرخ لترسم غروب الشمس بالزيت أو سقوط الأمطار على المراتع الخضراء الهادئة؟ أم كان جسدها مكسورًا ومجبرًا على إنجاب الأطفال (الذين كانوا يُباعون في معظم الأحوال بعيدًا عنها) –ثمانية، وعشرة، وخمسة عشر، وعشرون طفلًا– بينما كانت متعتها الوحيدة هي التفكير في نحت أشكال متمردة بطولية بالحجر أو بالطين؟

 كيف بقي إبداع المرأة السمراء على قيد الحياة، عامًا بعد الآخر، وقرنًا بعد الآخر، بينما كان يمكن عقاب الشخص الأسمر قانونًا بتهمة القراءة والكتابة أثناء معظم السنوات التي أمضاها السُمر في أمريكا؟ ولم توجد حرية الرسم والنحت وتوسيع الذهن عبر الفعل؟ فافترضوا، إذا استطعتم أن تتحملوا تخيُل ذلك، ماذا كان يمكن أن تكون النتيجة إذا كان الغناء هو أيضًا ممنوعًا بالقانون. واستمعوا إلى أصوات بيسي سميث (Bessie Smith)، وبيلي هوليداي (Billie Holiday)، ونينا سيمون (Nina Simone)، وروبرتا فلاك (Roberta Flack)، وأريثا فرانكلين (Aretha Franklin)، وغيرهن، وتخيلوا ما إذا كانت تلك الأصوات مكمّمة إلى الأبد. هكذا يمكنكم أن تشرعوا في فهم حيوات أمهاتنا وجداتنا «المجنونة» و«المقدسة»، وأسى حيوات السيدات التي ربما قد تكون شاعرات وروائيات وكاتبات مقال وقصص قصيرة (عبر قرون)، والتي ماتت بينما اختنقت موهبتهن الحقيقية في سِرهن.

 وإذا كانت تلك هي نهاية القصة، فقد يكون الصراخ بصيغة قصيدة أوكوت پ'بيتك العظيمة[4] مشروعًا لنا، كما اقتبستها هنا:

يا نساء عشيرتي

فلنصرخ معًا!

تعالين،

فلننعى موت أمنا،

موت ملكة

الرماد الذي أنتجه

حريق كبير!

آه، إن هذا البيت ميت تمامًا

أغلقن الأبواب

بشوك من اللاكاري،

فأمنا

خالقة الكرسي انعدمت!

وكل الشابات

فنت في البر.

ولكن تلك ليست نهاية القصة، وكل الشابات لم تفن في البر بعد – أمهاتنا وجداتنا، ونحن أنفسنا. وإذا سألنا أنفسنا لماذا، وبحثنا عن الإجابة ووجدناها، سنعرف مَن وما نحن بالضبط، نحن السيدات الأمريكيات السمراوات، رغم كل المجهودات المبذولة لمحو ذلك من أذهاننا.

ومن ضمن الأمثلة التي لعلها تعطي سابقة لعمل أمهاتنا، وربما الأكثر إثارة للشجون والأكثر تعرضًا لسوء الفهم، هي فيليس ويتلي (Phillis Wheatley)، إحدى العبدات في القرن الثامن عشر.

 في كتاب «غرفة تخص المرء وحده»، كتبت ڤيرجينيا وولف إنه يجب على المرأة أن تمتلك شيئين حتى تتمكن من كتابة الرواية: غرفة تخصها (بالقفل والمفتاح)، والمال الكافي لإعانة نفسها.

ماذا نفعل إذن مع فيليس ويتلي، إحدى العبدات، والتي لم تمتلك حتى نفسها؟ تلك الفتاة السمراء الضعيفة الشاحبة التي كانت بحاجة إلى خادم شخصي أحيانًا – كانت صحتها هشة للغاية – والتي إذا كانت بيضاء، لاعتُبرت بسهولة متفوقة فكريًا على جميع النساء ومعظم الرجال في مجتمع زمنها.

 واصلت ڤيرجينيا وولف، بدون أن تتحدث عن فيليسنا طبعًا، بقول إن «لا بد لأي امرأة وُلدت بموهبة عظيمة في القرن السادس عشر [أضيفوا (القرن الثامن عشر)، أضيفوا (امرأة سمراء)، أضيفوا (وُلدت أو أصبحت عبدة)] أن تجنُّ، وتطلق على نفسها النار، وتنهي حياتها في إحدى البيوت المنعزلة خارج القرية، بوصفها نصف ساحرة ونصف عرافة [أضيفوا (قديسة)]، يخاف ويسخر منها المرء. لا حاجة للكثير من المهارة والفراسة للتأكد من أنه إذا كانت الفتاة موهوبة للغاية، وتحاول أن تستخدم موهبتها في الشعر، لكانت أُحبطت وأُعيقت عبر غرائز عكسية [أضيفوا (القيود، والبنادق، والسوط، وامتلاك الجسد بيد شخص آخر، والإخضاع لدين غريب)] إلى درجة أنها قد تخسر صحتها وسلامتها العقلية بالتأكيد».

 الكلمات الأساسية فيما يخص فيليس هي «الغرائز العكسية». فعندما نقرأ شعر فيليس ويتلي – وكذلك عندما نقرأ روايات نيلا لارسن (Nella Larsen) والسيرة الذاتية التي تبدو زائفة بشكل غريب لأكثر الكاتبات السمراء حريةً، وهي زورا هرستون (Zora Hurston) – تظهر الأدلة على «الغرائز العكسية» في كل شيء. كانت ولاءاتها منقسمة تمامًا، كما انقسم عقلها بلا شك.

 ولكن كيف يصبح الأمر مختلفًا؟ وهي مخطوفة منذ سن السابعة، وعبدة لبيض أثرياء مهووسين، والذين غرسوا فيها «وحشية» تلك القارة الأفريقية التي «نجّوها» منها، ويمكننا أن نتساءل إذا كانت تستطيع أن تتذكر موطنها كما عرفته أو كما كان بالفعل.

 ورغم ذلك، لأنها بادرت باستخدام موهبتها الشعرية بالفعل في عالم جعل منها عبدة، «أحبطت وأعيقت عبر غرائز عكسية (...) إلى درجة أنها... خسرت صحتها...». في أواخر سنوات عمرها القصير، وهي مُحمَّلة ليس فقط بالحاجة إلى التعبير عن موهبتها، بل أيضًا بـ«حرية» مُنعدمة المال والأصدقاء، ومحملة بأطفال صغار أُجبرت على العمل الشاق من أجل إطعامهم، لقد خسرت صحتها بالتأكيد. ماتت فيليس ويتلي وهي تعاني من سوء التغذية والإهمال، ومَن يعلم أي أنواع من العذاب العقلي التي عانت منه.

لقد مزّقت تلك الـ«غرائز العكسية» فيليس السمراء المخطوفة المستعبدة إلى درجة أنها تصف الـ«إلهة» فكاهيًا، بسخرية وقسوة – والإلهة تعبير شاعري عن الحرية التي لم تمتلكها. عرَّض هذا الوصف فيليس للسخرية لمدة أكثر من قرن في الواقع. عادةً ما يُقرأ الوصف بهدف إصدار حكم على ذكرى فيليس بوصفها حمقاء. كتبت:

تَقدُم الإلهة، تتجول ببشرة فاتحة كالآلهة،

يربط الزيتون والغار شعرها الذهبي.

أينما برقت قاطنة السموات

تنهض مفاتن بلا عدد ونعمات جديدة.

(الخط مزوّد)

من الواضح أن فيليس العبدة قد مشطت شعر «الإلهة» كل يوم صباحًا، ربما قبل أن تعد اللبن أو الغداء لسيدتها. أخذت صورها من الشيء الوحيد التي رأته مرفوعًا فوق كل الأشياء الأخرى.

 بأثر رجعي، يمكننا أن نسأل: «كيف تتجرأ؟»

ولكننا فهمنا يا فيليس، أخيرًا. فلن نقهقه عندما تُفرض علينا سطورك القاسية الدؤوبة المتناقضة. نعرف الآن أنك لم تكوني حمقاء ولا خائنة؛ أنك كنت فقط فتاة سمراء صغيرة وشاحبة، منتزعة من بيتك وبلدك، ومستعبدة؛ امرأة كافحت رغم ذلك لكي تغني غنوة موهبتها، ولو في أرض من البرابرة الذي مدحوك بسبب لسانك المرتبك. لا داعي لذكر ما غنيتيه، ولكننا سنذكر أنك أبقيت مفهوم الغناء حيًا عند هذا الكم من جداتنا.

***

تُسمى النساء السمراوات في الفولكلور (وهو يميز وضع المرء في المجتمع بدقة) «بغلات العالم»، لأن تم إعطاؤنا كل الأحمال التي رفض أن يحملها الآخرون – جميع الآخرين. سُمينا أيضًا «الماترياركات»، و«النساء الخارقة»، و«العاهرات السخيفة والشريرة». بدون ذكر «المُخصيات» و«ماما سفير»[5]. عندما رجونا تفهم حالتنا، شوه طبعنا؛ وعندما طلبنا العناية البسيطة، سُمينا بألقاب ملهمة وفارغة، ثم حبسنا في أبعد الأركان. عندما طلبنا الحب، أُهدينا بالأطفال. باختصار، تم تبليعنا حتى أعمالنا وموهباتنا الأكثر بساطة في سبيل الإخلاص والحب. أن تكوني فنانة وامرأة سمراء، حتى اليوم، هو ما يجعل وضعنا أدنى بأشكال كثيرة بدلًا من أن يرفعه – ورغم ذلك، سنكون فنانات.

 بالتالي يجب أن ننتزع من باطننا بلا خوف الإبداع الحي الذي لم يُسمح لبعض جدات جداتنا أن تعرفه، وننظر إليه ونشبهه بحياتنا. أؤكد على كلمة «البعض منهن»، لأنه من المعروف أن معظم جدات جداتنا عرفن حقيقة روحانيتهن، حتى بدون أن «يعلمنها»، وحتى لو لم يتعرفن عليها بشكل أعمق مما كان يحدث أثناء الغناء في الكنيسة – ولم يكن لديهن أي نية للتخلص من هذا الغناء.

 الطريقة التي فعلن بها ذلك، تلك الملايين من النساء السمراوات ما عدا فيليس ويتلي ولوسي تيري (Lucy Terry) وفرانسس هارپر (Frances Harper) وزورا هرستون ونيلا لارسن وبيسي سميث؛ وما عدا إيليزابيث كاتليت (Elizabeth Catlett) وكاثرين دانهام (Katherine Dunham) أيضًا – يرجعني إلى عنوان هذا المقال، «بحثًا عن حدائق أمهاتنا»، وهي حكاية شخصية إن لم تكن مشتركة بيننا جميعًا من حيث موضوعها ومعناها. لقد اكتشفت أننا عندما نفكر في عالم المرأة السمراء المبدعة بعيد المدى، كثيرًا ما يمكننا العثور سريعًا على الإجابة الأكثر صدقًا لأحد الأسئلة المهمة فعلًا.

في نهاية العشرينيات، هربت أمي من بيتها حتى تتزوج من أبي. كان الزواج، إن لم يكن الهروب، متوقعًا من فتيات في السابعة عشر من عمرهن. قبل أن تبلغ العشرين من العمر، كان لديها طفلين، وكانت حاملًا بالثالث. وُلدت أنا بعد خمس أطفال آخرين. وتعرفتُ على أمي هكذا – بدت امرأة ضخمة ناعمة ذات عيون ودودة، وقلما فقدت صبرها في بيتنا. كان يصفو مزاجها السريع العنيف لمرات محدودة في السنة، عندما كانت تتصارع مع مالك العقار الأبيض الذي اقترح، من سوء حظه، أن أولادها لا يحتاجون أن يذهبوا إلى المدرسة.

 فصَّلَت كل الثياب التي كنا نرتديها، حتى مريلات أخي. وفصَّلَت كل الفوط والملاءات التي كنا نستخدمها. وكانت تمضي الصيف كله في تخزين الخضروات والفواكه. وكانت تمضي مغارب الشتاء كلها في تصنيع لحافات تكفي لكل أسرتنا.

أثناء «يوم العمل»، عملت بجانب أبي في الحقول، وليس خلفه. كان يبدأ يومها قبل شروق الشمس، ولم ينته إلا متأخرًا بالليل. لم تكن هناك أي لحظة للجلوس بلا انشغالات، لتتكشف أفكارها الشخصية الخاصة، ولم يكن هناك وقت خال من المقاطعة – سواء كانت من العمل أو الأسئلة المزعجة لأولادها الكثيرين. ورغم ذلك، اتجهتُ إلى أمي –وكل أمهاتنا التي لم تكن مشهورة– لكي أبحث عن السر الذي غذّى تلك الروح الإبداعية المكممة والمشوهة في الكثير من الأحوال (رغم أنها نابضة بالحياة) التي ورثتها المرأة السمراء، وإلى اليوم تظهر فجأة في أماكن مذهلة وغير متوقعة.

 ولكنكم ستسألون متى حظت أمي، التي كانت منهكة في العمل، ببعض الوقت حتى تتعرف على الروح الإبداعية أو تهتم بتغذيتها؟

 الإجابة بسيطة إلى درجة أن الكثير مننا بقى أعوام قبل أن يكتشفها. نظرنا دائمًا إلى الأعلى، عندما كان علينا النظر إلى الأعلى – والأسفل.

 فمثلاً، في مؤسسة السميثسونيان (Smithsonian) بمدينة واشنطن، يوجد لحاف لا يشبه أي لحاف آخر في العالم. إنه يصوِّر قصة صلب المسيح عبر أشكال مدهشة وملهمة، ولكنها بسيطة ومميزة كذلك، وتُعتبر نادرة ولا تقدر بثمن. رغم أنها لا تتبع أي نمط معروف لصناعة اللحاف، ورغم أنها مصنوعة من قصاصات مشتتة لأطمار بلا قيمة، إنها وبوضوح من أعمال شخص لديه خيال قدير وشعور روحاني عميق. أسفل هذا اللحاف، رأيت ملحوظة تقول إنه صُنع بيد «امرأة سمراء مجهولة في ولاية ألاباما، منذ مئة عام».

إذا استطعنا أن نعثر على مكان تلك المرأة السمراء «المجهولة» من ألاباما، سيتضح أنها إحدى جداتنا – فنانة تركت أثرها عبر المواد الوحيدة التي كانت متيسرة لها، وعبر الوسيط الوحيد الذي كان مسموح لها باستخدامه بحكم وضعها في المجتمع.

 كما كتبت ڤيرجينيا وولف، في «غرفة تخص المرء وحده»:

«لا بد أنه وُجد نوع من العبقرية عند النساء، كما لا بد أنها وُجدت بين الطبقات العاملة [غيروها إلى (العبيد) و(زوجات وبنات المزارعين بالعمولة)]. من حين إلى آخر، يتأجج أحد مثل إيميلي برونتي (Emily Brontë) وروبرت برنز (Robert Burns) ويثبت وجوده [غيروهم إلى (أحد مثل زورا هرستون وريتشارد رايت (Richard Wright))]. ولكن بالتأكيد لم تصل إلى الورق. أما عندما يقرأ المرء عن ساحرة يتم إغراقها، أو امرأة يسكنها العفاريت [أو تحمل هالة (القدسية)]، أو امرأة حكيمة تبيع الأعشاب [ممارسات الهودو عندنا][6]، أو حتى رجل بارز للغاية وكان لديه أم، فأعتقد أننا نسير في رحاب روائي ضائع أو شاعر مكبوت أو إحدى الـ(جين أوستنات) الخرساوات ومعدومات المجد. أجل، إنني أبادر في تخمين أن (المجهول) الذي كتب عددًا هائلًا من القصائد بدون أن يمضيها كان امرأة في الكثير من الأحوال...».

وهكذا سلّمت أمهاتنا وجداتنا، بدون اسم في الغالب، الشرارة الإبداعية وبذرة الزهرة التي لم يأملن في رؤيتها هن، كالخطاب المغلق الذي لم يستطعن قراءته ببساطة.

 وهكذا كان الأمر بالتأكيد مع أمي أنا. عكس أغاني ماما ريني (Ma Rainey)، التي احتفظت باسم المؤلفة حالما انطلقت من فم بيسي سميث، لن تحمل أي أغنية أو قصيدة اسم أمي. ولكن عدد هائل من القصص التي أكتبها، والتي نكتبها جميعًا، هي قصص أمي. لم أنتبه كاملًا إلى هذا الأمر إلا منذ قريب. عبر سنوات من الاستماع إلى قصص أمي عن حياتها، لم أهضم القصص نفسها فقط، بل أيضًا هضمت شيئًا من الطريقة التي كانت تتكلم بها، وشيئًا من الإلحاح المتضمن في معرفة أنه يجب تسجيل قصصها، كما يجب تسجيل حياتها. ولهذا السبب في الغالب، الكثير مما كتبته يتحدث عن شخصيات لها مثيلات أكبر مني بكثير في الواقع.

ولكن لم يكن سرد تلك القصص، التي ترددت على شفاه أمي بشكل طبيعي كالتنفس، هي الطريقة الوحيدة لانشراح أمي الفنانة. فالقصص أيضًا عرضة للإلهاء والفناء بلا ختام. لا بد من المبادرة بالعشاء، ولا بد من جمع القطن قبل الأمطار الكبرى. لم تظهر إليّ الفنانة التي كانت ولا تزال أمي إلا بعد سنين طويلة. هذا هو ما لاحظته أخيرًا:

 مثل مام في «الحياة الثالثة لجرينچ كوپلاند»[7]، زينت أمي البيت المترهل الذي اضطررنا للمعيشة فيه بالزهور. وليس فقط بالقاعدة المخلخلة الريفية المعتادة لزهور الزينيا. إنها كانت تزرع حدائق طموحة، وما زالت تزرعها، وفيها أكثر من خمسين نوع مختلف من النباتات التي تزدهر بغزارة من أول مارس إلى آخر نوفمبر. قبل أن تغادر المنزل للذهاب إلى الحقل، كانت تروي زهورها، وتقص الحشيش، وتضع الملاءات الجديدة. وعندما كانت تعود من الحقل، ربما قد تقسم بعض تكتلات البصيلات، أو تحفر حفرة للنبت، أو تنزع وتعيد زراعة الورد، أو تقلّم بعض الفروع من شجيراتها أو شجرها الأطول – حتى حل الليل وساد الظلام بما لا يسمح بالنظر إطلاقًا.

بدا أن أي شيء كانت تزرعه قد ينمو بشكل سحري، وانتشرت شهرتها كزارعة زهور في ثلاثة مراكز محلية (counties). وبسبب إبداعها في الزهور، أرى حتى ذكرياتي عن الفقر عبر شاشة من البراعم – عبّاد الشمس والبتونيا والورد والداليا والفورسيثيا والسبيريا والعائق ورعي الحمام وما إليهم.

وأذكر أن كانت الناس تقدم إلى جنينة أمي حتى يأخذوا منها بعضًا من زهورها؛ وأسمع مجددًا المديح الموجه إليها، فأيما كانت الأرض المحجرة التي كانت تهبط عليها، حولتها إلى حديقة رغم ذلك؛ وحديقة تتلألأ بهذا القدر من الألوان، وتتمتع بهذا القدر من الأصالة في تصميمها، ومبهرة بهذا القدر من الحياة والإبداع أن الناس تقود سياراتها نحو بيتنا في جورجيا إلى اليوم –وهم غرباء تمامًا أو شبه غرباء– ويطلبوا أنهم يقفوا أو يمشوا بجوار فن أمي.

 إنني ألاحظ أن أمي تبتهج فقط عندما تشتغل بزهورها، إلى درجة أنها تصبح تقريبًا مختفية إلا بوصفها خالقة – يدٌ وعينٌ. إنها تمارس عملًا تحتاج إليه روحها. ترتب الكون في صورة مفهومها الخاص عن الجمال.

 يتسم وجهها أثناء تحضيرها للفن الذي يعد من موهبتها بملامح إرث من الاحترام تجاه كل ما يضيء الحياة ويعتز بها، وتترك هذا الإرث في سبيلي. لقد ورّثت احترام الاحتمالات – والرغبة في التقاطها.

 بالنسبة لها، وهي مكبوحة ومنزعجة بطرق عديدة، لا يزال كونها فنانة جزءًا يوميًا من حياتها. إن تلك القدرة على التمسك، حتى بأشكال بسيطة، ليس إلا عملًا تولته النساء السمراء لمدة طويلة جدًا.

هذه القصيدة لا تكفي، ولكنها شيء ذو قيمة بالنسبة للمرأة التي غطت الثقوب في جدراننا بعباد الشمس حرفيًا:

كانت سيدات آنذاك

جيل مامتي

البحة في صوتهن، والمتانة

في خطوتهن

بقبضات، بالإضافة إلى

الأيادي

كما كسرن الكثير

من الأبواب

وكوين

قمصانًا

بيضاء منشية

كما قدن

جيوشًا

جنرالات ذوات رؤوس مربوطة

عبر حقول

ملغمة

مطابخ

مفخخة

لتكتشف كتبًا

مكاتب

مكانًا لنا

كما عرفن ما كان الذي

لا بد أن نعرفه

بدون أن يعرفن صفحة

عنها

بأنفسهن.

مع إرشاد إرثي من حب الجمال واحترام القوة – بحثًا عن حديقة أمي، لقد اكتشفت حديقتي أنا.

وربما في أفريقيا منذ مئتين عام فاتوا، كانت توجد أم بهذا الشكل بالضبط، ربما رسمت زينات مبهجة وجريئة بالبرتقالي والأصفر والأخضر على جدران كوخها؛ وربما غنَّت بعذوبة فوق مباني قريتها – بصوت يشبه صوت روبرتا فلاك؛ ربما نسجت الحصائر الأكثر روعة والقصص الأكثر براعة بين جميع قصاصين القرية. ربما كانت هي نفسها شاعرة – رغم أن اسم ابنتها فقط هو الموقَّع على القصائد التي نعرفها.

 ربما كانت أم فيليس ويتلي فنانة أيضًا. ربما يتضح أثر الأم في أكثر من حياة فيليس ويتلي البيولوجية.


 [1]  أليس والكر (1944-) هي روائية وشاعرة وكاتبة أفرو أمريكية. وأشهر رواية لها هي «اللون الأرجواني»، والتي حازت على جائزة البوليتزر عام 1983، ومن رواياتها أيضًا «الحياة الثالثة لجرينچ كوپلاند» (1970) و«مريديان» (1976) و«سر امتلاك السعادة» (1992) و«تحت إضاءة ابتسامة أبي» (1998). وهي صاحبة مجموعة مقالات مؤسسة في أدب «النسائية» (womanism)، وعنوانها كعنوان المقال الافتتاحي: «بحثًا عن حدائق أمهاتنا» (1972).

[2]  جين تومر (1894-1967) شاعر وروائي أمريكي اشتهر بروايته الشاعرية «كين» (1923)، المكتوبة بناءً عن تجاربه كناظر مدرسة زراعية وصناعية للأفرو أمريكيين في مدينة سبارتا بولاية جورجيا، في جنوب الولايات المتحدة.

[3]  في السرد التاريخي المعتاد عن الولايات المتحدة، تعقب على انتصار الولايات الشمالية على الولايات الجنوبية في الحرب الأهلية الأمريكية عصر يسمى بـ«إعادة الإعمار» Reconstruction era، وهو يتميز بإعادة تنظيم الاقتصاد الشمالي والجنوبي بعد إنهاء نظام العبودية الرسمي. وتعقبت على عصر إعادة الإعمار الفترة المعروفة باسم قوانين «جيم كرو» (Jim Crow laws)، التي امتدت بين نهاية القرن الـ19 ومنتصف القرن الـ20، والتي تميزت بوضع قوانين عنصرية في جنوب الولايات المتحدة حتى تؤكد الفصل بين السكان البيض والأفرو أمريكيين، وترسخ للاضطهاد والعنف العرقي قانونًا.

 [4]  تشير الكاتبة إلى قصيدة «نشيد لاوينو» (Song of Lawino) للشاعر الأوغندي أوكوت پ'بيتك، والتي كُتبت أصلًا بلغته الأم «الأتشولي»، ثم تُرجمت إلى الإنجليزية.

[5]  تشير الكاتبة هنا إلى تصور نمطي عنصري عن المرأة الأفرو أمريكية بوصفها مرأة وقحة، وعدوانية، ومتعجرفة، وعنيفة، وتتسلط على زوجها بجميع الأشكال، إلخ. انتشر هذا النمط باسم «ماما سفير» أخذًا عن إحدى الشخصيات في برنامج الراديو المشهور «أموس وأندي» (Amos’n’Andy) في العشرينيات.

[6]  تستخدم الكاتبة مصطلح «root worker» هنا، وهي تعني حرفيًا «عاملات الجذور»، إشارةً إلى السيدات الأفرو أمريكيات التي تمتهن بعض الممارسات السحرية والعلاجية باستخدام الأعشاب والجذور المعروفة باسم «الهودو» (hoodoo) في جنوب الولايات المتحدة.

[7]  إحدى روايات المؤلفة.