كم هو شاق ألا تفعل شيئًا: ملاحظات حول الكسل

مقال: آرون شوستر*

نُشِر في Metropolis M في 2012.

ترجمة: طارق عثمان

*آرون شوستر: أستاذ الفلسفة بجامعة شيكاغو.

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


من فيلم The Big Lebowski

1. في مديح الفراغ من العمل

الفراغ من العمل أساسي قطعًا للفلسفة الغربية، بل بوسع المرء أن يضيف أنه أساسي للحضارة الغربية نفسها. المقابل اليوناني لكلمة leisure (وقت الفراغ من العمل) هو scholē، وهي الكلمة التي اشتُقَت منها الكلمة اللاتينية scola، والكلمة الألمانية والإنجليزية school (مدرسة). فالفراغ من العمل لم يكن عند الإغريق القدامى مسألة خمول وبطالة، وإنما كان يعني الانشغال بالتربية الفكرية خارج نطاق العمل الإنتاجي. وهنا، نلقى أيضًا فكرة «الفنون الحُرّة» (liberal arts؛ الفنون الخليق بالرجل الحر تعلُّمها)، أي الدراسات التي تكمن قيمتها فيها بحد ذاتها، في مقابل «الفنون المهنيَّة» (servile arts؛ الفنون الخليق بالعبد تعلُّمها)، أي تلك المتعلِّقة بالمهارات العمليَّة. ففي إيتيقا (أخلاقيات) أرسطو، أول نظر منهجي رفيع في موضوع الإيتيقا في التقليد الغربي، نجد أن التدبُر والتأمُل أرفع أشكال الإنجاز البشري. والحال أن هذا التراث الراسخ هو تحديدًا ما يجري تقويضه في أيامنا هذه. فالنيوليبرالية ليست مسؤولة عن الأزمة الحالية التي تعصف باليونان وحسب، وإنما هي مسؤولة عن أزمة يونانية عتيقة كذلك.(1) فالدعم العام للفنون الحرة (كل ما سوى العلوم ذات التوجه التجاري والتكنولوجي) آَخِذٌ في الاضمحلال أكثر فأكثر. وكل ما هو غير مربح اقتصاديًّا يُحَط من شأنه بكل عفوية، والفراغ من العمل، بالمعنى الأصلي الواسع للمصطلح، جرى تحويله إلى شأن خاص على نحوٍ صارم عوضًا عن اعتباره خيرًا عموميًّا. ربما كانت التدابير التقشُّفية القاسية التي فُرِضَت على اليونان في ظل هذه الأزمة بمثابة عقاب على تلك الخطيئة الفلسفية العتيقة في حق آلهة العقلانية الاقتصادية: خطيئة الفراغ من العمل. 

لقد تغيَّرت المشكلة برمتها في ظل الحداثة، مع بزوغ العامل (الشَغيِّل) بصفته الشكل السائد من الذاتية. فعوضًا عن أن يكون الفراغ من العمل بمثابة التحقُق الأشد رفعة للحياة وللرغبة، فُتِنَ الفلاسفة بالقوة غير المحدودة، على ما يبدو، للإرادة، على ناحية، وبنفيها التام على الناحية الأخرى. فالقوة الإنتاجية والإبداعية للإرادة مهدَّدة من داخلها بإمكانية المحو التام على يد القوة المدهشة للعطَالة، أو باختصار: على يد الكسل. ومن هنا قد يكون "الزوج المتنافر" الحديث، على نحو مثالي، هو ذلك الناتج عن التقاء اثنين من الشخصيات الروسية الأسطورية: أليكسي ستاخانوف (عامل المناجم السوفيتي، ت. 1977) وإليا أبلوموف (بطل رواية أبلوموف لإيفان جونتشاروف الصادرة في 1859). الأول بطل الإنتاجية الستاليني، عامل المناجم البارع في عمله على نحوٍ مذهل، الذي أضحى رمزًا على علو كعب الاقتصاد الاشتراكي (بالطبع كان ذلك محض كذب، لقد كان شخصًا مبغوضًا: فما أسوأ من أن يُبتَلى المرءُ بزميل عمل مُنتِج بشكلٍ مفرط؟). والآخر أرستُقراطي منكوب، يقضي اليوم بطوله في الفراش؛ حالم؛ متبطِّل؛ منقطع عن مطالب العالم ومشاغله التي لا تنقضي. إن أبلوموف هو الشخصية-المضادة الباراديجمية (النموذجية) لشخصية الأزمنة الحديثة. 

2. يقول العلماء أن المستقبل سيكون أكثر مستقبلية عما كان مُتوقَع له بادئ الأمر(2)

يقول المثل «الوقت من ذهب» (time is money): وهو ما يعني أن الوقت قابل للتحويل إلى قيمة، وهذه القيمة ليست سوى قدرته على أن يُستبدَل بوقتٍ آخر. هذه هي الكيفية التي يعمل بها الاقتصاد. فعندما أشتري سلعة، فأنا أشتري، في الأساس، الوقت الذي استغرقه إنتاجها، أي أنني أستهلك وقتَ إنسان آخر (وقت العامل الذي أنتجها). لكن الكسل أو التبطُّل مُنبَت الصلة عن هذا الاقتصاد، ولهذا السبب فهو بلا قيمة بتاتًا. لكن هذا يعني أيضًا أن من الممكن له أن يتمتع بأعلى قيمة، بقيمة لا تُضَاهى: الكسل هو لا-وقت ولكنه أيضًا وقت في أنقى صوره، وقت محض. 

لنتخيَّل فيلم خيال علمي تجري أحداثه في عالم قريب من عالمنا، لكن الوقت يُعامل فيه بوصفه سلعة، حرفيًّا. حيث تكون مُضطَرًا إلى أن تدفع ثمن الوقت كي تستمر عقارب الساعة في الدوران، تمامًا كما تدفع ثمن الغاز والكهرباء. وإذا ما تخلَّفتَ عن دفع فاتورة وقتك في الميعاد المحدد، تتوقف ساعتك، وتدخل في ضرب من الجمود أو تنتابك ضلالات زمنية غريبة، وتغدو غير متزامن مع بقية البشرية. والآن دعونا نفترض أن شركة واحدة عملاقة هي التي تتحكم في تشغيل الوقت وتوزيعه وبيعه. وحينها سيكون السؤال الكبير التالي: من أين يأتي هذا المورد الطبيعي الثمين؟ من أين تحصل شركة الوقت على الوقت الذي تبيعه؟ بعد مغامرة رومانسية كبيرة، وعند نهاية الفيلم، تنكشف الأمور ويُجاب على السؤال، بطريقة فيلم سويلنت جرين: «مِن الناس!».(3) فالشركة الشريرة كانت تستخدم تكنولوجيا سرية تمتص بواسطتها الوقت مباشرةً من سواد الناس، من هؤلاء المساكين، حتى تستمر عجلة الحضارة في الدوران. ولم يلاحظ أحد ذلك قط. والحال أن هذا الوضع (الخيالي) لا يختلف كثيرًا عن الواقع (الفعلي) الذي نعيش فيه اليوم.

3. بارتلبي مدير شركة (4)

فيلم المكتب Office Space (من إخراج مايك جدج، 1999)، هو فيلم هوليوودي يصور دراميًّا مسألة الكسل في علاقته باغتراب العمل المعاصر على نحو ظريف جدًا. يعمل البطل، بيتر، في وظيفة مكتبية بائسة في إحدى شركات البرمجة حيث يقضي أيامه يحلم بألا يفعل شيئًا. في أحد الأيام، ونزولًا على رغبة خليلته البغيضة، يذهب لتلقي علاجًا بالتنويم المغناطيسي، لكن قبل أن يفيق من التنويم أصيب المعالج بسكتة قلبية ومات. ومتروكًا تحت تأثير سحر ضرب من التنويم الأبدي، تحرر بيتر أخيرًا. إذ غدا يتمتع الآن بالشجاعة التي تلزمه لكي يفعل ما يريد حقًا أن يفعله: ألا يفعل شيئًا. والمفارقة الأشد سخرية أنه بمجرد ما حقق البطل حلمه وأصبح كسولًا (راح يتغيَّب عن الاجتماعات، ويقضي أيامه في صيد السمك، ويلعب بألعاب الفيديو في المكتب، إلخ)، تحسَّن أداؤه الوظيفي جدًا، بل ونال ترقية حتى. 

إنه بارتلبي ما بعد حديث بحق! في رواية هرمان ملفل، يعمل بارتلبي نسَّاخًا في أحد مكاتب المحاماة بوول ستريت، قرر في أحد الأيام أن يتوقف فجأة وبشكل غامض عن العمل. هو لم يرفض بالضبط أن يعمل، وإنما كلما طُلِب منه القيام بشيء يرد قائلًا I’d prefer not to ، «أفضل ألا»، الأمر الذي أدى إلى فوضى عارمة في المكتب، واضْطُرَت الشركة إلى نقل مقرها، لكن بارتلبي «فضَّل ألا» ينتقل، ولم يحرك ساكنًا، فأُرسِل، في نهاية المطاف إلى السجن. وهناك «فضَّل ألا» يأكل ومات. مثل أبلوموف، يُعَدّ بارتلبي بطل-ضد آخر للحداثة. والحال أن هذه القصة القصيرة الغريبة والمدهشة قد حظت في السنوات الأخيرة بالكثير من الاهتمام الفلسفي، الذي تركز على مسألة سلبية الإرادة، أو بالأحرى على التعليق الغريب للإرادة الذي تدل عليه عبارة «أفضل ألا». فالبعض قد رأى في قصة ملفل درسًا في الفن الرهيف للمقاومة والانفصال، بل وجعل من بارتلبي مُخلِّصًا مسيحانيًّا للبشرية المغتربة عن نفسها. لكن في المناخ الشركاتي المعاصر، من المرجح أن يزدهر بارتلبي. فمنذ فترة، تصدَّر قوائم المبيعات كتاب «أهلًا بالكسل» (Hello Laziness, 2004) للمحللة النفسية اللاكانية كورين ماير، والذي يحمل العنوان الفرعي التالي: «فن وأهمية القيام بأقل ما يمكن في مكان العمل». أغلب نصائح الكتاب ظريفة على نحو بائس، مثلًا عندما تقول: «لا مغزى لما تفعله. إذ يمكن استبدالك بين عشية أو ضحاها بأي أحمق جالس بجوارك. لذا عليكَ أن تعمل بأقل قدر ممكن، وأنفق الوقت (ليس الكثير منه، إذا ما استطعتَ إلى ذلك سبيلًا) في تقوية شبكة علاقاتك الشخصية، حتى لا تُمَس عند أول إعادة هيكلة قادمة». قد يقول البعض أن ماير متهكمة، لكني أرى أن ما يفعله كتابها/بيانها هذا أنه يفضح التهكمية التي تحكم مكان العمل بنجاحٍ حاليًا بالفعل. فإيتيقا العمل ما بعد الحديثة - في مقابل إيتيقا العمل البروتستانتية - هي ضرب من الكسل المُدَار والمُتسَامح معه. لقد تحوَّل شخص بارتلبي الملغز والتراجيدي إلى مهزلة مُعمَّمة، إلى سخف حياة الشركة المعاصرة.

4. الكسل والحرية

نحن نميل للتفكير في الكسل باعتباره محض عدميَّة خاملة، لكن هذا التفكير نفسه أحد أعراض أمْثَلَتِنا (idealization) للعمل. إذ يمكن أن يُربَط الكسل بالحرية على نحو أرستقراطي، بصفته إسرافًا محضًا. وبهذا المعنى، لا يعود الكسل افتقارًا للإرادة أو نقصًا فيها، وإنما يغدو ضربًا من البذخ. فالدليل الحقيقي على سيادة المرء على الوقت هو قدرته على تبديده. وهذه أيضًا الطريقة المُثلى للاحتيال على الموت. فغالبا ما يُقال إن الحياة قصيرة لذلك عليك ألا تضيعها - اهتبل اليوم، استفد بأقصى ما يمكنك من كل لحظة. لكن أن تعيش على هذا النحو يعني أن تعيش محكومًا بموتٍ مؤبد. وإذا ما شئتَ أن تتذوق شيئًا من طعم الخلود عليك أن تفعل نقيض ذلك تمامًا: كُن غير منتِج، لا تفعل شيئًا، ابتهج بتبديد وجودك.

لكن يمكن، أيضًا، ربط الكسل بالحرية بمعنى أكثر إيجابية وإنسانية، الكسل بصفته تنمية للحياة من أجل الحياة نفسها خارج القفص الحديدي للحسابات الاقتصادية. أحد أجمل الدفاعات عن الكسل بصفته أسمى تعبير عن الاستقلالية، هو كُتيب بول لافارج (الصحفي الفرنسي الثوري، زوج لورا بنت كارل ماركس، ت. 1911) الموسوم بـ«الحق في الكسل» (1880). إنه نص مدهش حقًا. فيه يهاجم لافارج نفاق إيتيقا العمل القهرية، ويدعو إلى إحياء المثال الفلسفي الإغريقي للفراغ من العمل. وفي مواجهة وعَّاظ الفضيلة الأخلاقية للعمل، يستشهد لافارج بأن إله الكتاب المقدس «قد ضرب لعُبَّاده المثل الأعلى في الكسل؛ بعد ستة أيام فحسب من العمل، استراح إلى الأبد».

5. كم هو مرير ألا تفعل شيئا

لقد عبَّر قاطع الطريق المكسيكي في فيلم The Good, The Bad, and The Ugly (من إخراج سرجيو ليوني، 1966) عن المسألة على أحسن وجه حينما قال: «إذا ما كنت تعمل لكي تعيش، لماذا تقتل نفسك في سبيل العمل؟». هذا القلب لعلاقة الحياة بالشغل مُعبَّر عنه، أيضًا، بسخريةٍ رائعة في هذا الحوار من رواية Froth on The Daydream، «رغوة فوق حلم اليقظة» لبوريس فيان (الكاتب الفرنسي متعدد المواهب، الروائي والشاعر والمسرحي والموسيقار ، ت. 1959): 

«- لكن هل هي غلطتهم أن ظنوا أنه من الجيد أن يعملوا؟

- لا، قال كولن، ليست غلطتهم. وإنما لأنه قد قيل لهم: العمل مقدس، إنه حَسَن، إنه لطيف، إنه ما يهم قبل أي شيء آخر، وإن وحدهم الذين يعملون لهم الحق في أي شيء. العيب الوحيد أن الأمور مُعدَّة بحيث يعملون طوال الوقت، بما لا يسمح لهم بالاستفادة من العمل.

- لكنهم بذلك يكونون أغبياء، ردت كلوي.

-نعم، هم أغبياء، قال كولن. ولذلك هم يتفقون مع أولئك الذين جعلوهم يعتقدون أن العمل هو أفضل ما هنالك. الذين خَلَّصوهم من التفكير ومن إيجاد سبيل للتقدم وللتوقف عن العمل.

- دعنا نتحدث عن شيء آخر، قالت كلوي. فهذه المواضيع منهِكة جدًا. أخبرني هل أعجبك شعري؟»

غالبًا ما نرى أن الكسل حالة طبيعية نوعًا ما، بينما العمل شيء ينبغي أن نُكره على القيام به. نحن كسالى بحكم الطبيعة، ولا نعتاد على العمل إلا تحت وطأة إملاءات المجتمع. لكن ماذا لو أن هذه العادة قد ترسَّخت تمامًا بحيث أصبح الوضع معكوسًا الآن؟ ماذا لو أن الانشغال قد أضحى وضعنا الطبيعي، بينما الكسل شيء نفيس لا يمكن تحقيقه إلا بمشقة؟ سيكون من العسير تمامًا ألا يفعل المرء شيئًا، أن يوقف ذلك الدافع الداخلي الذي يحثه، دونما رحمة، على العمل.

6. أفضل حكومة لتولي الأزمة

لقد طالب أعضاء منظمة العمال الصناعيين IWW (المؤسَّسة في شيكاغو عام 1905) بالفعل في عشرينيات القرن المنصرم بأن يكون العمل لمدة 16 ساعة على مدار الأسبوع، بموجب 4 ساعات في اليوم لمدة أربع أيام. ونحن ننسى في بعض الأوقات، أن نظام عملنا الراهن لمدة 40 ساعة في الإسبوع، لم نظفر به إلا بعد صراعات مريرة في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ضد ظروف عمل من شأننا أن نعتبرها اليوم ضربًا من العبودية. بالطبع سيبدو من السخف أن ندافع اليوم عن أسبوع عمل ساعاته أقل، بينما النظام الاقتصادي على شفا جرفٍ هار. كيف لنا أن نتحمل كلفة ذلك؟ كيف سيكون رأي «الأسواق» في ذلك؟(5)

كما لاحظ بعض المحللين، علَّمتنا السنوات الأخيرة من تعامُل أوروبا وأمريكا مع الأزمة المالية (أزمة 2009) أن ما تعنيه النيوليبرالية حقًا هو: الاشتراكية للمصرفيين، والرأسمالية لكل مَن سواهم. ففي مقالة له بعدد سبتمبر 2011 من مجلة London review of books، لاحظ جون لانشستر، وهو مؤلف أحد أفضل الكتب عن الأزمة المالية (كتاب how to speak money )، أن البلد الأوروبي الذي حقق أعلى معدل نمو في ذلك العام هو بلجيكا، وهو البلد الذي ظل، بسبب الصراعات السياسية الداخلية، بلا حكومة فيدرالية لما يربو على العام. وهو ما عنى أن ميزانيته ظلت كما هي في الأساس، بما أنه لم يتمتع أي طرف سياسي بالسلطة التي تخوِّل له فرض تدابير تقشفية. وبذلك يَخلُص لانشستر إلى أنه من الأفضل في الأزمة الحالية ألا يكون لديك حكومة؛ سيجنبك ذلك، على أقل تقدير، تخفيضات الإنفاق الغبية.

7. في سبيل تاريخ للبطالة

كتابة تاريخ للتبطُّل بصفته مِثالًا فنيًّا وفلسفيًّا من شأنه أن يؤلف دراسة ماتعة، بداية من التأملات المرحة للفيلسوف عند أرسطو وصولا إلى مارسيل دوشامب (الرسام والنحات الفرنسي، ت. 1968) الكسول رفيع الطراز، الذي اخترع الممارسة الإبداعية الأشد خلوًا من الشغل في تاريخ الإستاطيقا: The Readymade، الجاهز في متناول اليد [حيث يعمد الفنان إلى أشياء جاهزة، عادية تمامًا ومتاحة تمامًا، كمروحة أو كرسي ... إلخ، ويعرضها باعتبارها عملًا فنيًّا، دون أن يكلف نفسه عناء نحت أي شيء أو رسم أي شيء]. وقد يكون كل من هيجل وماركس فصلين مهمين في هذا التاريخ، ولعلّي أضيف إليهما أيضًا هايدجر - فماذا تكون الفلسفة الهايدجرية، بحبها لحياة الأرياف البطيئة، إن لم تكن فلسفة كبرى للكسل، محاولة لتنشيط الـ vita contemplativa أو «حياة التأمل والتدبر» الإغريقية في سياق العالم الحديث المُهَيْمَن عليه بواسطة التكنولوجيا وميتافيزيقا الإنتاج، إعادة تفكير في الكسل بصفته letting-be، «عدم تدخُّل» يطلق سراح الكينونة من قبضة الذاتية ومن إرادتها العنيفة؟ يمكن للكسل أيضًا أن يكون ثيمة رجعية، لكنه موضوع واسع، وسيحتاج تصنيفه إلى بذل جهد كبير، وبالتالي لن أفعله، وإنما سأقدم طرحًا بسيطًا عوضًا عن ذلك: ألا يمكن لعبارة «الكسول الموهوب» أن تكون تعريفًا جيدًا للبشر بعامة؟ فبجمعها بين النقص والمهارة، تستدعي أسطورة أفلاطون عن الحب المذكورة في محاورة المأدبة: وُلِدَ الإله إيروس من اتحاد بينيا (Penia) وبوروس (Poros)، أي الفقر والغنى، وبذلك هو يجمع بين طبيعتيهما المتقابلتين في الظاهر. لعل الكائن البشري هو ذلك الحيوان الذي لا يفعل شيئًا، لكن على نحوٍ جيد للغاية. 

8. الكسل بوصفه أيديولوجيا

الكسل مقولة أيديولوجية أساسية بالطبع، فعادة ما يقال أن أهل الجنوب كسالى، يعيشون عالة على العمل الشاق للآخرين. وطبقًا لأنثروبولوجيا شعبية تعود إلى مونتسكيو، فإن هذا الأمر متعلق بالمناخ. لكن لنلاحظ أن «الجنوب» مقولة نسبيَّة. فلدينا الاقتصاديات الأوروبية الشمالية الصناعية في مقابل الاقتصاديات الجنوبية الكسولة المثقلة بالديون، لكن وفق هذا المنطق، سيكون جنوب كل بلد كسول ضرورة: الفلمنكيون مقابل الفالنيون (مجموعتين في بلجيكا)، شمال إيطاليا مقابل جنوب إيطاليا، الإنجليز مقابل الإيرلنديين، وألمانيا مقابل كل ما سواها. فلو كان القطب الشمالي مأهولًا لوجدنا أناسًا على قمة جليد ثلجية يتذمرون من الجنوبيين جامعي الطحالب عديمي النفع الموجودين أسفلهم قليلًا على السهل الجليدي. 

 إن الاتهام بالكسل في الخطاب السياسي يكشف عن شيء واحد فحسب: الكسل الفكري الذي يعاني منه أولئك الذين يرفعون هذه التهمة في وجه غيرهم. فعن طريق تحويل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية إلى مشاكل أخلاقية ونفسية نزيل عن أكتافنا عبء محاولة فهم البنى والديناميكيات المعقدة للعالم الذي نعيش فيه. وحقًا إذا كان ثمَّة فئة واحدة تستحق بالفعل أن توصف بـ«الكسولة»، فلن تكون فئة العمال ولا المهاجرين ولا العاطلين عن العمل وإنما فئة الرأسماليين ذوي الأموال. إنهم كسالى على نحو موضوعي، هم الطُغمة المُرفَّهة التي تعتاش على قوى المجتمع المنتجة. بالطبع هم مشغولون طوال الوقت، لكن كل هذه الفاعلية المفرطة والمسعورة هي، في الأساس، رفض للمشاركة في إنتاج الحياة الاجتماعية، والعيش عوضًا عن ذلك عالة على المضاربة، أي على المقامرة. ربما كان أغرب مشهد سياسي اليوم هو القوة الهائلة التي تحتكم عليها وكالات وشركات التصنيف الائتماني، دونما أية رقابة عامة، والتي يمكنها بتلويحة واحدة من عصاها الخافضة للرُتبة أن تؤثِّر بشكلٍ خطير على كل الاقتصاديات الدولية. بعد الأزمة المالية في الولايات المتحدة، استُدعَت هذه الشركات للوقوف أمام الكونجرس كي تفسر تقييماتها الخاطئة حتى لا نقول المحتالة، ولقد دافعت عن نفسها بالقول إن هذه التقييمات لم تكن سوى «مجرد آراء». إن هؤلاء هم سادة الكسل الجدد على ظهر الكوكب.


(1) الإشارة هنا إلى الأزمة الاقتصادية التي عانت منها اليونان بداية من 2010، ووتّرت علاقتها بالإتحاد الأوروبي، الذي قدَّم لها حزم مساعدات مالية ألزمتها بإجراءات تقشفية في غاية القسوة.

(2) اقتباس من على لسان كريستا ناو، ممثلة البورنو، في فيلم (Southland Tales (2006—التي أضافت كلمة الآن إلى اسمها، لتمتاز عن زميلة عمل عجوز تحمل اسم كريستا كذلك؛ ولتقول أنها مستعدة للمضاجعة على الفور، ليس غدًا أو بعد أسبوع، وإنما الآن.

(3) سويلنت جرين (Soylent Green)، فيلم ديستوبيا أمريكي، عُرض في 1973. وتدور أحداثه في عام 2022، حيث سيؤدي التلوث الشديد رفقة الكثافة السكانية إلى كارثة مناخية سيترتب عليها نقصٌ شديد في الغذاء على مستوى العالم. وسويلنت للصناعات (كلمة سويلنت عبارة عن دمج لكلمتي صويا soy وعدس lentil) هي الشركة الكبرى التي توفر الغذاء لنصف سكان العالم عن طريق تخليقه صناعيًّا، ومن منتجاتها السويلنت الأحمر، والسويلنت الأصفر، لكن آخر وأهم منتج لها هو السويلنت الأخضر (ومنه اسم الفيلم) وهو منتج بروتيني تزعم الشركة أنه مُصنَّع من عوالق المحيطات، لكن (وهذا موطن الشاهد) في نهاية الفيلم يُكتشف أنه مصنوع من بروتين بشري.

(4) بطل رواية هرمان مِلفل القصيرة: بارتلبي النسَّاخ: قصة من وول ستريت (صادرة بالعربية بترجمة زوينة آل تويّه، عن دار نينوى، 2010)، صاحب المقولة ذائعة الصيت: I’d prefer not to، «أفضل ألا»، والتي وظَّفها فلسفيًّا وسياسيًّا الكثير من الفلاسفة المعاصرين كجيل دولوز وجورجيو أجامبن وسلافوي جيجيك وأنطونيو نيجري ومايكل هاردت، وانظر ما يلي من المتن

(5) يتمتع السوق بمكانة "عقلانية" في النظام الرأسمالي، فهو يفكر ويقدر ويقرر بمفرده، بحيث لا يحتاج إلى أي تدخل منّا.