الحكم المتطفِّل
مقال لشهاب الخشاب
المقال خاص بـ Boring Books
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.
إيه لازمة السجون؟ في التصور الشائع، السجن هو الفضاء اللي بيحبس المجرمين الأشرار اللي بيضُروا المجتمع، سواء كانوا قتّالين قتلا أو حرامية أو الناس اللي بتهدف لإسقاط نظام الحكم (منهم لله). السجن بالمعنى ده محطة من محطات المنظومة القانونية الواسعة اللي بتبدأ بالجناية وبالتحقيق، وبتنتهي بالحكم وبالحبس. المجرم المحبوس ما يقدرش يضُر حد طالما هو في السجن، والعدل بيتحقق كل مرة واحد منهم بيخش القفص. التصور ده عن السجن والمساجين تصور أخلاقي، وبيجرَّد فضاء السجن من ملامحه الخاصة، وكأنه عبارة عن أربع حيطان بيحبسوا المجرمين عشان يتعاقبوا وخلاص.
طبعًا بما إن البشر بنوا السجون في الواقع، فالسجون بتاخد من ملامح السياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي اللي اتبنت فيه. وبالتالي السجن مش بس فضاء فارغ، وإنما فضاء مُصمَّم عشان يحقق أغراض سياسية واجتماعية واقتصادية محددة. في كتاب «المراقبة والمعاقبة» مثلًا، الفيلسوف ميشيل فوكو بيربط بين ظهور السجون الأوروبية الحديثة في القرن الـ19 وتطور المؤسسات الانضباطية زي المدرسة والجيش ومستشفى الأمراض النفسية. المؤسسات دي بتراقب وبتضبط أجساد البشر عشان يبقوا بني آدمين خاضعين للسلطة، والفضاءات المؤسسية نفسها بتشارك في ضبط جسد البني آدمين.
نظرية فوكو بتربط السجن بالدولة الحديثة، ولكنها ما بتحللش علاقة السجن بالاقتصاد السياسي. وفي حالة الولايات المتحدة المعاصرة مثلًا، ما نقدرش نفصل بين المصالح الاقتصادية الكبرى اللي بتستثمر في بناء السجون من ناحية، والزيادة الهائلة في عدد المساجين من ناحية تانية، وتحديدًا المساجين الأفرو أمريكيين. النشطاء والناشطات اللي بينادوا بإلغاء السجون زي أنجيلا ديڤيس (Angela Davis) وروث ويلسون جيلمور (Ruth Wilson Gilmore) بيوصفوا علاقة السجن بالاقتصاد باستخدام مصطلح «مُجمَّع السجون الصناعي» (prison-industrial complex)، قياسًا على «المُجمَّع الصناعي العسكري» (military-industrial complex). زي ما الحكومة الأمريكية بتتعاون مع الرأسمالية الكبرى عشان تنتج وتبيع السلاح، سواء كان عبر الترويج للحروب الإمبريالية الدائمة أو فتح أسواق السلاح الداخلية، كذلك الحكومة والشركات الكبرى بتتعاون عشان تبني أكبر عدد ممكن من السجون، وتملاها بالناس المهمشة طبقيًا وعرقيًا.
في كتاب «الرأسمالية الاعتقالية» (Carceral Capitalism)، المفكرة جاكي وانج (Jackie Wang) صاغت تفسير مكمِّل للعلاقة بين الرأسمالية ونظم الحبس في الولايات المتحدة. فكرة الاعتقال عند وانج مش مرتبطة بالقبض على الجاني وبس، وإنما بتعبَّر عن منظومة واسعة بتراقب البشر وبتحبسهم، سواء كان جوه السجون أو براها. تحليل وانج بيقسِّم تاريخ الدولة الأمريكية إلى 3 مراحل: أولًا دولة الضريبة، ثم دولة الدين (debt state)، ثم الدولة المفترسة (predatory state). دولة الضريبة هي اللي بَنِت نظم النقل والصحة والتعليم المجاني بعد الحرب العالمية الثانية، عبر توزيع ضريبي بيخدم قطاع أوسع من الجماهير عن اللي كان متاح سابقًا. النظم المجانية دي بدأت تتفكك وتتخصخص في دولة الدين في السبعينيات، تحت دعاية إن السوق الحر يقدر يحل مشاكل البيروقراطية الحكومية كلها، وبالتالي الحكومة اتداينت للبنوك والشركات الخاصة عشان تنفذ مشاريعها.
أما الدولة المفترسة، فهي بتستخدم أجهزة القمع المباشر زي الجيش والشرطة عشان تفترس الناس اللي تم تهميشها خلال المراحل التاريخية السابقة. الافتراس ده بياخد شكل الاستيلاء على أموال المهمشين من ناحية، وتجريم أبسط أفعالهم من ناحية تانية. يعني الدولة المفترسة ما بتحلش محل دولة الضريبة والدين، وإنما بتستغل الناس اللي اتهمِّشت بسببهم، وبتستخرج موارد مادية من الناس دي بالقوة والعافية. في تعبير وانج، نظام الحكم في الدولة المفترسة بقى «مُتطفِّل» (parasitic)، وكأن الدولة تحوّلت إلى برغوت ضخم بيمص دم الشباب والشابات عشان يقدر يستمر، وبيخصص مجهوده لاعتقال أكبر عدد ممكن من المهمشين.
وانج بتقول إن الحكم المتطفل عنده خمس خصائص. الخاصية الأولى هي حالة الطوارىء المالية. زي ما حالة الطوارئ العسكرية بترفع القانون العادي وبتحطه في إيدين السلطة السيادية باسم الحفاظ على القانون، حالة الطوارئ المالية بترفع ضوابط الميزانية الحكومية المعتادة وبتحطها في إيدين «مديرين الطوارئ» (emergency managers). المديرين دول بياخدوا قرارات حاسمة عشان يضبطوا الميزانية ماليًا، بغض النظر عن العواقب الاجتماعية أو السياسية لقراراتهم. ده بالظبط اللي حصل في فضيحة مدينة «فلينت» (Flint) في ولاية ميشيجان سنة 2014، لما المديرين قرروا يحوّلوا مجرى مياه الشرب في المدينة للنهر المحلي، توفيرًا للموارد الحكومية، وبالتالي تسببوا في تسميم آلاف من السكان بالرصاص، وأغلبية المتضررين كانوا أفرو أمريكيين (والوضع ده لسة قائم في فلينت إلى اليوم).
الخاصية التانية للحكم المتطفل هي الـ«أتْمَتة» (automation)، بمعنى تحويل آليات مراقبة السكان إلى آلات بتشتغل بشكل رقمي وأتوماتيكي. وانج بتوصف مثلًا إزاي البوليس بقى يعتمد على الكمبيوترات والخوارزميات عشان يراقب السكان المهمشين ويتنبأ بجرايمهم. بما إن البوليس الأمريكي بيشوف العالم عبر تصنيفات عنصرية، وبيتوقع إن الناس اللي هترتكب الجرايم همَّا السكان المهمشين والأفرو أمريكيين تحديدًا، فالخوارزميات اللي بيستخدموها نفسها بتعيد إنتاج العنصرية والطبقية الضمنية في النظام البوليسي. بالتالي الأتمتة بترسَّخ للنظام العرقي الطبقي في صورة آلات وخوارزميات تبدو حيادية، وبتشجع لاعتقال الأجساد الأفرو أمريكية حتى قبل ارتكابهم لأي جريمة.
الخاصية التالتة هي نهب واستلاب أموال المواطنين، مش بس بمعنى إن الضرائب اللي بيدفعوها بتتوزع على الأجهزة اللي بتقمعهم من أساسه، وإنما كمان بمعنى إن الأجهزة القمعية بتسرق الناس مباشرةً بالقانون. وانج بتوصف مثلًا إزاي الحكومات المحلية بتفرض غرامات عالية على بعض المخالفات اليومية البسيطة عشان تحصَّل أموال إضافية، وبتجرَّم الناس اللي ما بتدفعش الغرامات دي في الميعاد، مهما كانت الجريمة تافهة. طبعًا في المناطق الفقيرة وتحديدًا المناطق الأفرو أمريكية، الناس اللي ما تقدرش تدفع على طول بتتعرَّض للقبض، وبيتفرض عليها غرامات عالية برضه (مثلًا عشان يقدروا يخرجوا من الحبس بكفالة أو عشان يدفعوا تَمَن بعض الخدمات في الحبس). لذلك سكان المناطق المهمشة بيلاقوا نفسهم في دائرة لانهائية من الاعتقال والحبس والديون.
وانج بتشرح إن الـ3 خصائص الاقتصادية دي مش كافية عشان تشرح إزاي الرأسمالية الاعتقالية بتستهدف الشباب الأفرو أمريكيين تحديدًا، دونًا عن المناطق المهمشة البيضا مثلًا. وهنا وانج بتقترح إن الحكم المتطفِّل في الولايات المتحدة عنده خاصيتين إضافيتين، وهمَّا الحبس والعنف غير المبرر. الخاصيتين دول مرتبطين بتاريخ القمع العرقي الطويل في أمريكا، اللي بيستهدف الأجساد السمرا بشكل رئيسي عبر العنف المنظم والعشوائي. العنف ده مالوش تبرير اقتصادي بحت، بمعنى إن تَمَنه المادي أكبر من فائدته المادية بكتير. رغم إن السجون بتنتج قيمة مالية مُربحة، في حالة العمل بالسخرة أو دعم حركة بناء السجون الخاصة مثلًا، وانج بتشرح إن القيمة دي ما تستاهلش حجم الإنفاق الحكومي المهول في القمع العرقي، إلا إذا اعتبرنا إن الدولة بتقدّر القمع ده لأسباب غير اقتصادية، وهي إن العنف ضد الأجساد السمرا جزء لا يتجزأ من نشأة الرأسمالية الأمريكية من زمن العبودية إلى الآن.
الخلاصة إن السجون مش مجرّد حيطان بتحبس الناس، ولا مجرّد فضاء لمراقبة وعقاب المجرمين، وإنما هي فضاء رأسمالي اعتقالي، بيحبس عدد كبير من المهمشين عشان ينتج قيمة إضافية على حساب أجسادهم ويمارس العنف تجاههم في نفس الوقت. في إطار نظام رأسمالي بيهمّش الناس طبقيًا وعرقيًا، السجون بتتحوّل إلى جزء من منظومة أوسع لافتراس الأجساد الأفرو أمريكية والتطفُّل عليها. وطالما الدولة بتمص دم المهمشين زي البراغيت، من المنطقي إنهم ما يسيبوش دمهم يسيل ببلاش.