لقاء لم يكن في الحسبان

يوهان بيتر هيبل

ترجمة: أحمد فاروق

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه

*يوهان بيتر هيبل (1760-1826)، كاتب وشاعر ألماني اشتهر بكتابة الحكايات والملح والنوادر، وأشهرها «حكايات الرزنامة». وقد اخترنا منها أبرز قصتين تركتا علامة واضحة في تاريخ الأدب الأوروبي. «لقاء لم يكن في الحسبان» اعتبرها الكاتب والمفكر إرنست بلوخ «القصة الأجمل في العالم» وهي أيضا القصة الأكثر تكثيفًا من حيث الزمن، حيث تروى أحداث خمسين عامًا في نحو صفحة واحدة، في مقابل سرد بروست في «البحث عن الزمن المفقود» لأحداث ثلاث ساعات في مئتي صفحة. القصة الثانية «كانتيفرستان» أصبحت كودًا أدبيًا لمفهوم عدم التواصل والتيه في الغربة.


يوهان بيتر هيبل، عن wikimedia

لقاء لم يكن في الحسبان

قبل خمسين عامًا ونيف، في فالون بالسويد قبَّل عامل منجم عروسه الشابة البهية وقال لها: «في عيد (سانتا لوسيا) ستبارك يد القس حبنا. ثم نصبح زوجين ونبني عشنا الصغير». فأردفت العروس الجميلة وهي تبتسم برضا: «وليكن للسلام والحب موطن فيه، لأنك حبي الوحيد وإنني لأفضل الموت على الحياة دونك». لكن قبل عيد «سانتا لوسيا» وعندما نادى القس في الكنيسة بحضورهما: «من كان لديه اعتراض على زواج هذين الشخصين، فليتكلم»، كان الموت هو المجيب. فعندما مر الشاب في الصباح التالي مرتديًا ملابس عمال المناجم السوداء- ومعروف أن عامل المنجم يرتدي دائمًا كفنه- دق على نافذتها وقال لها صباح الخير ولكنه لم يقل لها مساء الخير قط. فهو لم يعد من المنجم مطلقًا وبلا جدوى أخذت هي تحيك له في اليوم ذاته شالًا أسود طرزته بحواف حمراء لكي يرتديه يوم الزفاف، ولكن عندما لم يعد، نحت الشال جانبًا، وأخذت تبكي عليه ولم تنسه قط. في غضون ذلك دمر الزلزال مدينة لشبونة وانقضت حرب السنوات السبع ومات إمبراطور النمسا فرانز الأول ومُنعت طائفة اليسوعيين وقُسمت بولندا وماتت الامبراطورة ماريا تريزا وفي الدانمرك أُعدم الطبيب والوزير ذو النفوذ شتروينزيه وتحررت أمريكا ولم تتمكن القوات المتحدة الفرنسية والإسبانية من الاستيلاء على جبل طارق، وحاصر الأتراك الجنرال شتاين في كهف فيتراني الواقع على ضفة الدانوب بالمجر، ثم مات الإمبراطور يوزف أيضًا، واحتل العاهل السويدي الملك جوستاف الشطر الروسي من فنلندا وبدأت الثورة الفرنسية والحرب الطويلة ووُري الإمبراطور ليوبولد الثاني الثرى. واحتل نابليون بروسيا وقصف البريطانيون كوبنهاجن، وبذر الفلاحون وحصدوا وطحن الطحانون واستمرت مطارق الحدادين في الدق وواصل عمال المناجم حفرهم بحثًا عن عروق المعادن في باطن الأرض. لكن في عام 1809 ربما قبل عيد يوحنا المعمدان أو بعده، وأثناء ما كان عمال المنجم في فالون يسعون لحفر فتحة بين منجمين على عمق ثلاثمائة ذراع تحت الأرض، استخرجوا من وسط الحطام والمياه الكبريتية جثة شاب غمرتها كبريتات الحديد لكنها بخلاف ذلك لم تتحلل ولم تتغير، أي أنه كان بإمكانهم التعرف بجلاء على ملامح وجهه وتقدير عمره، وكأنه مات قبل ساعة أو غفا قليلًا أثناء العمل. لكن عندما أخرجوه من باطن المنجم كان أبواه وأصدقاؤه ومعارفه قد ماتوا منذ زمن بعيد، ولم يتعرف أحد على الشاب النائم ولا عرفوا ببلوته، حتى جاءت خطيبة عامل المنجم الذي ذهب في ذات يوم إلى وردية العمل ولم يعد. جاءت إلى الميدان متكئة على عكاز بقامة محنية وقد علا الشيب رأسها، وبسعادة غامرة فاقت ألمها، هوت على جثمان حبيبها، وبعد أن أفاقت من جيشان مشاعرها نطقت أخيرًا: «إنه خطيبي الذي حزنت عليه خمسين عامًا بأكملها والذي شاء الله لي أن أراه قبل خاتمتي. قبل ثمانية أيام من عرسنا ذهب إلى باطن الأرض ولم يعد منها ثانية». عندئذ غمرت مشاعر الأسى الجموع المحيطة بالجثمان وطفرت دموعهم إذ رأوا العروس عجوزًا ذابلة وواهنة والعريس في نضرة شبابه، ورأوا حب صباها تشتعل جذوته من جديد، من دون أن يفتر ثغر الشاب بابتسامة أو يفتح عينيه ليتعرف عليها، وكيف أنها جعلت عمال المنجم ينقلونه إلى بيتها بوصفها قريبته الوحيدة، التي لها الحق في الاحتفاظ بجثمانه حتى يتم الانتهاء من تجهيز قبره. في اليوم التالي وعندما جاء عمال المنجم ليحضروه، فتحت صندوقًا صغيرًا ثم وضعت الشال الحريري الأسود ذا الحواف الحمراء حول رقبته ورافقت جثمانه مرتدية ثياب يوم الأحد وكأن اليوم هو يوم عرسها وليس يوم دفنه. وأثناء دفنه قالت مخاطبة إياه: «فلتهنأ بالنوم في سرير العرس البارد يومًا أو عشرة ولا تمل، فلدي أشياء قليلة أنجزها ثم آتي إليك بسرعة وقريبًا سيكون عرسنا- ما أخرجته الأرض من جوفها ذات مرة، لن تبخل في إخراجه مرة أخرى». قالت ذلك أثناء انصرافها ثم التفتت إليه مرة أخرى.


كانيتفيرستان

غالبًا ما تسنح للإنسان في كل يوم وفي كل مكان سواء كان قرية صغيرة كجوندلفينجن أو مدينة كبيرة كأمستردام فرصة التأمل في زوال المتاع الدنيوي، إذا ما رغب في ذلك وأراد أن يرضى بقدره، حتى لو لم يتوفر له الكثير من رغد العيش. لكن عاملًا متجولًا ألمانيًا توصل إلى إدراك هذه الحقيقة في أمستردام بطريق الخطأ. إذ أنه عندما جاء إلى هذه المدينة التجارية الغنية ببيوتها الفخيمة وسفنها المتهادية وأهلها ذوي الهمة والنشاط، وقع بصره على الفور على بيت كبير جميل لم ير له مثيلًا خلال ترحاله من بلدته دوتلينج إلى أمستردام. أخذ يتأمل هذا البنيان الرائع بمداخنه الست فوق السطح، والنوافذ الجميلة العالية ذات الأفاريز، التي تفوق في علوها باب بيت أبيه في دوتلينج. عندئذ لم يستطع أن يمنع نفسه من مخاطبة أحد المارة قائلًا: «صديقي العزيز، هل من الممكن أن تخبرني باسم مالك هذا البيت الرائع ذي النوافذ المزينة بزهور الزنبق والنجمة والمنثور؟» لكن الرجل الذي كانت لديه على الأرجح مشاغل كثيرة ولم تتعد معرفته بالألمانية معرفة سائله بالهولندية، أي أنه لا يفهمها مطلقًا، قال باقتضاب ووجوم: "كانتيفيرستان"[1] وواصل سيره. كانت تلك كلمة هولندية أو بالأحرى ثلاث كلمات إذا تأملناها على نحو صحيح وهي تعني بلغتنا الفصيحة: لا أستطيع فهمك. لكن الرجل الغريب الطيب ظن بأنه هذه الكلمة هي اسم الرجل الذي سأل عنه. ودار برأسه أن السيد كانيتفيرستان رجل لا بد واسع الثراء، ثم واصل سيره، وأخذ يجوب الشوارع والأزقة حتى قادته قدماه في النهاية إلى الخليج البحري المسمى هناك Het EY أو حرف Y وهناك تراصت السفن الراسية بصواريها الضخمة إلى جانب بعضها البعض. وفي البداية احتارت عينا صديقنا وهي تتأمل كل هذه العجائب ولم تشبع من تأملها إلى أن جذبت انتباهه سفينة كبيرة وصلت قبل قليل من الهند الشرقية وتم البدء للتو في تفريغ حمولتها، وعلى رصيف الميناء تراصت صفوف من الصناديق والبالات إلى جانب بعضها البعض وانقلب العديد منها وتكشفت براميل مليئة بالسكر والقهوة الأرز والفلفل وتحتها، حاشاكم، روث الفئران. بعدما أطال النظر إلى هذه الأشياء، توجه أخيرا بسؤال إلى رجل كان يحمل صندوقًا على كتفه، عن الرجل المحظوظ الذي جلب له البحر كل هذه البضائع، وكانت الإجابة «كانتيفيرستان». فقال لنفسه يا سلام، أليس هذا أمرًا واضحًا تمامًا؟ لا عجب أن يكون ذاك الذي يجلب له البحر كل هذه الخيرات، هو نفسه الذي يبني تلك البيوت ويزينها بزهور الزنبق في أصصها الذهبية. بعد ذلك عاد أدراجه وغرق في حزن شديد عندما تأمل كم هو فقير وسط الأغنياء الكثيرين في هذا العالم. ولكن فيما هو يحدث نفسه قائلًا: آه، لو تيسر لي أيضًا ذات مرة أن أصبح غنيًا مثل هذا السيد «كانيتفيرستان»، وصل إلى ناصية أحد الشوارع ورأى موكب جنازة كبيرة. أربعة خيول سوداء برؤوس مغطاة تجر ببطء وحزن عربة لنقل الموتى مكسوة أيضا بالسواد، وكأن الخيول تدرك أنها تنقل ميتًا إلى مثواه الأخير. وتبع العربة موكب طويل من أصدقاء ومعارف المتوفى، ساروا أزواجًا أزواجًا صامتين وقد تلفحوا بمعاطف سوداء. ومن على البعد دق جرس كنيسة وحيد. وغمر صديقنا الغريب شعور بالأسى، ينتاب أي إنسان طيب عندما يرى جثمان ميت، وظل واقفًا في خشوع وقبعته في يده، حتى انتهى مرور الموكب. لكنه تبع رجلًا كان يسير في ذيل الموكب، ويحسب ما الذي يمكن أن يكسبه من قطنه إذا ما أضاف عشرة جولدنات لسعر القنطار الواحد، وأمسكه بلطف من معطفه، واستسمحه متسائلًا بإخلاص: «لا بد أنه كان صديقًا عزيزًا عليكم، ذاك الذي يدق له جرس الكنيسة، ولذلك تسيرون في الموكب بحزن وكدر». وكانت الإجابة «كانيتفيرستان». عندئذ سالت دموع صديقنا القروي الطيب وأحس بكآبة تبعها ارتياح. وصاح قائلًا: «مسكين يا كانيتفيرستان، ماذا أخذت الآن من غناك، وماذا أخذت أنا من فقري. كفن.. مجرد كفن، ومن كل زهورك الجميلة لن تنال ربما سوى غصن من إكليل الجبل أو سعفة نخل على صدرك». بهذه التأملات رافق موكب الميت إلى المقبرة وكأنه من أهله ورأى السيد «كانيتفيرستان» المزعوم وهو يهبط إلى مرقده الأخير، وتأثر بشدة من عظة الدفن الهولندية التي لم يفهم منها كلمة واحدة، أكثر من تأثره بمثيلاتها الألمانية التي لم يول لها أي اهتمام. وأخيرَا انصرف مع الآخرين بقلب مرتاح، وفي نُزل يتحدثون فيه الألمانية أكل بشهية طيبة قطعة من الجبن الألماني، وكلما راوده الإحساس بالحزن لوجود الكثير من الأغنياء في هذا العالم فيما هو فقير جدًا، فكر في السيد «كانيتفيرستان» في أمستردام، وتذكر بيته الكبير وسفينته المليئة بالثروات، وأيضا قبره.


[1] kannitverstan