لم لا ترقصان

قصة لريموند كارفر

ترجمة: محمد عبد النبي

اقرأ المزيد من قصص ريموند كارفر على هذا الرابط

يحتفظ المسؤول عن الملف بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بالترجمات دون إذن منه.


في المطبخ، صَبَّ شرابًا آخر ونظر إلى أثاث غرفة النوم في باحته الأمامية. كانت المرتبة عارية والملاءات المخططة مطروحة بجانب وسادتين على الشيفونيرة. باستثناء هذا فقد بدت الأشياء إلى حدٍ كبير كما كانت تبدو في غرفة النوم-كُمودينو ومصباح قراءة على جانبه من السرير، كمُودينو ومصباح قراءة على جانبها من السرير.

جانبه، جانبها.

راح يفكر في هذا بينما يرشف الويسكي.

انتصبتْ الشيفونيرة على مسافة أقدام معدودة من طرف السرير. لقد أفرغ الأدراج في كراتين ذلك الصباح، وكانت الكراتين في غرفة المعيشة. إلى جانب الشيفونيرة مدفَأة يمكن نقلها. عند طرف السرير كرسي خيزران عليه وسادة للزينة. أمَّا أدوات المطبخ الألمونيوم اللامعة فقد شغلت جزءًا من ممر السيارات. مفرش أصفر من الموسلين، أكبر من اللازم، هدية، غطَّى المائدة وتدلى من الجوانب. كانت على المائدة نبتة سرخس في أصيص، وعلى مسافة بضعة أقدام من هذا انتصبت أريكة ومقعد وأباجورة طويلة. دُفعَ المكتب إلى باب المرأب. على المكتب أوانٍ قليلة، إلى جانب ساعة حائط واثنين من الصور المطبوعة المؤطَّرة. في ممر السيارات كذلك كرتونة فيها أكواب، وكؤوس، وأطباق، كل شيء ملفوف في ورق الصحف. ذلك الصباح كان قد نظَّف الخزائن، وفيما عدا الكراتين الثلاث الموجودة في غرفة المعيشة، كانت جميع محتوياتها خارج البيت. مدَّ سلك توصيلة للخارج فأصبحت كل الأجهزة موصولة. كلها كانت تعمل، دون أي فَرق عمَّا كانت عليه حين كانت في الداخل.

بين الحين والآخر تبطئ سيارة من سَيرها ويحدّق أشخاص. لكنَّ أحدًا لم يتوقَّف.

خطر له أنه هو أيضًا لو كان مارًّا لما توقَّف.

قالت الفتاة للفتى:  «لا بدَّ أنهم يبيعون أشيائهم القديمة».

هذه الفتاة وهذا الفتى كانا يؤثثان شقة صغيرة.

قالت الفتاة: «تعالَ نرى كم يريدون مقابل السرير».

قال الفتى: «وَكَم للتليفزيون».

دخل الفتى بالسيارة من ممر السيارات ثم أوقفها قُبالة مائدة المطبخ.

خرجا من السيارة وبدآ يتفقَّدان الأغراض، لمستِ الفتاة مفرش الموسلين، أوصلَ الفتى الخلَّاطَ بالتيار الكهربائي وضغط زِر فَرْم، التقطت الفتاة وعاءً حراريًا له موقد غازي، أدارَ الفتى جهاز التليفزيون وأخذ يضبطه قليلًا.

جلس على الأريكة ليتفرَّج. أشعل سيجارة، تطلَّع حوله، نتر عودَ الثقاب في العُشب.

جلستِ الفتاة على السرير. خلعت نعليها ورقدت على ظهرها.  ظَنَّت أنها تستطيع أن ترى نجمة.

قالت: «تعالَ هنا يا جاك، جرب هذا السرير. هات واحدة من تلك المخدات».

قال:  «ما حالته؟»

قالت: «جربه».

تطلَّع حوله. كان المنزل مُظلمًا.

قال: «لستُ مُرتاحًا. الأفضل أن نرى هل هناك أحدٌ بالبيت».

أخذت تنطّ على السرير.

قالت: «جرّبه أولًا».

رقدَ على السرير ووضع الوسادة تحت رأسه.

قالت: «ما رأيك؟»

قال: «متين».

تَقلَّبتْ على جانبها ووضعت يدها على وجهه.

قالت: «قبّلني».

قال: «لننهض».

قالت: «قبّلني».

أغمضت عينيها.  ضمَّته إليها.

قال: «سأرى إن كان هناك أي شخص بالمنزل».

لكنه اكتفى بالجلوس مُعتدلًا حيث كان، متظاهرًا بأنه يشاهد التليفزيون.

أضاءت  أنوار المنازل على اليمين وعلى اليسار.

«لن يكون من المضحك لو ...» قالت الفتاة وابتسمت ولم تكمل.

ضحك الفتى، مِن غير سبب محدَّد. ومِن غير سببٍ مُحدَّد أضاء مصباح القراءة.

أبعدت الفتاة بعوضةً بيدها، وَهُنا نهضَ الفتى واقفًا وسوَّى قميصه بداخل سرواله.

قال: «سأرى إن كان هناك أي شخص بالبيت، لا أظن أنه يُوجد أي شخص. لكن إذا كان هناك أي شخص، سأرى إلى أين تمضي الأمور».

قالت:  «أيًا كان ما يطلبون نزّل السعرَ عشرة دولارات.  إنها فكرة جيدة دائمًا،  وإلى جانب هذا، لا بدّ أنهم يائسون أو شيء كهذا».

قال الفتى: «جهاز التليفزيون حالته جيدة جدًا».

قالت الفتاة: «اسألهم بِكَم».

اقترب الرجل سائرًا على الرصيف ومعه كيس من السوق. أحضرَ ساندوتشات، بيرة، ويسكي. رأى السيارة في الممر والفتاة على السرير.  رأى جهاز التليفزيون مفتوحًا والفتى على الرواق الأمامي للمنزل.

قال الرجل للفتاة: «مرحبًا، لقد عثرتِ على السرير. هذا جيّد».

قالت الفتاة: «مرحبًا»، ونهضت.  «كنتُ أجربه فقط». ربَّتت على السرير «سرير جيد جدًا».

«إنه سرير جيد»، قال الرجل، ووضع الكِيس وأخرج منه البيرة والويسكي.

قال الفتى: «ظننا أن لا أحد هنا، إننا مهتمان بالسرير وربما بالتليفزيون. ربما المكتب أيضًا. كم تريد مقابل السرير؟»

قال الرجل: «كنتُ أفكر في خمسين دولارًا مقابل السرير؟»

قالت الفتاة: «أترضى بأربعين؟»

قال الرجل: «أرضى بأربعين».

أخرج كأسًا من الكرتونة. أزالَ ورقَ الصحف عن الكأس. خلع سدادة زجاجة الويسكي.

قال الفتى: «ماذا عن التليفزيون؟»

«خمسة وعشرين».

فقالت الفتاة: «أترضى بخمسة عشر؟»

فقال الرجل: «لا بأس بخمسة عشر.  أرضى بخمسة عشر».

نظرت الفتاة إلى الفتى.

قال الرجل: «يا شباب، ستحتاجان لشراب. الكؤوس في تلك الكرتونة.  أنا سأقعد، سأقعد على الأريكة».

جلس الرجل على الأريكة، واضطجع، وحدَّق في الفتى والفتاة.

وجد الفتى كأسين وَصبَّ ويسكي.

قالت الفتاة: «هذا كافٍ، أظن أنني أريد ماءً عليه».

جرَّت مقعدًا وجلست إلى مائدة المطبخ.

قال الرجل: «يوجد ماء في ذلك الصنبور الذي هناك، افتح ذلك الصنبور».

عاد الفتى بالويسكي المخفف بالماء.  تنحنح وجلس إلى مائدة المطبخ.  ابتسم. لكنه لم يشرب أي شيء من كأسه.

حدَّق الرجل في التليفزيون.  أنهى مشروبه وبدأ آخر.  مدَّ يده ليضيء الأباجورة  ذات القائم.  حدثَ عندئذٍ أن أفلتت سيجارته من بين أصابعه ووقعت بين الوسائد.

نهضت الفتاة للمساعدة في العثور عليها.

قال الفتى للفتاة: «إذن ما الذي تريدينه؟»

أخرجَ الفتى دفتر الشيكات ورفعه أمام شفتيه كما لو كان يفكر.

قالت الفتاة: «أريد المكتب؟ المكتب بِكَم مِن المال؟»

لوَّح الرجل بيده إزاء هذا السؤال السخيف.

قال: «قولا رقمًا».

نظر إليهما وهما جالسان إلى المائدة. في ضوء الأباجورة، كان هناك شيءٌ ما في وجهيهما. كان لطيفًا أو كان كريهًا.  مِن المستحيل معرفة ذلك.

قال الرجل: «سوف أغلق التليفزيون وأدير تسجيلًا موسيقيًا، هذا المسجّل سوف يروح أيضًا.  رخيص. قدِّما لي عَرضًا».

صبَّ مزيدًا من الويسكي وفتحَ بيرة.

قال الرجل: «كلُّه سيروح».

قدمت الفتاة كأسها وصبَّ الرجل لها.

قالت: «شكرًا لك». قالت: «أنت لطيفٌ جدًا».

قال الفتى: «إنه يخبط الرأس مباشرةً، أشعر به يلعب برأسي الآن». رفعَ كأسه ورجَّها.

أنهى الرجل شرابه وصبَّ آخر، وعندئذٍ وجد صندوق الأُسطوانات.

قال الرجل للفتاة: «اختاري شيئًا»، وهو يمسك بالأسطوانات أمامها.

كان الفتى يُحرر الشيك.

«هذه»، قالت الفتاة، مُنتقية أسطوانة، أي واحدة، فهي لم تكن تعرف الأسماء الموجودة على أغلفة تلك الأسطوانات.  نهضت من على المائدة ثم جلست من جديد. لم تشأ أن تبقى ساكنة.

قال الفتى: «سأحرر الشيك لحامله».

قال الرجل: «أكيد».

شربوا.  استمعوا إلى الأسطوانة.  وبعدها وضع الرجل أسطوانة أخرى.

لمَ لا ترقصان يا شباب؟ قرّر أن يقول لهما ذلك، ثم قاله. «لمَ لا ترقصان؟»

قال الفتى: «لا أظن ذلك».

قال الرجل: «هيا، انطلقا، إنها باحتي.  يمكنكما الرقص إذا أردتَما».

بأذرع مُلتفة حول أحدهما الآخر، وبجسدين مضغوطين معًا، أخذ الفتى والفتاة يتحركان على طول ممر السيارات. كانا يرقصان.  وحين انتهت الأسطوانة، أدارا أخرى، وحين  انتهت هذه، قال الفتى: «أنا سكران».

فقالت البنت: «لستَ سكران».

فقال الفتى: «لا، أنا سكرت بجد».

أدار الرجل الأسطوانة مجددًا وقال الفتى «سكرت».

«ارقص معي»، قالتها الفتاة للفتى ثم للرجل، وحين نهض الرجل واقفًا، اقتربت منه بذراعين مفتوحتين على اتساعهما.

قالت: «أولئك الناس هناك، يتفرجون علينا».

«لا بأس»، قال الرجل. «إنه بيتي».

قالت الفتاة: «دَعهم يتفرَّجون».

قال الرجل: «صحيح، إنهم يحسبون أنهم قد رأوا كل ما يمكن أن يروه هَهُنا، ولكنهم لم يروا هذا مِن قبل، صَح؟» 

أحسَّ أنفاسَها على عنقه.

قال: «أتمنى أن سريرك يُعجبك».

أغمضت الفتاة عينيها ثم فتحتهما. دفعت وجهها نحو كتف الرجل. جذبته أقرب إليها.

قالت: «لا بدَّ أنك يائس أو شيء كهذا».

بعد أسابيع، قالت: «كان الرجل في منتصف العمر تقريبًا.  جميع ممتلكاته موضوعةٌ هناك في باحته.  لا كَذب. سكرنا طِينة ورقصنا. في ممر السيارات. آخ، يا ربي.  لا تضحكوا. شغَّل لنا ثلاث أسطوانات.  انظروا إلى مُشغل الأسطوانات هذا. أعطاه ذلك العجوز لنا. وكل هذه الأسطوانات المقرفة. فقط انظروا إلى هذا الخراء».

ظلَّت تتحدث. أخبرت الجميع. كان هناك المزيد بهذا الشأن، وقد حاولت أن تجده وتقوله. بعد وَهلة، كَفَّت عن المحاولة.